شهادات خاصة حسن بيريش - بورتري - محمد بشكار.. تلقيت سلطة هامشه فوضعني في طاعة متنه!

(1)
"أُرِيدُ بَيَاضِي لِأرْفَعَ لَوْنَهُ بَيْنِي
وَبَيْنَ الكِتَابَةِ رَايَةَ سِلْمٍ إلَى
أَجَلٍ لَنْ أُسَمِّيهِ كَيْ لَا
يَصِيرَ لِعُمْرِيَ تَارِيخْ..".
كَيْ تَسْتَمِرَّ حَيَاة القصيدة، هَوَيْتُ إِلَى قعر يده باحثا عن ذاك الحبر الذي تَلَقَّيْتُ، ومفتشا بين بَعْضِ شِعْرٍ، جاءني من قلبه؛ عن مزن غَيْمَةٍ هطالة في سماء غُصَّتِه !
وكَيْ، هذه، هي وسيلتي للمشي فوق حبال لغته؛ والقفز من العلو الشاهق لروحه. يخامرني يقين الشك، وأنا أقرأ فواتح نصوصه، كأني فيه أعرف طريقي، كأنه بي ينتج خطوه؛ ثم في الغي نلتقي كَيْ نفترق.
محمد بشكار "آمُرُنِي وَلا أُطِيعْ ..!".
"مَا
مَشَيْتُهُ يُوجِزُنِي
فِي حِذَاءٍ،
وَكُلُّ الحَقائِبِ تَفْتَحُ
فِي سَفَرِي
قَبْرَهَا لِأعُودَ
إلَى جَسَدِي فِي
التُّرَابْ".
(2)
"جَاءَ قَلْبِي؛
وما مِنْ مَسَافَات !".
لم أكن أدري، وأنا أتلقى سلطة هامشه، أنه سيضعني في أرخبيل متنه، ربما لأنه لوح لي ببعضه كي أقع أسيرا لكله، وربما لأني جئت إليه من ٱخر ذهابي؛ كي يأتي إلى من أول رجوعه.
هو الالتباس المنشرح - توكيدا - من يطوح بي نحو مخابىء عبارته؛ ويؤول به - ظنا - صوب إغوائي عبر جاذبية مجازه. إبان هذا التيهان، الذي يقودني، مثل يد تبصر، نحو صوغ صبوات بصيرته، يتبدى، إزاء ذهولنا معا؛ نائيا عن ممد تأويلي.
في أوج هذا التماس المندهش، تطلق لغته ضحكة استعارية ساخرة؛ يصلني رنين كنايتها عبر بوارق بياضه المحتفي بفراغات النص. يتوقف حبري عن الهطول، يربض في منتصف دهائه؛ فأدرك - وأنا ألهث في منعرجات نصوصه - كم كانت محبرتي غبية حين ظنت أنها قد تسع معدل الأنفاس في إجهاشه.
"إذَا جَاءَ
قَلْبِيَ قَبْلِي، وَقَدْ
أَفْرَغَتْهُ المَسَافَاتُ مِنْ
كُلِّ نَبْضِ،
افْتَحِي لَهُ بَاباً
بِقَلْبِكِ، أَوْ
أُتْرُكِيهِ يَدُقُّ
قَلِيلاْ
لِكَيْ يَتَعَلَّمَ أَنَّ
الحَيَاةَ الَّتِي خَلْفَ
بَابِكِ يَعْبُرُهَا
الشَّوْقُ
جِسْراً طَوِيلاْ".
(3)
"اليوم أبعثُني من
رميم حروفي
حيا لأشقى فَيَا
ليت ما كتبتْه
يدي
لبياضه تاب !!".
كل جملة تشكل نصا. كل نص يحيل إلى عبارة.
دون هذا الأفق اللولبي، هو لا يكتب؛ حتى لا يضطر إلى اعتراض سبيل الشعر في ممرات ليست له. وفق هذا المنحى، أتخيل أن محمد بشكار لا ينتظر إلهام النص؛ بل يبادر إلى استنزاله.
لذا، أدرك مكره، مثلما أستوعب محفزات التنزيل عنده، حين أربط بين نصه، هذا الذي يصغي إلى وشوشة الأقاصي، وبين شاعريته، هذه التي توغل في ٱثام البراري، كي تقبض على عصارة الذنوب، التي تشكل مهماز شعره، هذا الجوال؛ الصوال.
كثيرا وجدتني ألاحق طرائده، كي يطارد بندقيتي، ونقع، معا، في مصائد نص يجعل العين تتفرس في تحليقه، لتستوعب علو فراسته؛ وتدرك مكامن فرادة بياضات تسديداته.
"إنْ تَكُنْ صَفْحَتِي
امْرأةً سَوْفَ
تَبْدَأُنِي حِينَ يُوصِلُنِي
للنِّهَايةِ مَا
قَدْ مَحَوْتُهُ مِنْ
أَثَرِالذِّكْرَيَاتِ، فَمَنْ
عَاشَ كُلَّ مَمَاتِهِ مِثْلَ
الحَيَاةِ التي سَطَّرُوهَا وَمِنْ
دُونِ نُونٍ، فَمَا زَالَ
فِي رَحِمٍ عَالِقاً
لا أحدْ !".
(4)
"عُدْ لِقَلْبِكَ وَافْتَحْهُ
بَيْنَ يَدَيْكَ
كِتَاباً
لِتَقْرَأَ أبْيَاتَ
شِعْرٍ حَكِيمٍ وَرَتِّلْهُ
فِي اليَوْمِ مِيلَاْ..!".
ينتبه بوعي عجيب اللغة، تبدو فيه البصيرة عنوان بصر، كما يهفو فيه الخطو إلى طريق. ومع ذلك، هو يسير بلا تعثر كي يبلغ سدرة القصيدة المحلوم بها.
ولا شيء في محمد بشكار يبقى على حاله، وهو يدون ما فاض من خطوات لا ظل لها إلا تلك الاستعارة التي تمرح هنا وحيدة في السطر، ولا فاصلة.
ألهذا يأتي صيفه على هيىة شتاء، ثم يأتي ربيعه على شكل خريف، ولا فصول عنده سوى حر القصيدة ؟!
"وَلا تَدَعِ
الحُبَّ يُصْبِحُ
حَبْلاً
فَمَهْمَا مَضَيْتَ
بَعِيداً بِقَلْبِكَ تَبْقَى
قَرِيباً
مِنَ الوَتَدِ..!".
(5)
"أقْلِبُ
الصَّفْحَةَ الكلِمَاتُ
تُرَافِقُنِي حَيْثُما انْقَلَبَتْ
صَفَحَاتِيَ جَوْعَى
تُرافِقُنِي
تِلْوَ أُخْرَى لِاُطْعِمَهَا
مِنْ فُؤَادِيَ
نَاراً،
أُرِيدُ الذَّهَابَ لِأبْعَدَ
مِنْ كَلِمَاتِي
لِأخْلُو لِنَفْسِيَ
فِي صَفْحَةٍ لَا يَزَالُ
بِرَعْشَتِهَا بَعْضُ
أَنْفَاسِي..".
إلى الأماكن القصية، تلك المحجوزة لسؤال النص، يذهب شاعرنا. يظهر لي أنه يعيد تأسيس بصره وهو يتجول في الأشياء العابرة حتى يدرك كنه مصيره في زوالها، وربما كي يدرك حاجته إلى مشاكسة العالم.
أليست القصيدة "صرخة في وجه العالم"، كما قال درويش خالد الشعر والذكر ؟!
لذا، أفهم أنا أنه دوما على أهبة ليلوذ بالمحو، ويهزم ذاكرة الأشياء المتسربة من بين حروفه.
وإني أزعم أنا ما يتسرب منه، إبان كتابة النص، لا يضيع، وإنما يصلنا طازجا ومحجوبا، ذلك لأن الكتابة الشعرية، كما يراها ويمارسها، هي طاقة للبقاء في عز الزوال.
"عُدْ
لِقَلْبِكَ أَنْصِتْ لِخَفْقِهِ قُلْ
مَا يَقُولُ فَإِنْ كَانَ
حُبّاً فَقُلْهُ
بِصَوْتِ الطُّيُورِ
لِتَأْتِيكَ دُونَ جَنَاحٍ
سَمَاءٌ وَطِرْ فَرَحاً فَإذَا
لَمْ تَطِرْ امْشِ
عَلَى حَدِّ سِكِّينِهَا
أُفُقاً
لا يُهِمُّكَ أنْ تَتَرَاقَصَ
ذَبْحاً..!".
(6)
كُنْ كَمَا أنْتَ".
قالها بيقين العارف، ثم سار خطوتين في نَفْسه، ووضع اليَدَ في اليَدِ، وقال لي، وهو يغيب في زحامه، "نَفْسكَ كُنْهَا"، ثم عدت إلى "نَزِيفِ الكِتَابَةِ"،
وصاحب "النُّسْخَة الأخِيرة لِآدَمْ"، يفْرد للحلم ديوان شعر كَيْ "يحرِّره من الوسادة"، مما يمنحني شرعية القول بأن عناوين دواوينه، تلك التي تتشكل في دخائل أرخبيل جدارته، تمثل نصوصا قائمة الاسم؛ مشرئبة الذات.
"ملائكة في مصحات الجحيم".
"خبط طير".
"المتلعثم بالنبيذ"
"عبثا كم أريد".
"حلم أعلى الوسادة".
نحات هو محمد بشكار؛ وإزميل هو قلمه. من العتبة الأولى يحيلك - توا - إلى بهو النص. وحين تلج، ترى، بأم إعجابك، كيف يخلخل فيك الجاهز، وكيف يكسر فيك أفق انتظارك؛ ليأخذك إليه من أول وهلة.
(7)
"يَكْبُرُ
الوَقْتُ فِيَّ أنَا
مَنْ غَدَا طَاعِناً فِي
الحَنِينْ".
الوقت رمز نصه. ونصه موج وقته. هكذا أراه من شسع بحر القصيدة، حين يدونها في محبرة الزمن. والتدوين عند شاعر من طراز بشكار، ينكتب في صلب اللحظة، ثم يبدع في أوج الموجة، ثم يعلو إبان زبد النظرة !
"يَكْبُرُ الوَقْتُ
فِينَا وَنَصْغُرُ
فِي الوَقْتِ إذْ نَنْحَنِي
وَنَهِيضُ بِثِقْلِ
السِّنِينْ".
هو عبور بين نورستين، وذهاب إلى رغوتين، ومكوث جميل في لجتين. من هنا - ربما - يبدو لي بشكار كما لو أنه بلا شراع يبحر، تكفيه اللغة ليكتشف ما شاء من قارات المعاني خارطته هي وعيه الجمالي بالشعر.
"مَا مَشَيْتُهُ فِي
عَالَمِي،
لَمْ يَزِدْنِيَ إلَّا
سُطُوراً وَمَاذَا
تُفِيدُ الكِتَابَةُ مَا
لَمْ أجِدْ فِي المَسَافَاتِ
نَفْسِي لِتُصْبِحَ
نَفْسِيَ مَنْفَى وَيَا لَيْتَ
نَفْسِي بلادْ".
(😎
"معَالَم تُفِيدُ
الكِتَابَةُ حِينَ أُعَذِّبُ
مَعْنىً بَرِيئاً أَسُوقُهُ
بِالكَلِمَاتِ إلَى
سَوْطِ جَلَّادْ؟".
في بنية لغته تَارِيخْ بلاغة. في شجون بلاغته تَارِيخْ لغة. ما يشي بأنه بحرائق الدوال يكتب، وما يؤكد أنه ببرودة الثلج يبدع، و كل المحيطات محجوزة للغته؛ تلك التي تريك أوج الشمس في عز الليل.
كثيرا حدث أن ذهبت إلى فصاحته ولم أعد. ليس لأنه قام بالقبض علي؛ بل لأني قبضت عليه. من هنا، إذا أنا مارست لجوئي إلى فضاء لغته، فضلت المكوث في لغة فضائه؛ ولا أبتغي غير النهل من ينبوع فتونه.
"أُرِيدُ الذَّهَابَ لِأبْعَدَ
مِنْ كَلِمَاتِي لَعَلِّيَ أخْلُو
لِنَفْسِيَ فِي صَفْحَةٍ، بَيْنَنَا
لا حِجَابٌ، وَإنْ كَانَ
سَقْفاً فَأُوثِرُ قَوْساً كَخَصْرِ
النِّسَاءِ، وَلَا بَحْرَ يُسْعِفُنِي
مَدَداً كُلَّمَا جَفَّ فِي القَلَمِ الحِبْرُ كَيْ
لَا تُرَافِقُنِي نُطَفُ الكَلِمَاتِ...".
(9)
"أُرِيدُ بَيَاضِي".
هكذا جاهر بالذي فيه، بالذي فينا؛ غير معني سوى بالقبض على المارين في جسد كَلِمَاتِه.
"وَمِلْءَ
يَمِينِي كِتَابِيَ أَبْيَضَ مِنْ أَيِّ
ذَنْبٍ سِوَى بَعْضِ شِعْرٍ فَمَا
عَادَ فِي زَمَنِي الشِّعْرُ يُغْوِي
عَلَى أَرْضِنَا أَحَداً".





357393305_1037119934096476_5342449822400547455_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى