لم نطل الحب، لأن كل منا كانت أحلامه بسيطة في أن يجد الزوج بمواصفات طبيعية تخلو من التعقيد، كما أننا لم نطل التخطيط للزواج، وسرعان ما تم زواجنا بمباركة الأهل والأقرباء والأصدقاء، بدت حياتنا بسيطة واعتيادية في أن نحلم بمستقبل لأنفسنا وأولادنا الذي لم يكن يتجاوز عددهم الاثنين، سما الطفلة البريئة التي ملأت حياتنا سعادة وأملا، ونأمل بأن يأتينا طفل عسى ان يكون ولداً لتتعادل الحياة، قدّمت زوجتي أوراقها لمديرية تربية الرصافة على أمل التعيين وعندما يأست من ذلك، فكرت ان تمارس اختصاصها من خلال ممارسة التدريس الخصوصي، وعندما تقدمت لخطبتها طلبت مني الاستمرار بممارستها لرغبتها واختصاصها ولم أكن أمانع في ذلك.
كان اليوم هو ليلة القدر، والشوارع مزدحمة والناس في تفاؤل وأمل كبيرين، كنت أحمل طفلتي على صدري، وزوجتي تتأبط حقيبتها وكأنها سندريلا وتتبختر في مشيتها، كانت تحب العطور بشكل كبير وتمتلك من قنانيه الأشكال والأنواع والماركات العالمية بما يثير الانتباه، في البدء لم أكن أعير العطور اية أهمية، ولكني شيئا فشيئا بدأت أنسحب الى حب العطور أيضا.
كان الحديث عن العطور يطرب زوجتي، ولما كنت أحبها بعد أن وجدتها متفانية في خدمتي وبيتها وأبنتها، بدأت أحب ما تحب، كانت حاسة الشم عندها قوية، حتى أنها كانت تكلمني كثيرا عن رواية العطر للمؤلف (باتريك زوسكيند) التي تحولت فيما بعد الى فيلم، كانت تهتم بكل ما يمت بصلة لها، بل كانت تعتقد ان عطور الشتاء تختلف عن عطور الصيف، لأن الانسان في الشتاء يرتدي ملابس ثقيلة ولا بد للعطر ان يعطيه الإحساس بالدفء والأمان بما يتناسب مع جوه البارد الذي يحتاج عطورا ذات تركيز عال وثبات حتى يدوم أطول فترة ممكنة، وعكسه عطور فصل الصيف الذي يعطي الإنسان الإحساس بالأريحية وخفة الوزن ومنع الروائح غير الطيبة التي تنبعث نتيجة الحر والتعرق، ولذلك لا بد اختيار عطور فيها نفحات من الأخشاب والتوابل مع المسك والعنبر .
كان العطر المميز عندها في الشتاء اسمه (مارك جاكوبسن) وهو ماركة عالمية يحمل تركيبة مميزة جدا وفاخرة من النفحات القوية من رائحة الياسمين والسوسن مع رائحة من روائح الورد البلغاري ويتميز هذا العطر أيضا بنفحات مميزة من البرقوق والزعفران ليترك رائحة مميزة ومثيرة لهذا العطر كما أن زجاجة العطر صممت بشكل غاية في الأناقة . وكذلك عطر (مودرن ميوز) الذي يتكون من مجموعة من الروائح المميزة والنادرة كرائحة التوت الأحمر مع الياسمين والباتشول والورد البلغاري المميز بالإضافة إلى رائحة الفلفل الوردي لتتكمل معاني الأنوثة الكاملة لهذا العطر . إضافة للعطور النسائية الرومانسية الجذابة ذات التركيز العالي التي تحمل رائحة نفحات زهر البرتقال مع رائحة مميزة من زهرة الفريزيا والياسمين .
دخلنا مجمع ليث، المتكون من ثلاثة طوابق، ودلفنا في ممر الطابق الأول حتى المحل الأخير الذي كان مختلفا بديكوره الذي يشبه قنينة العطر، كان المحل يحتوي على أنواع مختلفة من العطور الغالية الثمن، لم يكن يأتي بالماركات الشعبية وانما الماركات العالمية الفاخرة، وكانت بعض جدرانه تحتوي على دعاية لبعض أنواع العطور وقربها الممثلة المحبوبة (أنجلينا جولي) دلالة الحداثة، وأخرى مع (صوفيا لورين) دلالة الأصالة، ولما كان صاحب المحل الشاب الثلاثيني، وشعره المرتب على آخر صيحة، وبنطاله الجينز ذا ماركة عالمية وساعته الرولكس، وخاتمه الذهبي الذي كان يتقصد إظهاره لبعض الزبائن من النساء تجنبا للإحراج، وكثيرا ما كان يصحب زوجته معه في العمل، فالنساء تعرف أسرار النساء، كانت تربطنا بهما علاقة مميزة كونهما يحترمان أنف زوجتي المتخصص بأنواع العطور، فلم يكن يطيل جدالها ويخرج لها آخر أنواع العطور الباريسية الحديثة، ورغم سخونة أسعاره، إلا ان ذلك لم يكن يثير حفيظة زوجتي، وكنت بسبب العطر الجديد أعيش ليلة حمراء بعد ان تملأ زوجتي خبايا جسدها بالعطر الأنثوي، كما ترش بعضه في أرجاء الغرفة لتتحول غرفتنا الى جنينة من الزهور العطرة تضوع رائحته البيت كله.
قررت زوجتي أن نصعد الى الطابق الثاني لنشتري لأبنتنا سما بدلة العيد، كانت بداية السلم عند مدخل المجمع، وكان لزاما ان نعود إليه حتى نصعد من جديد الى الطابق الثاني، السلم المغلف بالمرمر، والدربزون الألمنيوم بكرته الكرستالية كانت تضفي عليه رونقا وبهاء، صعدنا الدرج المزدحم بالنساء وهن بين صعود ونزول، وأخذنا نتفرج على بعض المحال حتى وقع اختيارنا على بدلة تليق بسما، كانت بدلة بيضاء نصف كم مفتوحة الصدر بكشكش أزرق، تضيق عند الخصر لتتسع عند الحوض .
اهتزت الأرض تحت أقدامنا وارتجت الحيطان وانقذف الزجاج من مكانه متشظيا الى كل أركان المكان، ولولا الملابس المعلقة عليها والمليكانات الصغيرة التي كانت تملأ واجهة المحل لارتدت بعض شظايا الزجاج على زبائن المحل، تساقطت علب العطور على الأرض وانفجر بعضها محدثا دويا خفيفا وامتلأ المكان بأنواع الروائح الطيبة المختلفة، بينما سقطت الملابس المرتبة على الرفوف الزجاجية، ارتمت زوجتي بحضني باللاشعور خائفة مرتبكة، طمأنتها اننا والحمد لله بعيدان عن هذا الانفجار بعد ان اعتادت آذاننا على تميز صوت الانفجار عن غيره، لكنها أكدت أنه قريب جدا، طلبت منها الجلوس على كرسي قريب الذي أخذت من الأرض بعد ان انكفأ على جنبه وخرجت أستطلع الأمر.
كان المجاز بين المحال ممتلئ بشظايا زجاج واجهات المحال، وبعض الجرحى من الشباب تسيل منهم الدماء، قبل ان أقترب من الواجهة الزجاجية التي تطل على الشارع العام، لاحظت لهيب النار يتصاعد ليعبر الى الطابق الثالث، يا الله لم أستطع الاقتراب من الواجهة لهول ما شاهدته من لهيب النار المتصاعد، بقيت متسمرا في مكاني لا أعرف ما أفعل، أعود لزوجتي وأطلب منها الإسراع بالنزول والخروج من المجمع، أم أنتظر قليلا حتى تخفت النار، بد لهيب النار بالنزول قليلا وتقدمت نحو الواجهة الأمامية، يا ألله انها سيارة مفخخة بالنار (السي فور) انفجرت لتوزع حممها البركانية في المكان، نظرت الى الأسفل كانت بعض السيارات قد اشتعلت بعد ان أصابها العصف، ومن ثم انفجر خزان البنزين فيها ليحرق التي خلفها والتي أمامها، وهكذا بدأت السيارات تشتعل، وصعد من جديد لهيب النار.
عدت الى زوجتي وطلبت منها التماسك والنهوض والإسراع بالخروج من المجمع، كان الدخان بدأ يتسرب الى المجمع وحالة الاختناق بدأت تعصف بالبعض حتى ان سعالهم يسمع صوته بشكل جلي، عندما خرجنا من المحل باتجاه السلم، نظرت من الفتحة المستطيلة التي تتوسط الطابق الثاني نحو الأسفل، كانت النار تزحف نحو المجمع بعد ان أشعلت المحال الأولى، وصوت هسيسها يسمع في أرجاء المكان ليثير الرعب، يا للهول أين المفر، بدأ الزبائن يخرجون من المحال ويطلون برؤوسهم نحو الطابق الأول والنار والدخان تكتسح المكان مثل وباء أو فيضان يكتسح أرضاً منبسطة، في الوقت الذي كانت تتصاعد كذلك نحو الأعلى، حتى ان زجاج الواجهة الأمامية للمحال من الجانبين تكسرت من قوة حرارة النار وضغطها وبدأت تدخل إليها وتلتهم معروضاتهما من الملابس القطنية والبوليستر والحرير والإكسسوارات والعطور مع ديكوره. بعد ان التهمت واجهة البناية المغلفة بمادة الكوبوند السريع الاشتعال .
طلبت من زوجتي ومن موجود في الطابق معنا الصعود الى الطابق الثالث على أمل مجيء سيارات الإسعاف لتطفئ النار قبل ان تصل إلينا، فر الجميع معي الى الطابق الثالث، وكان الدخان ورائحة الاحتراق من الطابق الأرضي تتصاعد وزفير النار وشهيقها وحرارتها وأجواء الخوف والارتباك مسيطر على الجميع . وكان صوت النار يختلف من محل لآخر، فهو عندما يذيب الحديد، غير صوته عندما يلتهم الملابس وكراتين البضائع والدفاتر والستائر والمخازن بينما كانت محال العطور تزيد سعير النار وتزيد من لهيبها.
كانت اصوات اصحاب محال وزبائن الطابق الأول محصورة تلوج وهي تصرخ، بينما النار تزحف نحوهم وهي تزداد سعيرا، كانت المحال ممتلئة بالبضائع السريعة الاشتعال ما يساعدها على الاتقاد أكثر وأكثر، كانت الأرواح تتلوى صاعدة الى الفضاء وألسنة النيران تحاول الإمساك بها، ضغط النار وهسيسها يتقدم نحو الأجساد التي تزاحمت في آخر القبو، النيران في كل مكان. استطعت ان أرى عن بعد شقق البناية التي أمام المجمع، كانت النيران التي بدأت تتسلل من نوافذ الشبابيك وفتحات الأبواب تعمل جاهدة على منع خروج الأصوات من تلك الشقق وهي تستنجد لاهثة خائفة محاصرة، وكلما أنطلق صوت من أحدهم أخرسه لسان نار . كانت الأصوات تتساقط الواحد تلو الآخر قبل أن تخرج من أفواه الأمكنة، كان البعض يستصرخ الله ان يجيره من النار يستصرخ رحمته وقوته وجبروته ان يطفأ النار التي بدأت تتسلق الى شقته بعد ان تحولت أرضيتها الى قطعة من الجمر المجمر وقد صهرت من كان فيها، بعض الشقق دخلها الدخان مثل ألسنة الأفاعي يحمل سموم الاختناق ممهدا لناره مقبلة لتحرق أجسادهم وتأكل أجسادهم.
انطفأت الكهرباء بعد ان أتت النار على الأسلاك ومنظومة كهرباء المجمع، ولكن نور النار كان كافيا ليكشف عن أماكننا وزمزمة لهيبها تنذر بالتهامنا. سألت صاحب المحل القريب مني ان كانت باب سطح البناية مفتوحا، ولكنه أكد ان كثرة الشكاوي منا لصاحب المجمع بعد تصرفات مشينة من البعض جعلته يلحم الباب بإطارها الحديدي، بعد ان كسر قفلها أكثر من مرة ولم يجد بد من هذا الحل النهائي لغلقها.
كانت النار تهجم على المجمع من ثلاث جهات، من الطابق الأرضي وهي تتصاعد نحونا، ويمد يد العون لها الطابق الثاني الذي دخلت عليه النار من واجهته الزجاجية، إضافة الى دخولها من الواجهة الزجاجية للطابق الثالث، بدأنا نتصبب عرقا، وصفرة الموت توشح وجوه النساء والأطفال تصرخ، بينما سما أغمى عليها من شدة الحرارة التي أحاطت بالمكان وكأنه فرن في أول اشتعاله .
اجتمع في نهاية الطابق الثالث أكثر من مـــئة شخص كانوا من أصحاب المحال وعمالهم وزبائنهم وبعض النساء اللاتي دخلن من أجل النزهة وشباب من أجل قضاء وقت جميل والفرجة، وبائع شاي سفري وفقير دخل يطلب حسنة، انسابت روح امرأة وسقطت على الأرض فبدأت النساء بالصياح، وكأنهن يردن حجة لإخراج الخوف من داخلهن، كان المكان تعلو حرارته بشكل مخيف، طلبت من النساء الرجوع الى المحل الأخير بعد إفراغه من بضاعته وساعدهن في ذلك بعض الشباب الذي أفرغوا المحال المجاورة له، وبدأوا بقذف البضاعة الى النار المتصاعدة آملين بسيارات الإطفاء لحاقهم قبل ان تلتهمهم النار، لكن صوت النساء كان يعلو بين الدعاء والصراخ بين الخوف والارتباك بين العطش والجوع، فالموت محقق لأن الجميع محصور في مكان واحد، أحد الشباب صعد الدرج من جديد وحاول جهده ان يكسر باب السطح لكنه محاولته باءت بالفشل .
بدأت النار تأكل أول محل من الطابق الثالث وامتدت الى المحل الذي قربه، وهكذا بدأت تسير ببطء نحونا حتى أصبح المكان حاراً جدا والتعرق يتفصد من أصداغنا وباقي أجزاء اجسادنا بشكل ملفت للانتباه كان خليطاً من الخوف والحر والاختناق، بدأت قوانا تخور والضعف يدب فيها، والأرض التي تحت أقدامنا شديدة الحرارة، جاءت بعض النسوة يطلب أي شيء يقفن عليه لأن الأرض أصبحت لا تطاق وبعضهن تركن أحذيتهن لحظة الهرب، رجعت الى محل قريب من المحل الذي تجمعن فيه وسحبت طاولة إليهن وطلبت منهن الوقوف عليها على أمل فرج قريب.
عندما رجعت الى حيث كنت أقف، لم يكن هناك أي أمل في إنقاذنا فالنيران تزحف صوبنا، فقررت العودة الى زوجتي لأموت معها، كان المحل مزدحما بالأنفاس الحارة والاختناق يطال الجميع طلبت من زوجتي أن تأتي بأبنتي المغمى عليها وشعر رأسها ملتصق على جبهتها من شدة العرق، حضنتها وكانت طفلتي بيننا، وطلبت منها أن تقرأ سورة الفاتحة، بينما بدأ الشباب بالصياح واللوعة بعد ان طالتهم النيران، ومن ثم دخلت علينا لتأكلنا وكنت أسمع الصراخ والدعاء بالتوازي مع هسيس النار الذي بدأ يتسلق أجساد النساء المحبوسة بشعورهن الأشقر والأسود والمحجبات بألوانه الرصاصي والأحمر والأبيض مثل أرواحهن التي بدأت تصعد الى بارئها، ورائحة الشواء تملأ المكان .
كان اليوم هو ليلة القدر، والشوارع مزدحمة والناس في تفاؤل وأمل كبيرين، كنت أحمل طفلتي على صدري، وزوجتي تتأبط حقيبتها وكأنها سندريلا وتتبختر في مشيتها، كانت تحب العطور بشكل كبير وتمتلك من قنانيه الأشكال والأنواع والماركات العالمية بما يثير الانتباه، في البدء لم أكن أعير العطور اية أهمية، ولكني شيئا فشيئا بدأت أنسحب الى حب العطور أيضا.
كان الحديث عن العطور يطرب زوجتي، ولما كنت أحبها بعد أن وجدتها متفانية في خدمتي وبيتها وأبنتها، بدأت أحب ما تحب، كانت حاسة الشم عندها قوية، حتى أنها كانت تكلمني كثيرا عن رواية العطر للمؤلف (باتريك زوسكيند) التي تحولت فيما بعد الى فيلم، كانت تهتم بكل ما يمت بصلة لها، بل كانت تعتقد ان عطور الشتاء تختلف عن عطور الصيف، لأن الانسان في الشتاء يرتدي ملابس ثقيلة ولا بد للعطر ان يعطيه الإحساس بالدفء والأمان بما يتناسب مع جوه البارد الذي يحتاج عطورا ذات تركيز عال وثبات حتى يدوم أطول فترة ممكنة، وعكسه عطور فصل الصيف الذي يعطي الإنسان الإحساس بالأريحية وخفة الوزن ومنع الروائح غير الطيبة التي تنبعث نتيجة الحر والتعرق، ولذلك لا بد اختيار عطور فيها نفحات من الأخشاب والتوابل مع المسك والعنبر .
كان العطر المميز عندها في الشتاء اسمه (مارك جاكوبسن) وهو ماركة عالمية يحمل تركيبة مميزة جدا وفاخرة من النفحات القوية من رائحة الياسمين والسوسن مع رائحة من روائح الورد البلغاري ويتميز هذا العطر أيضا بنفحات مميزة من البرقوق والزعفران ليترك رائحة مميزة ومثيرة لهذا العطر كما أن زجاجة العطر صممت بشكل غاية في الأناقة . وكذلك عطر (مودرن ميوز) الذي يتكون من مجموعة من الروائح المميزة والنادرة كرائحة التوت الأحمر مع الياسمين والباتشول والورد البلغاري المميز بالإضافة إلى رائحة الفلفل الوردي لتتكمل معاني الأنوثة الكاملة لهذا العطر . إضافة للعطور النسائية الرومانسية الجذابة ذات التركيز العالي التي تحمل رائحة نفحات زهر البرتقال مع رائحة مميزة من زهرة الفريزيا والياسمين .
دخلنا مجمع ليث، المتكون من ثلاثة طوابق، ودلفنا في ممر الطابق الأول حتى المحل الأخير الذي كان مختلفا بديكوره الذي يشبه قنينة العطر، كان المحل يحتوي على أنواع مختلفة من العطور الغالية الثمن، لم يكن يأتي بالماركات الشعبية وانما الماركات العالمية الفاخرة، وكانت بعض جدرانه تحتوي على دعاية لبعض أنواع العطور وقربها الممثلة المحبوبة (أنجلينا جولي) دلالة الحداثة، وأخرى مع (صوفيا لورين) دلالة الأصالة، ولما كان صاحب المحل الشاب الثلاثيني، وشعره المرتب على آخر صيحة، وبنطاله الجينز ذا ماركة عالمية وساعته الرولكس، وخاتمه الذهبي الذي كان يتقصد إظهاره لبعض الزبائن من النساء تجنبا للإحراج، وكثيرا ما كان يصحب زوجته معه في العمل، فالنساء تعرف أسرار النساء، كانت تربطنا بهما علاقة مميزة كونهما يحترمان أنف زوجتي المتخصص بأنواع العطور، فلم يكن يطيل جدالها ويخرج لها آخر أنواع العطور الباريسية الحديثة، ورغم سخونة أسعاره، إلا ان ذلك لم يكن يثير حفيظة زوجتي، وكنت بسبب العطر الجديد أعيش ليلة حمراء بعد ان تملأ زوجتي خبايا جسدها بالعطر الأنثوي، كما ترش بعضه في أرجاء الغرفة لتتحول غرفتنا الى جنينة من الزهور العطرة تضوع رائحته البيت كله.
قررت زوجتي أن نصعد الى الطابق الثاني لنشتري لأبنتنا سما بدلة العيد، كانت بداية السلم عند مدخل المجمع، وكان لزاما ان نعود إليه حتى نصعد من جديد الى الطابق الثاني، السلم المغلف بالمرمر، والدربزون الألمنيوم بكرته الكرستالية كانت تضفي عليه رونقا وبهاء، صعدنا الدرج المزدحم بالنساء وهن بين صعود ونزول، وأخذنا نتفرج على بعض المحال حتى وقع اختيارنا على بدلة تليق بسما، كانت بدلة بيضاء نصف كم مفتوحة الصدر بكشكش أزرق، تضيق عند الخصر لتتسع عند الحوض .
اهتزت الأرض تحت أقدامنا وارتجت الحيطان وانقذف الزجاج من مكانه متشظيا الى كل أركان المكان، ولولا الملابس المعلقة عليها والمليكانات الصغيرة التي كانت تملأ واجهة المحل لارتدت بعض شظايا الزجاج على زبائن المحل، تساقطت علب العطور على الأرض وانفجر بعضها محدثا دويا خفيفا وامتلأ المكان بأنواع الروائح الطيبة المختلفة، بينما سقطت الملابس المرتبة على الرفوف الزجاجية، ارتمت زوجتي بحضني باللاشعور خائفة مرتبكة، طمأنتها اننا والحمد لله بعيدان عن هذا الانفجار بعد ان اعتادت آذاننا على تميز صوت الانفجار عن غيره، لكنها أكدت أنه قريب جدا، طلبت منها الجلوس على كرسي قريب الذي أخذت من الأرض بعد ان انكفأ على جنبه وخرجت أستطلع الأمر.
كان المجاز بين المحال ممتلئ بشظايا زجاج واجهات المحال، وبعض الجرحى من الشباب تسيل منهم الدماء، قبل ان أقترب من الواجهة الزجاجية التي تطل على الشارع العام، لاحظت لهيب النار يتصاعد ليعبر الى الطابق الثالث، يا الله لم أستطع الاقتراب من الواجهة لهول ما شاهدته من لهيب النار المتصاعد، بقيت متسمرا في مكاني لا أعرف ما أفعل، أعود لزوجتي وأطلب منها الإسراع بالنزول والخروج من المجمع، أم أنتظر قليلا حتى تخفت النار، بد لهيب النار بالنزول قليلا وتقدمت نحو الواجهة الأمامية، يا ألله انها سيارة مفخخة بالنار (السي فور) انفجرت لتوزع حممها البركانية في المكان، نظرت الى الأسفل كانت بعض السيارات قد اشتعلت بعد ان أصابها العصف، ومن ثم انفجر خزان البنزين فيها ليحرق التي خلفها والتي أمامها، وهكذا بدأت السيارات تشتعل، وصعد من جديد لهيب النار.
عدت الى زوجتي وطلبت منها التماسك والنهوض والإسراع بالخروج من المجمع، كان الدخان بدأ يتسرب الى المجمع وحالة الاختناق بدأت تعصف بالبعض حتى ان سعالهم يسمع صوته بشكل جلي، عندما خرجنا من المحل باتجاه السلم، نظرت من الفتحة المستطيلة التي تتوسط الطابق الثاني نحو الأسفل، كانت النار تزحف نحو المجمع بعد ان أشعلت المحال الأولى، وصوت هسيسها يسمع في أرجاء المكان ليثير الرعب، يا للهول أين المفر، بدأ الزبائن يخرجون من المحال ويطلون برؤوسهم نحو الطابق الأول والنار والدخان تكتسح المكان مثل وباء أو فيضان يكتسح أرضاً منبسطة، في الوقت الذي كانت تتصاعد كذلك نحو الأعلى، حتى ان زجاج الواجهة الأمامية للمحال من الجانبين تكسرت من قوة حرارة النار وضغطها وبدأت تدخل إليها وتلتهم معروضاتهما من الملابس القطنية والبوليستر والحرير والإكسسوارات والعطور مع ديكوره. بعد ان التهمت واجهة البناية المغلفة بمادة الكوبوند السريع الاشتعال .
طلبت من زوجتي ومن موجود في الطابق معنا الصعود الى الطابق الثالث على أمل مجيء سيارات الإسعاف لتطفئ النار قبل ان تصل إلينا، فر الجميع معي الى الطابق الثالث، وكان الدخان ورائحة الاحتراق من الطابق الأرضي تتصاعد وزفير النار وشهيقها وحرارتها وأجواء الخوف والارتباك مسيطر على الجميع . وكان صوت النار يختلف من محل لآخر، فهو عندما يذيب الحديد، غير صوته عندما يلتهم الملابس وكراتين البضائع والدفاتر والستائر والمخازن بينما كانت محال العطور تزيد سعير النار وتزيد من لهيبها.
كانت اصوات اصحاب محال وزبائن الطابق الأول محصورة تلوج وهي تصرخ، بينما النار تزحف نحوهم وهي تزداد سعيرا، كانت المحال ممتلئة بالبضائع السريعة الاشتعال ما يساعدها على الاتقاد أكثر وأكثر، كانت الأرواح تتلوى صاعدة الى الفضاء وألسنة النيران تحاول الإمساك بها، ضغط النار وهسيسها يتقدم نحو الأجساد التي تزاحمت في آخر القبو، النيران في كل مكان. استطعت ان أرى عن بعد شقق البناية التي أمام المجمع، كانت النيران التي بدأت تتسلل من نوافذ الشبابيك وفتحات الأبواب تعمل جاهدة على منع خروج الأصوات من تلك الشقق وهي تستنجد لاهثة خائفة محاصرة، وكلما أنطلق صوت من أحدهم أخرسه لسان نار . كانت الأصوات تتساقط الواحد تلو الآخر قبل أن تخرج من أفواه الأمكنة، كان البعض يستصرخ الله ان يجيره من النار يستصرخ رحمته وقوته وجبروته ان يطفأ النار التي بدأت تتسلق الى شقته بعد ان تحولت أرضيتها الى قطعة من الجمر المجمر وقد صهرت من كان فيها، بعض الشقق دخلها الدخان مثل ألسنة الأفاعي يحمل سموم الاختناق ممهدا لناره مقبلة لتحرق أجسادهم وتأكل أجسادهم.
انطفأت الكهرباء بعد ان أتت النار على الأسلاك ومنظومة كهرباء المجمع، ولكن نور النار كان كافيا ليكشف عن أماكننا وزمزمة لهيبها تنذر بالتهامنا. سألت صاحب المحل القريب مني ان كانت باب سطح البناية مفتوحا، ولكنه أكد ان كثرة الشكاوي منا لصاحب المجمع بعد تصرفات مشينة من البعض جعلته يلحم الباب بإطارها الحديدي، بعد ان كسر قفلها أكثر من مرة ولم يجد بد من هذا الحل النهائي لغلقها.
كانت النار تهجم على المجمع من ثلاث جهات، من الطابق الأرضي وهي تتصاعد نحونا، ويمد يد العون لها الطابق الثاني الذي دخلت عليه النار من واجهته الزجاجية، إضافة الى دخولها من الواجهة الزجاجية للطابق الثالث، بدأنا نتصبب عرقا، وصفرة الموت توشح وجوه النساء والأطفال تصرخ، بينما سما أغمى عليها من شدة الحرارة التي أحاطت بالمكان وكأنه فرن في أول اشتعاله .
اجتمع في نهاية الطابق الثالث أكثر من مـــئة شخص كانوا من أصحاب المحال وعمالهم وزبائنهم وبعض النساء اللاتي دخلن من أجل النزهة وشباب من أجل قضاء وقت جميل والفرجة، وبائع شاي سفري وفقير دخل يطلب حسنة، انسابت روح امرأة وسقطت على الأرض فبدأت النساء بالصياح، وكأنهن يردن حجة لإخراج الخوف من داخلهن، كان المكان تعلو حرارته بشكل مخيف، طلبت من النساء الرجوع الى المحل الأخير بعد إفراغه من بضاعته وساعدهن في ذلك بعض الشباب الذي أفرغوا المحال المجاورة له، وبدأوا بقذف البضاعة الى النار المتصاعدة آملين بسيارات الإطفاء لحاقهم قبل ان تلتهمهم النار، لكن صوت النساء كان يعلو بين الدعاء والصراخ بين الخوف والارتباك بين العطش والجوع، فالموت محقق لأن الجميع محصور في مكان واحد، أحد الشباب صعد الدرج من جديد وحاول جهده ان يكسر باب السطح لكنه محاولته باءت بالفشل .
بدأت النار تأكل أول محل من الطابق الثالث وامتدت الى المحل الذي قربه، وهكذا بدأت تسير ببطء نحونا حتى أصبح المكان حاراً جدا والتعرق يتفصد من أصداغنا وباقي أجزاء اجسادنا بشكل ملفت للانتباه كان خليطاً من الخوف والحر والاختناق، بدأت قوانا تخور والضعف يدب فيها، والأرض التي تحت أقدامنا شديدة الحرارة، جاءت بعض النسوة يطلب أي شيء يقفن عليه لأن الأرض أصبحت لا تطاق وبعضهن تركن أحذيتهن لحظة الهرب، رجعت الى محل قريب من المحل الذي تجمعن فيه وسحبت طاولة إليهن وطلبت منهن الوقوف عليها على أمل فرج قريب.
عندما رجعت الى حيث كنت أقف، لم يكن هناك أي أمل في إنقاذنا فالنيران تزحف صوبنا، فقررت العودة الى زوجتي لأموت معها، كان المحل مزدحما بالأنفاس الحارة والاختناق يطال الجميع طلبت من زوجتي أن تأتي بأبنتي المغمى عليها وشعر رأسها ملتصق على جبهتها من شدة العرق، حضنتها وكانت طفلتي بيننا، وطلبت منها أن تقرأ سورة الفاتحة، بينما بدأ الشباب بالصياح واللوعة بعد ان طالتهم النيران، ومن ثم دخلت علينا لتأكلنا وكنت أسمع الصراخ والدعاء بالتوازي مع هسيس النار الذي بدأ يتسلق أجساد النساء المحبوسة بشعورهن الأشقر والأسود والمحجبات بألوانه الرصاصي والأحمر والأبيض مثل أرواحهن التي بدأت تصعد الى بارئها، ورائحة الشواء تملأ المكان .