محمود سلطان - الرومي.. واحمد مطر.. امتداد روحي إنساني

منذ قرأتُ لمولانا جلال الدين الرومي (1207مـ ـ 1273 مـ ) قصيدته المترجمة عن الفارسية "أنين الناي" والتي يقول فيها :
أنصت إلى الناي يحكي حكايته..
ومن ألم الفراق يبث شكايته:
ومذ قُطعتُ من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون
أريد صدراً مِزَقاً مِزَقاً برَّحه الفراق
لأبوح له بألم الاشتياق..
فكل من قطع عن أصله
دائماً يحنُ إلى زمان وصله..
منذ قرأتها لم أجد ما يناظرها في الشعر العربي قديمه وحديثه إلا قصيدة أحمد مطر "حديث الأبواب".. يقول مطر في مستهلها:
كُنّا أسياداً في الغابة.
قطعونا من جذورنا.
قيّدونا بالحديد. ثمّ أوقفونا خَدَماً على عتباتهم.
هذا هو حظّنا من التمدّن.
ليس في الدُّنيا مَن يفهم حُرقةَ العبيد
مِثلُ الأبواب !
قصيدة مطر من القصائد النادرة جدا في الشعر العربي من حيث فحواها "الإنساني/الفلسفي".. والتي تستحق أن تترجم إلى لغات أجنبية.. ومن شأنها أن تحجز لها بطاقة بين جوائز "نوبل "المحتملة.. فيما من شأنها ـ أيضا ـ أن تنقل "مطر" من منزلة شاعر "عربي/إقليمي" إلى منزلة تعدل منزلة جلال الدين الرومي الذي بات أحد أهم الشعراء العالميين.. وبات مقامه في مدينة "قونية" التركية، قِبلة الزائرين المتبتلين بحبه من كل أنحاء العالم.. ولقد رأيت ذلك بنفسي، عند زيارتي له في تلك المدينة التي تُعتبر عصب الدولة التركية.. عام 2017.
القصيدة، تعتبر نقلة مفارقة لما هو كان سائدا قبل مطر ولا يزال حتى الآن قابضا على قدرة الشاعر العربي على تجاوز موضوعاته المملة والسمجة "الغزل، المديح، الرثاء، الهجاء وما شابه" .. حتى أنه الآن ـ وبعد غيابه ووفاة نزار قباني والنواب ودنقل وصلاح عبد الصبور" ـ قلما تجد قصيدة واحدة تنتقد القمع الرسمي العربي، وتناقش ملفات المعتقلين السياسيين وغياب الحريات والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.. وتناقش ولو في جانب منها، بجرأة قضايا "الهم العام" يحفظها الناس عن ظهر قلب: غالبية ما يكتب الآن.. من شعر.. هو شبيه الـ "الوجبات السريعة" التي تصيب الشرايين بالتصلب والقلب بالجلطات والعقل بالزيهايمر.. وموضوعات بلاستيك مثل "خيار الصوبات".
يقول مطر فيها أيضا في رائعته النادرة:
وَحْدَهُ يعرفُ جميعَ الأبواب
هذا الشحّاذ.
ربّما لأنـه مِثلُها
مقطوعٌ من شجرة !
(4)
يَكشِطُ النجّار جِلدَه ..
فيتألم بصبر.
يمسح وجهَهُ بالرَّمل ..
فلا يشكو.
يضغط مفاصِلَه..
فلا يُطلق حتى آهة.
يطعنُهُ بالمسامير ..
فلا يصرُخ.
مؤمنٌ جدّاً
لا يملكُ إلاّ التّسليمَ
بما يَصنعهُ
الخلاّق !
(5)
( إلعبوا أمامَ الباب )
يشعرُ بالزَّهو.
السيّدةُ
تأتمنُهُ على صغارها !
(11)
حَلقوا وجهَه.
ضمَّخوا صدرَه بالدُّهن.
زرّروا أكمامَهُ بالمسامير الفضّية.
لم يتخيَّلْ،
بعدَ كُلِّ هذهِ الزّينة،
أنّهُ سيكون
سِروالاً لعورةِ منـزل !

القصيدة طويلة نسبيا ولكنها تستحق القراءة والاستمتاع بها.





356956918_989290865442620_4033753244361991049_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى