أمين الزاوي - من الكاتب المؤسسة إلى الكاتب المقاولة

[كثير من النصوص الأدبية التي تقدم في البرامج المدرسية من الخليج إلى المحيط مبتذلة مليئة بالفصاحة لكن مضمونها خداع ومراوغ]




الكاتب ليس محكوماً عليه العيش فقيراً، والكتابة الأدبية ليست مرادفاً للبؤس.

لكن تاريخياً، وللأسف، ارتبط تحصيل المال لدى الكاتب العربي بمدح السلطان، فالمديح في المخيال الثقافي العربي وأيضاً في المخيال الشعبي العام، بما هو كلام وإنشاء يعبر عن التملق والكذب والمبالغة وتزوير الحقائق، هو الطريق الأكثر نموذجية وعراقة للكسب لدى الكاتب العربي. هناك تاريخ عريق من تذلل الكتّاب.

ولا يزال حتى الآن كثير من النصوص الأدبية التي تقدم في البرامج المدرسية من الخليج إلى المحيط هي نصوص مبتذلة مليئة بالفصاحة والإنشاء البديع، لكن مضمونها خداع ومراوغ، وما زلنا نقرأ في بعض كتبنا المدرسية نصوصاً نعثر فيها على عبارات مستهلكة يقولها السلاطين والخلفاء في حق الشعراء المداحين وفيها من الاحتقار والمهانة كثير، "أعطه ألف دينار!".

كتاب النهضة ومعركة الاستقلالية

جاءت مجموعة من النخب الإبداعية زمن النهضة في القرن الـ 19 وحتى منتصف القرن الـ 20، والمشكلة من مجموعة من المفكرين والأدباء والصحافيين المستقلين فأحدثوا انقلاباً حقيقياً في أبعاد صورة الكاتب.

لقد منحت الأحلام والمشاريع التغييرية التي حملتها الكتابة الجديدة في عصر النهضة استقلالية ولو نسبية للكاتب حيال السلطان.

واستطاعت مجموعة من الكتاب بكاريزما أدبية مميزة وبحدة وعي جمالي وسياسي أيضاً توسيع مسافة مربع الاستقلال فأسسوا عليه عالمهم الخاص بهم كقوة ضاغطة وموجهة للرأي العام، وأيضاً مؤثرة وموجهة للسلطان نفسه، أي القوى السياسية وأصحاب القرار، ولم يكن الأمر هيناً ولم يتحقق ذلك من دون تضحيات إذ تم اغتيال بعضهم وتكفير البعض الآخر وسجن آخرين ونفي البعض الآخر.

وتمثل شخصية طه حسين، على سبيل المثال، نموذج المثقف والكاتب الذي من خلال مساره الإبداعي والفكري والنقدي والمهني أسس لصورة انقلابية للمؤلف تختلف عما كانت عليه صورته عبر التاريخ العربي والإسلامي.

صحيح، لقد عرف تاريخ الثقافة العربية والمغاربية الطويل بعض الحالات الإبداعية والفكرية الاستثنائية التي تمكنت من التحرر من قطيع مثقفي السلطان ومادحي الخليفة ولاحسي صحون موائده، لكن هذه الاستثناءات ظلت في زمنها مهمشة مبعدة عن المركز ومنبوذة من العامة بتحريض من كتاب وفقهاء السلطان، ولم تتمكن في زمانها، على رغم مجهوداتها الجبارة من إسقاط صورة الشاعر المداح الذي ينتظر هبة "الألف دينار ذهباً" من سيده، ولم يتم اكتشاف هذه الاستثناءات ورد الاعتبار لها إلا لاحقاً ومن قبل بعض مثقفي التنوير في عصر النهضة.

في عصر النهضة حاول المثقف العربي والمغاربي ومن داخل فضاء مربع الاستقلالية الذي شيده لتحرير نفسه وتحرير كتاباته أن ينحت لنفسه صورة جديدة بملامح مغايرة استقاها من بعض خصائص ذلك المثقف الاستثنائي المقموع في التاريخ المحلي العربي والإسلامي وأيضاً من بعض خصائص صورة مثقف التنوير في أوروبا التي كان على اتصال بها من خلال ما عرف بالبعثات التعليمية التي انطلقت في نهاية القرن الـ 19 ومن خلال حركة الترجمة، حدث هذا القياس على المقموع العربي من جهة وعلى الآخر الغربي من جهة ثانية في ظل مجتمع كان في حال من البحث عن تجديد في بنية التنظيم السياسي والمؤسساتي، حركة شاملة تمتد من الحزب السياسي إلى قصيدة الشعر الحر، حدث ذلك في رحلة الوعي الشقي والحاد في محاولة للخروج من عصر القبيلة إلى عصر الحزب الوطني بمفهومه الأوروبي أيضاً والخروج من سلطة سيف السلطان إلى سلطة قوانين الدولة والخروج من سلطة بحور عمود الشعر إلى سلطة التفعيلة.

بذكاء إبداعي جديد وبقراءة هادئة لمتقلبات الوضع السياسي والثقافي والتعليمي والإبداعي والمؤسساتي، واستثماراً لحيز الاستقلال الذي بناه، تحول المثقف المستقل ولو نسبياً إلى ما يشبه المؤسسة القائمة بذاتها.

أصبح الكتاب من عيار طه حسين وتوفيق الحكيم وعلي عبدالرازق ومولود معمري وكاتب ياسين ومحمد شكري ونوال السعداوي وأدونيس وغسان كنفاني ومحمود درويش وصادق جلال العظم وغيرهم قادرين على التأثير في صناعة الرأي العام لا صناعة أغنية "مزاج" السلطان أو الخليفة موزع أكياس "الدنانير".

حذار من عودة كاتب موائد السلطان

بقدر ما بعّد كتاب النهضة وتلامذتهم من الجيل الأول والثاني بين قوة الكتابة واستقلاليتها وموائد السلطان وشهية ملذاتها، بين العقل والنقل، بين القبيلة والدولة، حدث ذلك على مدى أزيد من قرن من الزمن، إلا أنه ومع مطلع الألفية الثانية وفي ظل عصر البحبوحة البترولية وظهور حمى الجوائز الأدبية الكثيرة، تحولت الساحة الأدبية إلى مصنع لتفريخ "صوص" الكتابة الروائية والشعرية والنقدية.

وأمام هذا الانحدار الأدبي والأخلاقي الخطر، بدأ يختفي "الكاتب المؤسسة" بكل ما لديه من كاريزما أدبية وحرية في الرأي ليظهر بديلاً عنه "الكاتب المقاول".

من هو "الكاتب المقاول"؟

الكاتب المقاول هو النسخة المعاصرة لشاعر البلاط، الشاعر الذي ينطق و"يبدع" حين يسمع عبارة "امنحه ألف دينار فضة!". ما تغير هو بدلاً من "كيس الدنانير" أصبح "شيك البنك" بالأصفار، "الكاتب المقاول" هو نفسه كاتب بلاط الخليفة، ما تغيّر فيه هو أنه يأتيه على متن طائرة بحجز في الدرجة الأولى والآخر كان يجيء على ظهر جمل أو سرج حصان أو ماشياً في الرمال.

كانت ثروة "الكاتب المؤسسة" هو القارئ، القارئ هو صك الكاتب، تقرأ كتب طه حسين أو توفيق الحكيم أو كاتب ياسين في الشرق والغرب والشمال والجنوب وتثير النقاش ومتعة الأسئلة وشحذ الوعي الفردي والجماعي، أما اليوم، فالمطابع، أو ما يسمى دور النشر تجاوزاً، تلقي بالكتاب في عالم صمّ و"الكاتب المقاول" لا ينتظر شيئاً من القارئ، فعينه على الجوائز وعلى رضا السلطان.

"الكاتب المقاول" هو ذاك الذي يلهث وراء "الزردات الثقافية" أينما كانت في أقصى الشرق وفي أقصى الغرب، من خلالها يبحث عن فتح طريق في اتجاه السلطان للجلوس إلى مائدته بغض النظر عن شكل وتوجه هذا السلطان ليبرالياً كان أو شيوعياً أو إسلامياً، شيعياً أو سنياً، لا يهم.

لقد أصبح الوضع خطراً، ففضاء الكتابة وتجمعات الكتاب هي الأماكن التي يكثر فيها الكذب والتزوير وسيادة الفكر الفاسد، وأمام هذا التدني الأخلاقي والسياسي والجمالي تقلصت مساحة مربع الاستقلالية الذي أسس له كتاب النهضة.

أمام مثل هذا الوضع المريض، يبدو لي أننا مطالبون اليوم بالدفاع عن مبدأ الكتابة الجميلة الصادقة من خلال حماية مربع "الاستقلال الفكري" وذلك بالدعوة إلى إعادة النظر في الجوائز التي اغتالت الأدب الراقي ودجنت الأصوات التي كانت متوحشة وبديعة، وتحرير ما بقي من الإعلام من ظاهرة "الميليشيات" التي تهيئ للزردات الثقافية، وإدانة تورط الجامعة في تشجيعها وإشرافها على البحوث الأكاديمية والأطاريح الجامعية التي تكرس لصورة "الكاتب المقاوِل" من خلال توجيه الباحثين من الطلبة للاشتغال على هذه الكتابات المتهافتة.



أمين الزاوي - كاتب ومفكر

الخميس 29 يونيو 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى