كاظم حسن سعيد - (جئنا لنحضر مأتما لسوق عريق)

اليوم مختلف , حقا مختلف , منذ سنوات كنت وصديقي نتواجد هنا , لنكتشف الجمال الخفي في السوق القديم .. الزخارف في بيوت الشناشيل القديمة ومطارقها النحاسية , تكية منسية ,اثريات ,مقهى نتربع فيه على الحصران , اطلال لبيوت عتيقة تضيع في تجاويفها رسائل العشاق , قباب الجوامع و المراقد المتوارية .
اما اليوم فمختلف ..قلت له (الا نمضي فنلقي اخر النظرات على سوق يندثر ..). كانت الجرافات قبل ايام قد عملت تلالا من الحجر وبقايا الصفيح والقضبان والانابيب المتقاطعة..وقطع الملابس المستعملة التي كانت تباع هنا ..
صاحبي موهوب بروح الفكاهة .. بامكانه ان يولد فيك ضحكة وانت في حضرة الموت ان شاء , لكنه لا يفعل هذا بكل وقت ,ربما رفقتي معه تحفزه , وقبل ان نغادر العجلة قال شاب نقرته مخالب الفقر (والله ضاعت ).. كان يتحدث لجاره في الكرسي فنغزت صاحبي فالتقطها والتفت لي بعينين ضاحكتين ثم استدار للشاب يستنطقه (أي ! وشنو ضاع منك ) فاجابه هذا (صرة ملابس نسيتها في السيارة ) فقال له صاحبي مبتسما (هاي مصيبة )..فاكمل الشاب (هي لم تنبهني عليها انقطع سبيل المعروف ) وتواصلا حوارا , خلالها كنت امسك بطني ضحكا مهموسا, وفيما صاحبي يواسيه التفت اليه قائلا (انت احمق واثول .. المرأة ما ذنبها وهل كفيلة بك ) قالها بصوت حاد ونحن نكاد ننفجر ضحكا حتى غادرتنا الكية .
وكطبعنا لا نترك شيئا الا وصهرناه في بودقة التحليل , قال صاحبي (ربما يريد استدرار عطفنا لنساعده) فاجبته <الانسان بحاجة للتبرير بطبعه وقد يبتكر مسببا لخطأ هو ارتكبه ,ولا ذنب للاخرين ..كما كانت بطلة ماركيز في الحب زمن الكوليرا) ..
مررنا على كهل يبيع ملتقطات الزبل على صندوق كارتون مقوى.. ومنها مداليات لملوك ومحابس ومسبحات فانحنينا لنلمس فلاذ عن بسطته بكلتا يديه (لا... اريد ارتب بسطتي )... كان يزحزح صندوقه .. فلمست مدالية وقلت هذا أي ملك ؟فصاح : (انعل ابو الملك اخبرتكم لا تلمسوا حتى اعدل وضعي ).. كأنه كان يحمي كنزا .. يا للمسكين ..اتوقع حتى الغروب لا يربح اكثر من سعر لفتين وفنجان شاي وعلبة سجائر واجرة للرجوع ..
كانت مقهانا المفضلة التي اسميناها (العقال ) ضاجة ,و لان هذه المقاهي بلا عناوين وتنتشر غالبا في الهواء الطلق فكان لا بد ان نبتكر لها اسماء .. تخت واربعة كراسي بلاستيكية مخضرة صفت على حائط قديم ..الشاي فيها يحضر بعناية ومهيل ورخيص السعر وصاحبها الشاب بشوش وودي ..يقصدها اناس يبعثون الريبة وكبار السن : متقاعدون او ضائعون ومجانين .. فيزهرون فيك الماضي بذكرياتهم عنه .. تسمع برؤساء البلد والانقلابات والبطولات وظلمة السجون والمعاناة من زوجاتهم او ابنائهم..... احد يكرر ثلاثة مرات على مسمع صاحبه ( دفعت عنك فلا تدفع ) قال صديقي < ما بالها يكررها هل دفع الملايين .. فضحكنا .. قدم لنا شاب يحدّث مظهره بصورة غير لائقة متوقعا انه شاب معاصر بمظهره المقزز ...لقطه صاحبي وعلق عليه ضاحكا .. اما انا فقد التقطت شابا مسحوقا اخر يبدو مسودا كطينة معتقة خربة \الصيان \ برأس كروي صغير , قلت له (هذا تمثال بشري ) وضحكنا ..
في وسط سوق البصرة حيث اعولت الجرافات من خمسة ايام لتحديث اقدم سوق , كان البقالون جزعين وثائرين يدمدمون مع انفسهم (|اين نمضي ) ..هياكل بسطاتهم ازيلت فافترشوا الارض او عملوا شبه خيم مصغرة او استعاضوا عنها بصناديق خفيفة .الصدمة قوية الوقع عليهم ولم تبرد ثورتهم سيهدؤون غدا ربما اما الان حيث وصلنا فكانوا في قلب الغليان ..ومررنا على سوق الملابس المستعملة ولكثرة العباءات السود غادرناه سريعا قيل لنا غدا سيزال ..وصلنا سوق الاكباد والعظام والقلوب التي لن يمسها عشق محمرة يقطر من بعضها الدم يستعرضون بخط مستقيم فسألناهم قالوا (لا احد يدري وسمعنا ان مجاري ستنصب هنا ومقرنصات ).. كانوا قلقين ومتجهمين ..
بدات اول الاطلال .. هنا كانت تباع خراف وامامها الشعير والاعشاب .. حجر على حجر ,وانبوب مستهلك يقاطع اخر , تلال صغيرة من التراب ,تنتفخ كلما تقدمنا ,خلال ذلك نحلل فقلت له (المساكين اصحاب البسطات اين يمضون ؟!فقد ازيلوا ) فاجابني
ـ يا اخي الى متى تبقى هذه القمامة والقذارة لا بد من ازالتها .
ـ لكن كيف سيكون من ازيلت بسطته وبكر بلا رغيف
ـ لا بد من التضحية رغم انهم فقراء
رفع صاحبي المبايل ليصور فصاح احدهم (ماذا تصور )..ورغم ان هوية الصحفيين بجيبي الا اني كنت حذرا فصورت تلة تراب وحجر نقشت بقايا الملابس والخرق عليها , غالبا يطغي اللونان الاخضر والاسود.. مع هذا صوّت من بعيد رجل ظهرت في صوته السخرية (هم تصور ؟..!).
مقهى العالم
ــــــــــــــــــ
اتحسبها مقهى وقد جذبك الاسم .. انها عربة عتيقة طليت بالازرق مرتفعة تستقر مشرفة على مفترق ازقة ضيقة معبدة خلفها محلان للحلاقة وامامها صيدليتان .. ولان عيادات الاطباء قربها ومحالا متنوعة ومن غربها بيوت الشناشيل الضاجة \ التي كانت ميدانا لبائعات الهوى \ فان السيل البشري يجري متدفقا بقوة ..
لحظت كلبا ينام بعمق وسط الضجيج بظل عجلة ... ظننته لا يتحرك ولو اطعمته بحجر .. وقطة صغيرة مرقطة مرت باتجاه عربة الشاي ثم غفلة نشبت بربلتي رجلي ...كرسيان : متحرك معطل واخر من البلاستك الاخضر .. وبعدما استقر بنا الجلوس .. قال صاحبي (انظر هذه الجالسة تتصدر باب الصيدلية كأنها صقر وبومة ) فنظرتها حقا بشكل صقر .. لكنها متجهمة جدا رغم ان وجهها شامخ ..وقلت له انظر ذلك في محله شاب منهمك بالهاتف ويلعق شفتيه ماذا يرى ؟! فقال انتبه لذاك هومصلح مكيفات يعدل من حاجبيه وقد تخطى الخمسين ..ويتواصل السيل البشري : عجائز مسنون شبان باجسام رياضية مراهقات يلذن بامهاتهن محجبات ...ولا احد يبتسم .. الوجوه محدقة بغضب او ناظرة للارض بوجوم .. ونحن نلتقطها كلها ونعلق عليها كلها .. قارئين الوجع وراء ذلك والحروب المنوعة والمتسلسلة وملحمة الفقدان ..وافتقار الارواح الى ينبوع البهجة ويد الامان.

كاظم حسن سعيد\ العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى