كنانة عيسى - الوجودية الجديدة.. قراءة في نص (الطائر الزئبقي) للكاتب أحمد علي بادي:

الطائر الزئبقي، نص شديد الذاتية ابتعد عن الفلسفة الوجودية المحضة والبحث عن الأنا، واسترسل ببساطة اللغة والفكرة نحو ترميز البحث عن الهوية الجديدة، و احتواء الاغتراب ضمن روتين طمس الهوية الداخلية بتوازن نفسي وتقبل َمحايد لا يعَوره
ندم ولا شوق ولا لهفة،فالانزعاج صباحي تتكفل (الزوجة الكندية) بطمس أثره و بطريقة أمومية ساخرة
و واثقة وشديدة البرودة والاستفزاز.
أما الراوي المتكلم، فيحول مشاعره الخبيئة القلقة بشأن كينونته الآخذة بالاضمحلال تدريجياً لطائر خرافي أخذ تفاصيله من مخلوقات أسطورية هجينة(أجنحة النسر الذهبي) (الرخ) ، فلا هوية له كذلك.فالانتماء يضمحل داخليًا كفكرة،ثم يلوك نفسه كرمز ويتحول اجترارًا لوهم لا طائل منه في طريقه للتلاشي والاندثار.
منظور مختلف للمغترب المعاصر (الزئبقي) ، السعيد تماما بغربته و بجنسيته الجديدة وزوجته التي تكفلت بمحو انتمائه الذي قد يسبب له الإزعاج الصباحي المتواتر.فهو يتماهى بمحو مشاعره الدفينة بالتأكيد على عنصر الإيهام وتبنيه. والحوار السردي استطاع تأكيد ذلك ببساطته، وبطئ حركة السرد و ثبات المشهدية( روتين مراقبة النافذة و تكرار الاستيقاظ الصباحي وتناول الإفطار مع الزوجة ) ودلالة العنوان الساخر الدال على الانتهازية والنرجسية واستغلال الفرص ،فقلة من يستطيعون كبح مشاعر الانتماء في الأوطان الجديدة إلا المتنكرون لذواتهم و جوهرهم و ماهيتهم.
يتجاهل الراوي مشاعره النهائية بإصرار، ويعلن انصياعه لهيمنة المواطنة الطازجة المتعالية، مضمرَا قلق أصوله برفض واضح لا يتعدى شعور الإزعاج اليومي الذي سيزول تلقائيًا لتفاهته، فالانتهازي الاستغلالي لن يبحث عن ميكيافيلية جديدة بل سيسقطها على أجنحة طائر خرافي سيتكفل بإلغاء المشهد تدريجيًا وللأبد.

كنانة عيسى



>>>>>>>>>


الطائر الزئبقي

أتذكر أول مرة بدأ فيها بإزعاجي، وقتها استطاع بصوت نقراته انتشالي من غيابة النوم العميق، فأسرعت نحو النافذة لأزيح عنها الستائر وأرى من وراء ذلك، بدا لي طائرا غريبا ومألوفا في وقت واحد؛ كان له منقارٌ كأنه المنجل، وجسدٌ في حجم ولون الغراب، وجناحان حين يفردهما يضاهيان جناحي نسر ذهبي، أما عيناه فكانتا واسعتين بارزتين لونهما يذكّر بلون أمواج البحر.
في تلك اللحظة انتبهت لي زوجتي الكندية وقالت وهي تنظر إلي في نصف إغماضة وما تزال ملتصقة بالفراش:
-لم أنت هناك؟
قلت لها بصوت رسمت ملامحه الدهشة:
-طائر عجيب كان ينقر بشكل قوي على النافذة، حتى خشيت أن يلقي بزجاجها على الأرض.
فأسرعت بالنهوض تاركة السرير حتى إذا أصبحت إلى جواري، أخذت تنظر من النافذة وتسأل في فضول واستغراب:
-أين هو؟
-لقد طار بسرعة.. لا أعرف أين ذهب!
رددت عليها وعيناي في تلك اللحظة كانتا قد تحولتا أيضا إلى طائرين صغيرين يدوران في السماء.
حينها ألقت بذراعها العارية على كتفي وقالت وهي ترسم ابتسامة رقيقة على فمها:
-إذن صفه لي.
عادت عيناي من السماء لتحطاعلى وجهها الذي لم يزل مشرقا بابتسامتها، ورحت أصفه لها حتى إذا قلت أن لون عينيه يشبه لون عينيها، توسعت ابتسامتها إلى أن تحولت قبلة على خدي ثم دعتني للعودة إلى السرير، فاستجبت لها؛ كان النوم مازال يتشبث بجفوني من أثر سهرة الأمس التي امتدت حتى وقت متأخر من الليل وكانت احتفالا بمناسبة حصولي على جنسيتي الجديدة.
وفي اليوم التالي، جاء أيضا وأيقظني بصوت نقراته، فما كان مني إلا أن أيقظت زوجتي:
-ألِيس! يبدو أنه طائر الأمس هل تسمعين صوت نقراته؟
أخذتني الدهشة حين ردت زوجتي قائلة وهي تحاول تحسس الصوت وتعقد حاجبيها متعجبة:
- لا أسمع أي صوت؟
-كيف لا تسمعينه وصوت نقراته يكاد يثقب أذني؟!
قلت مستنكرا، فابتسمت في وجهي قائلة:
-لابأس، لنذهب سويا لمشاهدته.
-نعم.
قلت لها موافقا.
وعند النافذة، طلبت منها إزاحة الستائر برفق وأنا أهمس لها:
-مازال ينقر على الزجاج، هل تسمعينه الآن؟
ردت بنفس صوتي الهامس:
-غريب.. لا أسمع! لكن لنر.
وما أن أزاحت الستائر حتى أشرع جناحيه وطار بشكل خاطف، عندئذ صرخت وكأني طفل يشاهد شيئا مشوقا:
-لقد طار، هل رأيته؟
عادت تدحرج نحوي نظرات استغراب:
-لم أشاهد أي طائر!
ثم أردفت وهي تضع يدها على كتفي:
-قد تكون متعبا يا عزيزي، عد للنوم وحاول أن تنسى الأمر.
خجلت من زوجتي وقلت لها ودوامة الدهشة تدور بي:
-يبدو ذلك!
وعاد مجددا في اليوم الثالث، لكني ظللت فقط أستمع إلى نقراته حتى توقف عنها بعد مدة ليعقبها صوت خفقة جناحيه فأدركت أنه قد طار.
يومئذ انتظرت حتى جلست زوجتي معي على مائدة الإفطار فقلت لها، وأنا أصطنع صوتا صاخبا ممتزجا بالضحك:
-كم كنت محقة يا عزيزتي! يبدو أني كنت متعبا في اليومين السابقين، اليوم لم أسمع صوت نقرات ذلك الطائر!
ابتسمت زوجتي وهي تعدل تحتها الكرسي:
-لقد جعلتني أطمئن عليك.
وإلى اليوم.. مازال ذلك الطائر يأتيني مع مخاض السماء وهي تلد يوما جديدا، فيقف عند النافذة ويأخذ بالنقر عليها، لكني الآن صرت أستطيع تجاهله، وغدا إزعاجه لي تفصيلا يوميا اعتدت عليه كل صباح.

أحمد علي بادي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى