محمود سلطان - نزار ومحمود عثمان.. والحب في تونس

تونس.. هذا البلد "الفريد".. يبدو لي أن آباءنا "من المسلمين" كانوا يعرفون قدره فأنزلوه منزلته.. واختصروا "إفريقيا" كلها فيه.. فأطلقوا على تونس اسم "إفريقية".. وتونس ـ لغة ـ اسم له أصوله البربرية.. تعني : الاستراحة.. فيما يقال إنه ـ أي هذا البلد ـ أطلق عليه "تونس الخضراء" لوجود أكثر من 30 مليون شجرة زيتون على سواحله.. والبعض أرجعه إلى قصة حب "حزينة" جمعت الأميرة "أسماتا" بزوجها القائد براجليون".. وهي قصة أخرى.
المدهش.. أن تونس يعد البلد العربي الأكثر إلهاما لكبار الشعراء.. ويبدو لي أن أجمل ما كُتب من شعر.. كُتب في حب هذا البلد "العبقري" الذي جمع ببراعة بين "الأصالة والمعاصرة" في هويته المعمارية من جهة والثقافية بكل تفاصيلها من جهة أخرى.. وهو ما رأيته بنفسي في زيارة لي لتونس.
كتب نزار قباني أجمل قصائده على الإطلاق ـ درة من درر الشعر العربي في تاريخه كله ـ في "حب تونس".. قصيدة طويلة الأبيات تتجاوز التسعين.. كتبها على بحر "الكامل" ويبدو أنه ألقاها في مهرجان قرطاج.. وفي السياق.. لفت انتباهي قصيدة كتبها الصديق العزيز والشاعر والأكاديمي اللبناني الكبير د. محمود عثمان بعنوان "قرطاج" ألقها أيضا في ذات المهرجان.. بعد سنوات طويلة من قصيدة نزار.. والأكثر دهشة أن عثمان كتبها أيضا على بحر "الكامل".. ونزار وعثمان اجتمعا على قافية بتفعيلة "علة القطع" ـ كما يعرفها العروضيون والشعراء ـ في بحر الكامل بنوعيها "السليم /مُتَفَاعلْ.. والمضمر/ مُتْفَاعِلْ".
والزحافات والعلل ـ في علم العروض/بحور الشعر ـ هي من قبيل "التسامح الخليلي" مع الشاعر، لمنحه مساحة أكبر في المناورة والهروب من القيود الخليلية الصارمة.. لكنها تحتاج إلى مهارة و"موهبة" حقيقية، حتى لا يكون النص خشنا "وثقيل الدم".. ويخصم من موسيقيته التي تنتزع الآهات ..
نزار وعثمان.. استخدما "علة القطع" ليحيلا النص إلى "فراشة" تتنقل فوق رؤوس الشجر بانسيابية أو إلى "راقصة باليه" تتحرك فوق المسرح بأناقة وشياكة وبخفة الفراشات الملونة.
اترككم الآن مع قصيدة د. محمود عثمان.. ويليها جزء من قصيدة الأستاذ نزار قباني :

قرطاج
محمود عثمان

قرطاج
من مرفأ التَّاريخِ يا قرطاجُ
إنِّي أتيتُ وزورقي الأمواجُ

هذا جبيني بالثلوج مُكَلَّلٌ
مالتْ عليهِ الشَّمسُ والأبراجُ

من غابةِ الشَّربينِ نفحُ قصيدتي
فإذا مشَيتُ تلفَّتَتْ أحراجُ

من قلب إليسَّا حملتُ رسالةً
والحرفُ مثل دموعِها وهَّاجُ

المبحرونَ وفي العيونِ صبابةٌ
والعائدونَ على الرؤوسِ التَّاجُ

الضَّادُ نورُ عيونهم وكتابُهم
والخبزُ والتنُّورُ والمهباجُ

يا شاطئ الخضراءِ رُشَّ وجوهَنا
ماءَ الصَّلاةِ فإنَّنا حُجَّاجُ

في القيروان التونسيِّ إمامُنا
وحديثُنا القدْسيُّ والمِنهاجُ

والياسمينُ على الدُّروبِ قوافلٌ
صعدتْ تغنِّي والسَّماءُ سِياجُ

يا أيُّها الشَّطُّ الجميلُ كخُصلةٍ
راحتْ تداعبُ في الهوى المِغناجُ

بينَ التِّلالِ الشَّامخاتِ على الأسى
وشواطئِ الحُبِّ القديمِ زواجُ

قرطاجُ صُبِّي قهوةً عربيَّةً
لِيطيبَ جرحُ أو يطيبَ مِزاجُ

رُدِّي إليَّ الأبجديَّةَ غَضَّةً
من ثغرِ طفلٍ في يديهِ سِراجُ

يا نخلةً أسرى إليها بدرُنا
لبنانُ طارَ وحُبُّكِ المِعراجُ

ــــــــــــــــــــــــــــ
ـ تنزار قباني

يا تونس الخضراء .. جئتك عاشقاً
وعلى جبيني وردة وكتاب

إني الدمشقي الذي احترف الهوى
فاخضوضرت بغنائه الأعشاب

أحرقت من خلفي جميع مراكبي
إن الهوى أن لا يكون إياب

أنا فوق أجفان النساء مكسر
قطعاً , فعمري الموج والأخشاب

لم أنسَ أسماء النساء .. وإنما
للحسن أسبابٌ , ولي أسباب

يا ساكنات البحر .. في قرطاجة
جف الشذا , وتفرّق الأصحاب

أين اللواتي حبهن عبادة
وغيابهنَّ , وقربهنَّ , عذاب

اللابسات قصائدي ومدامعي
عاتبتهن فما أفاد عتاب

أحببتهن , وهن ما أحببنني
وصدقتهن , ووعدهنَّ كذاب

إني لأشعرُ بالدوار .. فناهد
لي يطمئن .. وناهد يرتاب

هل دولة الحب التي أسستها
سقطت عليَّ .. وسُدت الأبواب

تبكي الكؤوس ، فبعد ثغر حبيبتي
حلفت بأن لا تُسكر الأعناب

أيصدني نهد تعبت برسمه ؟
وتخونني الأقراط والأثواب ؟

ماذا جرى لممالكي وبيارقي ؟
أدعو رباب .. فلا تجيب رباب

أأحاسب امرأة على نسيانها
ومتى استقام مع النساء حساب ؟

ما تُبْتُ عن عِشقي .. ولا استغفرتُهُ
ما أسخف العشاق لو هم تابوا …

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى