الكرادة تحترق وكأنها فوهة بركان احتبست غضبها منذ آلاف السنين وانفجرت، انفجرت فيها شاحنة براد محملة بكمية من الحقد والكراهية، هو عبارة عن مادة السي فور مع مادة نترات الأمونيوم، كان المكان قرب محل جبار أبو الشربت الذي يعلوه مول هادي سنتر بطابقين لبيع الكماليات من الملابس والعطور والأحذية والحقائب والساعات اليدوية، كان يزرع الأمل ويبيع الحب، فالأضواء التي تنير المكان تبعث البهجة، احتفاءا بقدوم العيد .كانت صفحات الفيس بوك جزءا من ذلك الحريق أو بالأحرى جزءا من بوابة جهنم التي فتحت أحدى نوافذها فيها، بل ان كثيرا من أصدقائي الافتراضيين غيروا صور بروفايلهم ووضعوا مكانها صورة لعبارة حداد، وبعضهم لصورة حريق بناره الملتهبة، بينما كانت المنشورات تترى في الفيس بوك ليعلن أحدهم ان عدد القتلى وصل الى 165 والجرحى الى 170 وكنت أعلم في سري أن العدد يفوق ذلك بكثير.كانت يدي اليمنى تأكلني والقلم الممدد على الطاولة القريبة مني يتحرك ببطء نحوي، وفكرة كتابة أو تسجيل شيء عن هذه الفجيعة يداهمني ويسيطر على ذهني بحيث أنني كلما حاولت الهرب لإتمام قراءة كتاب هذا هو الإنسان لفريدرك نيتشه أو كتاب نقيض المسيح للمؤلف نفسه أجد ان فكرة كتابة قصة مسيطرة عليَّ ولا أستطيع مغادرتها، سكنتني من دون أن تستطيع رمي جدائلها بعيدا عني . فكرت بكتابة قصة عن هذه الحادثة المروعة، وأحترت من أين أبدأ، هل أبدأ بالكتابة قبل التفجير أم بعده، وقلت في نفسي أن أبدأ بالكتابة قبل التفجير :
بدأت أفواج الناس بالتدفق الى سوق الكرادة – داخل الذي تمتد طويلا على ضفتي شارعين تكسو بعض ضفافه اشجار بأغصانها اليانعة بعد عناء يوم رمضاني صيفي تموزي طويلا، ومشاهدة ممتعة لمسلسل سلفي للبطل ناصر القصبي وهو ينتقد بشدة داعش وحركات التطرف الإسلامي إضافة الى بعض عادات وتقاليد المجتمع البالية، ليكون حديث الأهالي والمجالس والمقاهي ومنشورات الفيس بوك.تُعد الكرادة – داخل عروس بغداد ومهد أمانها الذي تهوي إليها أفئدة الكثير من أهالي بغداد والمحافظات القريبة منها، المحال مضيئة بالمحبة كأنها عروس في ليلتها الأولى والقمر في تمامه، والأسواق مكتظة بالبضائع والأرصفة التي تتقدمها والتي يستغلها الباعة المتجولون فيزرعون بضاعتهم كأنهم يبيعون نباتات الزينة، والسابلة من المسيحيين والمسلمين بمختلف طوائفهم والناس بمختلف شرائحهم، اطفال وفتيان وشيوخ ونساء حاسرات الرؤوس ومحجبات كأنه عرض أزياء حي، وموديلات مختلفة ترى رؤوس الشباب وقد قصوا شعورهم على آخر تسريحات الشعر في أوربا وأمريكا، بعضهم يلبس بودي الذي يغطي ركبة قدميه بمربعاته البيضاء والخضراء، وبعضهم يلبس التي شيرت الأبيض وهو في حوار ساخن عن فريقه المفضل ريال مدريد، أحدهم كان طويل فروة رأسه من الجانبين خفيفة ومن الأمام مرتفعة قليلا، بشرته بيضاء، عيناه زرقاوان يسير مع زوجته فرصدته فتاة حاسرة الرأس تريد ان تأكله بنظراتها، أسبلت عينيها واقتربت منه وكأنها تريد أن تقبله، ولكنه دون أن يعيرها أي اهتمام دلف بعيدا عنها وغاص وسط الزحام، وآخر كان يمسك بيده ورقة يريد ان يرقّم فتاة تبعها لأكثر من ربع ساعة لكنها كلما تأخرت قليلا عن أهلها زجرتها أمها وطلبت منها ان تسير جنبها.المحال مضيئة كأنها تعرض اللؤلؤ والمرجان، والنشرات الكهربائية تنتشر في فضاء المكان لتحيله الى بانوراما من الفرح الدائم، الأعمدة الكهربائية بمصابيحها كأنها أقمار توزع ضياءها على الشارع والرصيف بالتساوي، مع مصابيح السيارات ووجوه النساء والأطفال المنيرة بالأمل والمتعة وكأن العيد والفرح قد حلَّ قبل أوانه .رائحة شواء شاورمة اللحم والدجاج والكباب على المنقلة السوداء يملأ المكان، وصاحب بوفية الشامية التي أصبح الكثير من الصبية والفتيان يسمونها فيشار مضاءة من الداخل بمصابيح صفراء، يقلب الطنجرة التي بدأت تتقاذف الذرة بعد ان انتفخت، بائع الجبن والقيمر الذي فضل ان يمد جزءا من محله الى خارجه، كان يقتطع جزءا من الجبنة الدائرية الى زبون أراد تذوقها ليتبين ملوحتها، شاب يمشي مع خطيبته وقد دخلا محلا لبيع العطور بعد ان واعدها ان يشتري لها قنينة عطر فاخر إذا ما تخرج من الكلية ضمن العشرة الأوائل بما يسمح له ان يكون معيدا في كليته، ومقهى رضا علوان مكتظ برواده من المثقفين وبعض نشطاء التيار المدني. والشارع من الجانبين بدأ يزدحم بالسيارات الحديثة، وبعضهم فتح التسجيل بأعلى صوته جذلا بأغنية كاظم الساهر الأوركسترالية قولي أحبك .لكني أعود وأقول يجب أن أبدأ بما بعد الانفجار فأرمي قلمي الذي بدا وكأنه ملتصق بيدي ولا يريد الفكاك منها، وأعود لإتمام ما بدأته في قراءة كتاب هذا هو الإنسان ورغم ان رائحة شواء أجساد التفجير تضوع في خيالي ورغبتي في متابعة ما ينشر في الفيس بوك عن هذه الجريمة النكراء إلا أنني أركز من جديد بالقراءة لتستوقفني العبارة الآتية : أن أكذوبة المُثل ظلّت الى حد الآن اللعنة الحائمة فوق الواقع وعبرها غدت الإنسانية نفسها مشوّهة ومزيّفة حتى في غرائزها الأكثر عمقا – تزييف بلغ حدّ تقديس القيم المعكوسة المناقضة لتلك التي كان بإمكانها ان تضمن النمو والمستقبل، والحق المقدّس في مستقبل . وبعد عدة أسطر يقول : أنا لا أفند المُثل بل أكتفي بوضع القفاز عند تناولها.
فأكب الكتاب على وجهه بشكل الهرم وأعود لأفكر بهذه الأسطر الفلسفية وأسأل نفسي : هل المُثل أكذوبة صنعها الإنسان وغلفها بالغيب والقداسة ليستعمر الأرض وما عليها وبالخصوص أخاه الإنسان ليترأس عليه ومتى ما فقد تلك الرئاسة أنقلب على عقبيه وراح يضرب كل تلك المُثل عرض الجدار ؟ ولماذا يلبس القفاز عند تناولها هل لأنها جرت الويلات على بني البشر أم لأنها غير مقنعة بل وتصل حد القذارة ؟ وأعود لأقرأ في كتاب نقيض المسيح لأجد نيتشه يركز على العبارة الواردة في أنجيل متي 10/34 القائلة : ما جئت لألقي سلاما بل سيفا . لأستذكر بعدها الحروب الصليبية ومجزرة بارتليمي التي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا عام 1850التي ادت الى قتل خمسون ألفا من البروتستانت.
وأعود لأقول ربما ان الأنسان أو الفكر الغربي أبقى على الدين المسيحي من ناحية الشكل وهذبه بالقانون بحيث أصبح لا ينطق إلا بالسلام، وبالتالي هل يحتاج المسلمون الى الإبقاء على الدين الإسلامي كشكل ليعطل القانون المدني بعض آياته وسوره التي تدعو لما لا يتوائم مع ما يعيشه الإنسان الحضري الآن.
تتجاذبني الأفكار ويدي لا زالت تأكلني، فأهرب الى العالم الافتراضي عالم الفيس بوك لأرى مقاطع يوتيوب جديدة صورت حادث التفجير ومقاطع أخرى للبعض وهو يزف شابا محروقا ومتفحما بالمزيقة وسط الشارع وقرب مكان الانفجار، وآخر يكتب قصة عن كوستر وقفت قرب محل جبار ابو الشربت كانت ممتلئة بالركاب ولا ينقصها سوى ثلاثة ركاب، لحمل صبيّان هما عمر وخديجة يبيعان المناديل على أصحاب السيارات، هما مهجران من الفلوجة ويسكنان في منطقة الدورة وقد رزقهما الله ببيع علب المناديل كلها، كانا يتناقشان فرحين وكيف ان أمهما ستفرح كثيرا بذلك بعد ان قتل أبوهما من قبل داعش، وان هذا العيد سيكون مختلفا عما سبقه .
أرى القلم من جديد يتحرك نحوي يريد إتمام القصة التي فكرت أن أبدأ بكتابتها من لحظة التفجير الهائلة: ثمة أفراح منتظرة، وابتهالات وأدعية ابتهاجا بليلة القدر، فرمضان في أيامه الأخيرة ورغم أننا في بداية تموز بشمسه اللاهبة، إلا ان الناس كانت تتضرع لله أن يتقبل منها هذا القليل وهي تعد العدة لتسهر الليل متهجدة طلبا للغفران، وان يساعدها على إتمام شهره، خرجت العوائل من بيوتها لشراء ملابس العيد، وكانت المحال مجهزة بآخر موديلات الملابس والعطور والساعات وصادف الكثير من شباب العراق ان كانت مواليده في الأول من شهر تموز أو الذي يليه بأيام معدودات، فأخذت الكثير من النساء شراء تذكار وهدايا بهذه المناسبة. فازدحمت الأرصفة بالمارة، والشوارع بالسيارات والمحال بالزبائن .كانت الساعة تشير الى النصف بعد منتصف الليل والأسواق والمولات والمحال والباعة المتجولون والمطاعم والمقاهي والكافيات والمكادية وبعض المجانين والمراهقين والسيارات والدراجات النارية في أوجها.
على حين غرّة تزلزلت الأرض تحت قدمي من هول انفجار مدو لم أعرف مصدره، كنت أقف عند الجزرة الوسطية أروم العبور الى الجهة الثانية من الشارع لجهة اليسار، ومن قوة العصف تكسر زجاج بعض السيارات التي كانت تسير بتوءدة واهتزت الأشجار على ضفة الرصيف منتفضة أوراقها وكأنها في فصل الخريف، واجهات المحال الزجاجية كلها قذفت بزجاجها الى الخارج وارتسمت بشظاياها على أجساد بعض المارّة لوحة دموية، بعض السيارات ارتطمت بالتي أمامها بعد أن صدمتها التي قبلها من قوة العصف . عمت الفوضى وساد الارتباك، وبدأ الجميع يسأل بعضه البعض عن مكان التفجير، بعد ان إعتاد الناس ذلك، لربما من الصعب ان يعتاد الإنسان الموت، إذ ان من الطبيعي أن يعتاد الحياة ويتفنن في عيشها، تراكض الجميع نحو غيمة رصاصية مائلة للسواد بدأت تتصاعد الى الأعلى، ووميض نار صعد لهيبه الى عنان السماء، ركضت مع الراكضين رغم ان صمما أصاب أذني ولم أعد أسمع شيئا، وانما طنين وهياج وأصوات متداخلة وأقدام كلها تتجه نحو مكان واحد هو مكان التفجير.
بدأت ألسنة النار تتصاعد بعد أن تبين ان سيارة كبيرة الحجم معبأة بمادة السي فور الحارقة قد انفجرت في ذروة ازدحام الناس والسيارات والمطاعم التي اعتادت إخراج الكراسي عند ناصياتها، كان المكان قرب بناية فيها محال جبار أبو الشربت ويعلوها طابقان لهادي سنتر وهو علامة بارزة في الكرادة .وصلت المكان وكانت النار تأكل كل ما موجود حولها، فلم يسمح لي لهبها أن أقترب أكثر، كانت النار قد طالت الجانب الثاني من الشارع وطالت مجمع ليث بعد ان أكلت السيارات القريبة منه، واقتحمت واجهة المحال القريبة من السلّم الذي يؤدي الى المجمع بطوابقه الثلاثة، فهرب من كان به الى الطابق الثالث، كان المجمع يحتوي في كل طابق على أكثر من عشرين محلا الذي يديره أكثر من شخص وقد دخله أكثر من زبون.
بدأت بعض العوائل تخرج من شرفات الشقق التي تسكنها وتطلب النجدة، لقد بدأت النيران تأكل مداخل البنايات بعد ان أكلت محالها، ولم يعد لتلك العوائل من منفذ للهرب، حتى ان من كان في الطابق الأول لم يستطع أن يرمي نفسه الى الأرض لأنها تحترق بعد ان أكلت الكراسي والسيارات القريبة من الأرصفة، بل وبدأت تساهم بسعير النار بعد ان بدأ بعض خزانات السيارات بالانفجار ليزيد لهيب النار.
على مبعدة كانت سيارة إطفاء قريبة من المكان إلا ان السائق ومن كان بمعيته لم يستطع أن يفعل شيئا، بل خاف أن يتقدم بالسيارة نحو المكان المشتعل وكأنه الانفجار الأول لخلق البشرية، فتنفجر سيارة الإطفاء هي الأخرى.لم يكن أي من القريبين على مكان الحادثة أن يفعل شيئا سوى الفرجة واللوعة على تصاعد ألسنة النار وهي تنتقل من بناية الى أخرى لتأكلها وكأنها تسعر في حطب يابس فيسمع زفير النار وهي تتعافى كلما تمددت أكثر فتأكل كل ما يواجهها ومن قوتها بدأت تذيب ديكورات المحال فيتهاوى زجاجها لتأكل ما بداخلها ليمدها بسعير جديد فتتصاعد الى الطابق الأول من البناية لتأكل أصص نباتات الزينة وحبل الغسيل بغسيله المبلل، ومن ثم تدخل الشقق فتأكل أهلها وكانت وجبة شهية لم تترك النار شيئا خلفها، بينما من كان في الطابق الثاني والثالث من العوائل يستنجد دون مغيث.
استمر سعير النار يضرب بالبنايات من الجهتين لأكثر من أربع ساعات، حتى أن أسفلت الشارعين ذاب من قوة النار بعد أن امتدت لأكثر من خمسمائة متر أو أكثر دون أن يستطع أي من الحاضرين تقديم المساعدة، كانت أكثر من خمس بنايات تضرم النار فيها، حتى أن واجهاتها انصهرت وبدأ بعض طابوقها بالتهاوي، فكيف حال ساكينها، وعندما لم تجد النار شيئا تأكله بدأت تأكل نفسها لتضعف شيئا فشيئا لتبدأ الإطفاء والدفاع المدني بإطفائها.
لم ينج أحد ممن كان داخل مول هادي سنتر ومجمع ليث ومجمع العطور والمحال القريبة الأخرى، وكذلك الشقق السكنية بأطفالها ونسائها وشيوخها وشبابها، كان المكان يضوع برائحة الموت التي تزكم الأنوف، ومن كان حاضرا يحوم حول المكان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه دون جدوى. لم أستطع مغادرة المكان كان الليل بعد أن أسدل اسداله بدأ ينكمش حياءا من هول الانفجار وبدأ السحر يعلن بدأ نهاره الأسود ثم الفجر ليكشف عن فاجعة لم تتبغدد بعدها بغداد أبدا وقد احترقت جدائلها والعيد على الأبواب، ورمضان الذي أشاعوا عنه الكرم كاذبون، كل الأشهر الهجرية حزينة، وتموز الثورات لم يفض يوما الى فرح، فالثورات والثوار والبنادق والمخبرون السريون والجنود والمقــــــــاصل والحبال والسكاكين زناة يقفون عند بابك يا بغداد وهم ينتــظرون نيشان شرفك.
بدأ الأهالي والأقرباء والأصدقاء بالتوافد على مكان الانفجار لعدم رجوع ذويهم الى بيتوهم بعد أن تأخر الليل، ومن وصل الى المكان تأكد أن من كان داخل هذا الانفجار الهائل قد انصهر كما يذاب الحديد داخل فرن، وكان يأمل في سره أن يحصل ولو على جثته متفحمة ليكون له قبر يزوره ويطلب له الغفران. جلست امرأة فاقدة الوعي على حافة الرصيف المصبوغ بالأبيض والأصفر، وبدأت تندب وتعدد على حظها العاثر بعد ان رفعت حجابها وبان بياض شعرها فرد الحجاب على رأسها أحد الشباب المتواجدين في المكان والدموع تنهمر من عيونه مثل جريان الماء لكن المرأة مستمرة بندب حظها وهي ترفع يديها الى السماء دون مجيب وتولول وتقول : ما كو عراقي شريف، هاي شيلتي شيلة كل أم عراقية، شيلتي هاي، الله أكبر، الله أكبر، يا المالكي، يا العبادي، الله أكبر عليكم، أولي يابه، أولي يابه، ولكم أخوتكم فحم، ولكم العراقيون فحّموهم، بعد شتريدون من عدنا، ولكم عطّبونه، ولكم كتْلونة، ولكم شوكت تهتز الشوارب، ولكم وين الغيرة العراقية .
بدأت النيران تتقهقر وتخبو وقد أكلت كل ما كان أمامها، وقد ساهم الإطفاء بذلك، بدأت سيارات الإسعاف تنقل الجثث المتفحمة واليابسة كأنها كاغد محروق بمجرد ان تضع يدك عليه يتكسر، بعض الجثث انصهرت ولم يبق منها سوى الجمجمة وبعضها تفحم ليصبح بحجم الطفل الرضيع. الكثير من العوائل داخل الشقق ذابت وتبخرت وكأنها داخل فرن لصهر المعادن، ومثلها من كان في محال الطابق الأرضي من البنايات. فامتلأت مستشفى شيخ زايد ومدينة الطب واليرموك والكرامة، كما امتلأت ثلاجاتها بالجثث المحترقة والمتفحمة.
انكشف النهار على قيح وقبح ما بعده قبح، الظلام والسواد يعلو المكان، والخراب والدمار في كل زوايا البنايات التي بدا بعضها منهارا ومتآكلا من هول النار وحريقها، والموت والسكون يسكن المكان بكل تفاصيله، وبقايا دخان ينبعث في أقصى المجمعات ومن شبابيك البنايات والشقق.
لم أستطع المقاومة وقد بلغت الشمس ذروتها وتعامدت في السماء لتسلط جام غضبها على الأرض بعد ان وجدت الجميع ساهيا لهول ما حلَّ من فجيعة في الكرادة، ومن ثم مالت قليلا، وقد ساهمتُ في إخراج بعض الجثث المتفحمة من المجمعات، قررت الذهاب الى بيتنا الذي لا يبعد كثيرا عن مكان الانفجار أو الفاجعة، وكان بعض الموجودين يتنازعون أعداد الموتى داخل المجمعات والمحال، فهذا يقول أن الأعداد بلغت الألف محروق، وذاك يقول ان مجمع ليث وحده أحترق فيه أكثر من خمسمائة انسان ومثله مول هادي سنتر مع محال جبار أبو الشربت، وباقي البنايات الأخرى.
كنت أسير دون رشد نحو بيتنا، وأسأل نفسي بأي ذنب أحترق هؤلاء الناس، حتى لو كان من مات في حريق فهو شهيد، هل تكفي الكلمات تعويض الإنسان لفقده أعزاءه وأحبابه، اية كلمات تجبر خاطر الإنسان بفقد عزيز له حتى لو كانت مقدسة.
كسرت القلم ورميته في سلّة المهملات، وأشعلت السيجارة العاشرة وربما الخامسة عشرة، لم أكن مدركا للمحرقة التي صنعتها في غرفتي فقد كان الدخان يملأها لأنني لم أكن منتبها لوضع السيجارة في المنفضة التي كانت بقايا التبغ عند مؤخرة عقبها لتزحف عليه وتأكله هو الآخر، كنت أتصور أو يتهيأ لي ان حفلة الدم أو رائحة الموت التي كانت تتفشى في مكان الانفجار من وهم خيالي دون ان أشعر ان حريقا كان يعيش ولادته البسيطة في المنفضة لينطفئ من جديد .
قررت أن أكتب القصة من جديد على أن أكون جزءا من لحظة الانفجار والحريق الذي حاصر الأرواح داخل الشقق والمحال داخل المطاعم والبنايات والمقاهي والسيارات وطوابق المولات والمجمعات وفي اقبيتهما:خرجت مع زوجتي وطفلتي الوحيدة الى سوق الكرادة فقد صادف اليوم الثالث من تموز عيد زواجنا، وهو اليوم الذي صادف عيد ميلادي وعيد ميلاد طفلتي سما، كانت ثلاث مناسبات في يوم واحد، وقد افاض الله علينا بمناسبة رابعة هي ليلة القدر في شهر الخير والبركة شهر رمضان الفضيل، كنت أنا صلاح ثلاثيني العمر، تأخرت بالزواج قليلا حتى أكوّن نفسي وقد ساعدني الله في ذلك بعد جهد كبير أتنقل فيه بين الأعمال حتى أكملت دراستي في الجامعة التكنلوجية، واستطعت أن أتنقل بين أكثر من مكتب هندسي لأستقل بعد ذلك بمكتب صغير خاصتي وأمارس عملي في تنفيذ بناء البيوت، وكانت خلاصة عملي أن أحصل على بيت بسيط بعد أن ارتبطت بزوجتي التي التقيتها وأنا ابني بيت أبيها، كانت مثلي خريجة جامعية ولكن من كلية التربية – قسم اللغة الإنكليزية.
* نقلا عن الزمان
بدأت أفواج الناس بالتدفق الى سوق الكرادة – داخل الذي تمتد طويلا على ضفتي شارعين تكسو بعض ضفافه اشجار بأغصانها اليانعة بعد عناء يوم رمضاني صيفي تموزي طويلا، ومشاهدة ممتعة لمسلسل سلفي للبطل ناصر القصبي وهو ينتقد بشدة داعش وحركات التطرف الإسلامي إضافة الى بعض عادات وتقاليد المجتمع البالية، ليكون حديث الأهالي والمجالس والمقاهي ومنشورات الفيس بوك.تُعد الكرادة – داخل عروس بغداد ومهد أمانها الذي تهوي إليها أفئدة الكثير من أهالي بغداد والمحافظات القريبة منها، المحال مضيئة بالمحبة كأنها عروس في ليلتها الأولى والقمر في تمامه، والأسواق مكتظة بالبضائع والأرصفة التي تتقدمها والتي يستغلها الباعة المتجولون فيزرعون بضاعتهم كأنهم يبيعون نباتات الزينة، والسابلة من المسيحيين والمسلمين بمختلف طوائفهم والناس بمختلف شرائحهم، اطفال وفتيان وشيوخ ونساء حاسرات الرؤوس ومحجبات كأنه عرض أزياء حي، وموديلات مختلفة ترى رؤوس الشباب وقد قصوا شعورهم على آخر تسريحات الشعر في أوربا وأمريكا، بعضهم يلبس بودي الذي يغطي ركبة قدميه بمربعاته البيضاء والخضراء، وبعضهم يلبس التي شيرت الأبيض وهو في حوار ساخن عن فريقه المفضل ريال مدريد، أحدهم كان طويل فروة رأسه من الجانبين خفيفة ومن الأمام مرتفعة قليلا، بشرته بيضاء، عيناه زرقاوان يسير مع زوجته فرصدته فتاة حاسرة الرأس تريد ان تأكله بنظراتها، أسبلت عينيها واقتربت منه وكأنها تريد أن تقبله، ولكنه دون أن يعيرها أي اهتمام دلف بعيدا عنها وغاص وسط الزحام، وآخر كان يمسك بيده ورقة يريد ان يرقّم فتاة تبعها لأكثر من ربع ساعة لكنها كلما تأخرت قليلا عن أهلها زجرتها أمها وطلبت منها ان تسير جنبها.المحال مضيئة كأنها تعرض اللؤلؤ والمرجان، والنشرات الكهربائية تنتشر في فضاء المكان لتحيله الى بانوراما من الفرح الدائم، الأعمدة الكهربائية بمصابيحها كأنها أقمار توزع ضياءها على الشارع والرصيف بالتساوي، مع مصابيح السيارات ووجوه النساء والأطفال المنيرة بالأمل والمتعة وكأن العيد والفرح قد حلَّ قبل أوانه .رائحة شواء شاورمة اللحم والدجاج والكباب على المنقلة السوداء يملأ المكان، وصاحب بوفية الشامية التي أصبح الكثير من الصبية والفتيان يسمونها فيشار مضاءة من الداخل بمصابيح صفراء، يقلب الطنجرة التي بدأت تتقاذف الذرة بعد ان انتفخت، بائع الجبن والقيمر الذي فضل ان يمد جزءا من محله الى خارجه، كان يقتطع جزءا من الجبنة الدائرية الى زبون أراد تذوقها ليتبين ملوحتها، شاب يمشي مع خطيبته وقد دخلا محلا لبيع العطور بعد ان واعدها ان يشتري لها قنينة عطر فاخر إذا ما تخرج من الكلية ضمن العشرة الأوائل بما يسمح له ان يكون معيدا في كليته، ومقهى رضا علوان مكتظ برواده من المثقفين وبعض نشطاء التيار المدني. والشارع من الجانبين بدأ يزدحم بالسيارات الحديثة، وبعضهم فتح التسجيل بأعلى صوته جذلا بأغنية كاظم الساهر الأوركسترالية قولي أحبك .لكني أعود وأقول يجب أن أبدأ بما بعد الانفجار فأرمي قلمي الذي بدا وكأنه ملتصق بيدي ولا يريد الفكاك منها، وأعود لإتمام ما بدأته في قراءة كتاب هذا هو الإنسان ورغم ان رائحة شواء أجساد التفجير تضوع في خيالي ورغبتي في متابعة ما ينشر في الفيس بوك عن هذه الجريمة النكراء إلا أنني أركز من جديد بالقراءة لتستوقفني العبارة الآتية : أن أكذوبة المُثل ظلّت الى حد الآن اللعنة الحائمة فوق الواقع وعبرها غدت الإنسانية نفسها مشوّهة ومزيّفة حتى في غرائزها الأكثر عمقا – تزييف بلغ حدّ تقديس القيم المعكوسة المناقضة لتلك التي كان بإمكانها ان تضمن النمو والمستقبل، والحق المقدّس في مستقبل . وبعد عدة أسطر يقول : أنا لا أفند المُثل بل أكتفي بوضع القفاز عند تناولها.
فأكب الكتاب على وجهه بشكل الهرم وأعود لأفكر بهذه الأسطر الفلسفية وأسأل نفسي : هل المُثل أكذوبة صنعها الإنسان وغلفها بالغيب والقداسة ليستعمر الأرض وما عليها وبالخصوص أخاه الإنسان ليترأس عليه ومتى ما فقد تلك الرئاسة أنقلب على عقبيه وراح يضرب كل تلك المُثل عرض الجدار ؟ ولماذا يلبس القفاز عند تناولها هل لأنها جرت الويلات على بني البشر أم لأنها غير مقنعة بل وتصل حد القذارة ؟ وأعود لأقرأ في كتاب نقيض المسيح لأجد نيتشه يركز على العبارة الواردة في أنجيل متي 10/34 القائلة : ما جئت لألقي سلاما بل سيفا . لأستذكر بعدها الحروب الصليبية ومجزرة بارتليمي التي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا عام 1850التي ادت الى قتل خمسون ألفا من البروتستانت.
وأعود لأقول ربما ان الأنسان أو الفكر الغربي أبقى على الدين المسيحي من ناحية الشكل وهذبه بالقانون بحيث أصبح لا ينطق إلا بالسلام، وبالتالي هل يحتاج المسلمون الى الإبقاء على الدين الإسلامي كشكل ليعطل القانون المدني بعض آياته وسوره التي تدعو لما لا يتوائم مع ما يعيشه الإنسان الحضري الآن.
تتجاذبني الأفكار ويدي لا زالت تأكلني، فأهرب الى العالم الافتراضي عالم الفيس بوك لأرى مقاطع يوتيوب جديدة صورت حادث التفجير ومقاطع أخرى للبعض وهو يزف شابا محروقا ومتفحما بالمزيقة وسط الشارع وقرب مكان الانفجار، وآخر يكتب قصة عن كوستر وقفت قرب محل جبار ابو الشربت كانت ممتلئة بالركاب ولا ينقصها سوى ثلاثة ركاب، لحمل صبيّان هما عمر وخديجة يبيعان المناديل على أصحاب السيارات، هما مهجران من الفلوجة ويسكنان في منطقة الدورة وقد رزقهما الله ببيع علب المناديل كلها، كانا يتناقشان فرحين وكيف ان أمهما ستفرح كثيرا بذلك بعد ان قتل أبوهما من قبل داعش، وان هذا العيد سيكون مختلفا عما سبقه .
أرى القلم من جديد يتحرك نحوي يريد إتمام القصة التي فكرت أن أبدأ بكتابتها من لحظة التفجير الهائلة: ثمة أفراح منتظرة، وابتهالات وأدعية ابتهاجا بليلة القدر، فرمضان في أيامه الأخيرة ورغم أننا في بداية تموز بشمسه اللاهبة، إلا ان الناس كانت تتضرع لله أن يتقبل منها هذا القليل وهي تعد العدة لتسهر الليل متهجدة طلبا للغفران، وان يساعدها على إتمام شهره، خرجت العوائل من بيوتها لشراء ملابس العيد، وكانت المحال مجهزة بآخر موديلات الملابس والعطور والساعات وصادف الكثير من شباب العراق ان كانت مواليده في الأول من شهر تموز أو الذي يليه بأيام معدودات، فأخذت الكثير من النساء شراء تذكار وهدايا بهذه المناسبة. فازدحمت الأرصفة بالمارة، والشوارع بالسيارات والمحال بالزبائن .كانت الساعة تشير الى النصف بعد منتصف الليل والأسواق والمولات والمحال والباعة المتجولون والمطاعم والمقاهي والكافيات والمكادية وبعض المجانين والمراهقين والسيارات والدراجات النارية في أوجها.
على حين غرّة تزلزلت الأرض تحت قدمي من هول انفجار مدو لم أعرف مصدره، كنت أقف عند الجزرة الوسطية أروم العبور الى الجهة الثانية من الشارع لجهة اليسار، ومن قوة العصف تكسر زجاج بعض السيارات التي كانت تسير بتوءدة واهتزت الأشجار على ضفة الرصيف منتفضة أوراقها وكأنها في فصل الخريف، واجهات المحال الزجاجية كلها قذفت بزجاجها الى الخارج وارتسمت بشظاياها على أجساد بعض المارّة لوحة دموية، بعض السيارات ارتطمت بالتي أمامها بعد أن صدمتها التي قبلها من قوة العصف . عمت الفوضى وساد الارتباك، وبدأ الجميع يسأل بعضه البعض عن مكان التفجير، بعد ان إعتاد الناس ذلك، لربما من الصعب ان يعتاد الإنسان الموت، إذ ان من الطبيعي أن يعتاد الحياة ويتفنن في عيشها، تراكض الجميع نحو غيمة رصاصية مائلة للسواد بدأت تتصاعد الى الأعلى، ووميض نار صعد لهيبه الى عنان السماء، ركضت مع الراكضين رغم ان صمما أصاب أذني ولم أعد أسمع شيئا، وانما طنين وهياج وأصوات متداخلة وأقدام كلها تتجه نحو مكان واحد هو مكان التفجير.
بدأت ألسنة النار تتصاعد بعد أن تبين ان سيارة كبيرة الحجم معبأة بمادة السي فور الحارقة قد انفجرت في ذروة ازدحام الناس والسيارات والمطاعم التي اعتادت إخراج الكراسي عند ناصياتها، كان المكان قرب بناية فيها محال جبار أبو الشربت ويعلوها طابقان لهادي سنتر وهو علامة بارزة في الكرادة .وصلت المكان وكانت النار تأكل كل ما موجود حولها، فلم يسمح لي لهبها أن أقترب أكثر، كانت النار قد طالت الجانب الثاني من الشارع وطالت مجمع ليث بعد ان أكلت السيارات القريبة منه، واقتحمت واجهة المحال القريبة من السلّم الذي يؤدي الى المجمع بطوابقه الثلاثة، فهرب من كان به الى الطابق الثالث، كان المجمع يحتوي في كل طابق على أكثر من عشرين محلا الذي يديره أكثر من شخص وقد دخله أكثر من زبون.
بدأت بعض العوائل تخرج من شرفات الشقق التي تسكنها وتطلب النجدة، لقد بدأت النيران تأكل مداخل البنايات بعد ان أكلت محالها، ولم يعد لتلك العوائل من منفذ للهرب، حتى ان من كان في الطابق الأول لم يستطع أن يرمي نفسه الى الأرض لأنها تحترق بعد ان أكلت الكراسي والسيارات القريبة من الأرصفة، بل وبدأت تساهم بسعير النار بعد ان بدأ بعض خزانات السيارات بالانفجار ليزيد لهيب النار.
على مبعدة كانت سيارة إطفاء قريبة من المكان إلا ان السائق ومن كان بمعيته لم يستطع أن يفعل شيئا، بل خاف أن يتقدم بالسيارة نحو المكان المشتعل وكأنه الانفجار الأول لخلق البشرية، فتنفجر سيارة الإطفاء هي الأخرى.لم يكن أي من القريبين على مكان الحادثة أن يفعل شيئا سوى الفرجة واللوعة على تصاعد ألسنة النار وهي تنتقل من بناية الى أخرى لتأكلها وكأنها تسعر في حطب يابس فيسمع زفير النار وهي تتعافى كلما تمددت أكثر فتأكل كل ما يواجهها ومن قوتها بدأت تذيب ديكورات المحال فيتهاوى زجاجها لتأكل ما بداخلها ليمدها بسعير جديد فتتصاعد الى الطابق الأول من البناية لتأكل أصص نباتات الزينة وحبل الغسيل بغسيله المبلل، ومن ثم تدخل الشقق فتأكل أهلها وكانت وجبة شهية لم تترك النار شيئا خلفها، بينما من كان في الطابق الثاني والثالث من العوائل يستنجد دون مغيث.
استمر سعير النار يضرب بالبنايات من الجهتين لأكثر من أربع ساعات، حتى أن أسفلت الشارعين ذاب من قوة النار بعد أن امتدت لأكثر من خمسمائة متر أو أكثر دون أن يستطع أي من الحاضرين تقديم المساعدة، كانت أكثر من خمس بنايات تضرم النار فيها، حتى أن واجهاتها انصهرت وبدأ بعض طابوقها بالتهاوي، فكيف حال ساكينها، وعندما لم تجد النار شيئا تأكله بدأت تأكل نفسها لتضعف شيئا فشيئا لتبدأ الإطفاء والدفاع المدني بإطفائها.
لم ينج أحد ممن كان داخل مول هادي سنتر ومجمع ليث ومجمع العطور والمحال القريبة الأخرى، وكذلك الشقق السكنية بأطفالها ونسائها وشيوخها وشبابها، كان المكان يضوع برائحة الموت التي تزكم الأنوف، ومن كان حاضرا يحوم حول المكان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه دون جدوى. لم أستطع مغادرة المكان كان الليل بعد أن أسدل اسداله بدأ ينكمش حياءا من هول الانفجار وبدأ السحر يعلن بدأ نهاره الأسود ثم الفجر ليكشف عن فاجعة لم تتبغدد بعدها بغداد أبدا وقد احترقت جدائلها والعيد على الأبواب، ورمضان الذي أشاعوا عنه الكرم كاذبون، كل الأشهر الهجرية حزينة، وتموز الثورات لم يفض يوما الى فرح، فالثورات والثوار والبنادق والمخبرون السريون والجنود والمقــــــــاصل والحبال والسكاكين زناة يقفون عند بابك يا بغداد وهم ينتــظرون نيشان شرفك.
بدأ الأهالي والأقرباء والأصدقاء بالتوافد على مكان الانفجار لعدم رجوع ذويهم الى بيتوهم بعد أن تأخر الليل، ومن وصل الى المكان تأكد أن من كان داخل هذا الانفجار الهائل قد انصهر كما يذاب الحديد داخل فرن، وكان يأمل في سره أن يحصل ولو على جثته متفحمة ليكون له قبر يزوره ويطلب له الغفران. جلست امرأة فاقدة الوعي على حافة الرصيف المصبوغ بالأبيض والأصفر، وبدأت تندب وتعدد على حظها العاثر بعد ان رفعت حجابها وبان بياض شعرها فرد الحجاب على رأسها أحد الشباب المتواجدين في المكان والدموع تنهمر من عيونه مثل جريان الماء لكن المرأة مستمرة بندب حظها وهي ترفع يديها الى السماء دون مجيب وتولول وتقول : ما كو عراقي شريف، هاي شيلتي شيلة كل أم عراقية، شيلتي هاي، الله أكبر، الله أكبر، يا المالكي، يا العبادي، الله أكبر عليكم، أولي يابه، أولي يابه، ولكم أخوتكم فحم، ولكم العراقيون فحّموهم، بعد شتريدون من عدنا، ولكم عطّبونه، ولكم كتْلونة، ولكم شوكت تهتز الشوارب، ولكم وين الغيرة العراقية .
بدأت النيران تتقهقر وتخبو وقد أكلت كل ما كان أمامها، وقد ساهم الإطفاء بذلك، بدأت سيارات الإسعاف تنقل الجثث المتفحمة واليابسة كأنها كاغد محروق بمجرد ان تضع يدك عليه يتكسر، بعض الجثث انصهرت ولم يبق منها سوى الجمجمة وبعضها تفحم ليصبح بحجم الطفل الرضيع. الكثير من العوائل داخل الشقق ذابت وتبخرت وكأنها داخل فرن لصهر المعادن، ومثلها من كان في محال الطابق الأرضي من البنايات. فامتلأت مستشفى شيخ زايد ومدينة الطب واليرموك والكرامة، كما امتلأت ثلاجاتها بالجثث المحترقة والمتفحمة.
انكشف النهار على قيح وقبح ما بعده قبح، الظلام والسواد يعلو المكان، والخراب والدمار في كل زوايا البنايات التي بدا بعضها منهارا ومتآكلا من هول النار وحريقها، والموت والسكون يسكن المكان بكل تفاصيله، وبقايا دخان ينبعث في أقصى المجمعات ومن شبابيك البنايات والشقق.
لم أستطع المقاومة وقد بلغت الشمس ذروتها وتعامدت في السماء لتسلط جام غضبها على الأرض بعد ان وجدت الجميع ساهيا لهول ما حلَّ من فجيعة في الكرادة، ومن ثم مالت قليلا، وقد ساهمتُ في إخراج بعض الجثث المتفحمة من المجمعات، قررت الذهاب الى بيتنا الذي لا يبعد كثيرا عن مكان الانفجار أو الفاجعة، وكان بعض الموجودين يتنازعون أعداد الموتى داخل المجمعات والمحال، فهذا يقول أن الأعداد بلغت الألف محروق، وذاك يقول ان مجمع ليث وحده أحترق فيه أكثر من خمسمائة انسان ومثله مول هادي سنتر مع محال جبار أبو الشربت، وباقي البنايات الأخرى.
كنت أسير دون رشد نحو بيتنا، وأسأل نفسي بأي ذنب أحترق هؤلاء الناس، حتى لو كان من مات في حريق فهو شهيد، هل تكفي الكلمات تعويض الإنسان لفقده أعزاءه وأحبابه، اية كلمات تجبر خاطر الإنسان بفقد عزيز له حتى لو كانت مقدسة.
كسرت القلم ورميته في سلّة المهملات، وأشعلت السيجارة العاشرة وربما الخامسة عشرة، لم أكن مدركا للمحرقة التي صنعتها في غرفتي فقد كان الدخان يملأها لأنني لم أكن منتبها لوضع السيجارة في المنفضة التي كانت بقايا التبغ عند مؤخرة عقبها لتزحف عليه وتأكله هو الآخر، كنت أتصور أو يتهيأ لي ان حفلة الدم أو رائحة الموت التي كانت تتفشى في مكان الانفجار من وهم خيالي دون ان أشعر ان حريقا كان يعيش ولادته البسيطة في المنفضة لينطفئ من جديد .
قررت أن أكتب القصة من جديد على أن أكون جزءا من لحظة الانفجار والحريق الذي حاصر الأرواح داخل الشقق والمحال داخل المطاعم والبنايات والمقاهي والسيارات وطوابق المولات والمجمعات وفي اقبيتهما:خرجت مع زوجتي وطفلتي الوحيدة الى سوق الكرادة فقد صادف اليوم الثالث من تموز عيد زواجنا، وهو اليوم الذي صادف عيد ميلادي وعيد ميلاد طفلتي سما، كانت ثلاث مناسبات في يوم واحد، وقد افاض الله علينا بمناسبة رابعة هي ليلة القدر في شهر الخير والبركة شهر رمضان الفضيل، كنت أنا صلاح ثلاثيني العمر، تأخرت بالزواج قليلا حتى أكوّن نفسي وقد ساعدني الله في ذلك بعد جهد كبير أتنقل فيه بين الأعمال حتى أكملت دراستي في الجامعة التكنلوجية، واستطعت أن أتنقل بين أكثر من مكتب هندسي لأستقل بعد ذلك بمكتب صغير خاصتي وأمارس عملي في تنفيذ بناء البيوت، وكانت خلاصة عملي أن أحصل على بيت بسيط بعد أن ارتبطت بزوجتي التي التقيتها وأنا ابني بيت أبيها، كانت مثلي خريجة جامعية ولكن من كلية التربية – قسم اللغة الإنكليزية.
* نقلا عن الزمان