د. فارس الحسيني - (القرابين الجنائزيَّة) في الأديان العراقيَّة القديمة! - المقالة الثَّانية _ .

المقالة الثَّانية _ .


إِذا كانتِ القرابينُ لِلآلهةِ غَرَضُها إِطعامُ الآلهة _ كَما مَرَّ بِنا آنفًا _ ، فَإِنَّ القَرابينَ الجَنائِزيَّة غايتُها هِيَ إِطعامُ النَّاس المَوتى وإِرواءُهُم ! ؛ إِذ هناك مَوعدانِ لِإِقامة تلكَ الطُّقُوس الجَنائزيَّة (( أَوَّلُهُما شَهريٌّ ، والثَّاني سَنَويٌّ ، فَالأَوَّلُ كانَ يُقامٌ شَهريًّا في اليوم التَّاسع والعشرينَ من الشَّهر ، وهو اليومُ الَّذي يَكونُ فيهِ القَمَرُ مُحاقًا وكانَ يُدعى ( bubulu ) ، وهو يومٌ تَتَجمَّعُ فيهِ أرواحُ المَوتى ، ويَقُومُ الأَحياءُ في أَثنائِهِ بِتَقديمِ القَرابين وإِقامةِ الشَّعائِر لَها ، وقد وُصِفَ بِأنَّهُ :
يوم القرابين الجنائزيَّة
يوم سَكْبِ الماءِ إِلى أرواحِ الموتى
كَما أُطلِقَتْ عليهِ عِدَّةُ نُعُوتٍ ، منها (( يوم وَليمة الموتى )) ، و (( يوم الكآبة )) ، و (( يوم النَّدب )) ...
أَمَّا الموعدُ السَّنَويُّ لِإِقامة الطُّقُوس الجنائزيَّة ، فَقد كانَ في شهر (( آب)) ، وهو الشَّهر الخامسُ في التَّقويمِ البابليِّ ، وكانتْ تُقَدَّمُ فيهِ مختلِفُ أنواعِ القَرابينِ لِأرواح المَوتى ، وَتُرفَعُ المَشاعِلُ لَهم وتبلغُ الطُّقُوسُ ذروتَها في اليومِ التَّاسع من هذا الشَّهر الَّذي كانَ يُشارُ إِليهِ بِأَنَّ أرواحَ المَوتى تَنعتقُ من احتجازِها في العالَم الأَسفَل . ))
وَيَبدُو أَنَّ القرابينَ الجنائزيَّة لا تُعبِّرُ عن حُبِّ الأَحياءِ لِلأمواتِ من أقارِبهم وأنسبائِهم وأحبابهم فقط ، وَإِنَّما خَوفًا منهم ! ؛ إِذْ (( كانَ انقطاعُ القَرابينِ والسَّوائل عن الأرواحِ يُؤدِّي إِلى جَعلِها أَمامَ أَمرينِ : فَهي إِمَّا أن تَبقى مُعتَمدةً على الطِّينِ والماءِ العَكِرِ ، غارِقةً في بُؤسِ العالَم الأَسفَل ، أو أنَّها تَخرجُ إِلى عالَم الأَحياءِ غاضِبةً مُنزَعجةً ؛ تَأكلُ فَضَلاتِ الشَّوارع ، وتَتَربَّصُ بِالأَحياءِ ؛ لِتَشُعرَهُم بِوجوبِ ذِكرِها وإِيفائِها حَقَّها ، وذلكَ بِإِلحاقِ الأَذى بِهم أو لِلانتقامِ منهم ؛ لِتَسَبُّبِهم في حرمانِها الرَّاحةَ في العالَم الأَسفَل )) ؛ إِذْ (( كانَ يُنظَرُ إِلى أرواحِ المَوتى على أَنَّها تَبقى مُحتَفِظَةً بِجُزءٍ من نشاطِها الجسديِّ ، كَما أَنَّها تَمتلكُ قُوًى خارِقةً لِلطَّبيعة )) ؛ لِذلكَ كانَ الأحياءُ يَتَضرَّعُونَ إِلَيها عِندَ نُزولِ البلاءِ بِهم !
وفي كُلِّ ديانةٍ وَثنيَّةٍ ، فَإِنَّ (( تقديمَ القرابين ، بعدَ الرُّؤى والأَحلامِ أو في أعياد الموتى، إِنَّما يَستهدفُ استعادةَ العَلاقةِ الوديَّة بينَ الأَحياءِ وَأسلافِهم مِنَ المَوتى ، وَتجنُّبَ ما قَد يُحدِثُونَهُ مِنْ أَضرارٍ وآلامٍ لِأَحفادهم مِنَ الأَحياء )) !
وقد آمنت الدِّيانة المصريَّة القديمة بِفكرةِ ( القرابين الجنائزيَّة) ؛ فَقد اعتَقَد المصريُّونَ القُدَماءُ بِأَنَّ الموتى يَأكلُونَ وَيشربُونَ في العالَم السُّفليِّ ، ففي ( كتاب الموتى) فَصلُ (( عدم أكل القَذارة وشرب الماءِ العفِن في العالَم السُّفليِّ )) .
وقد اعتقدَ سُكَّانُ وادي الرَّافدينِ بِخُروجِ بعضِ الأرواح من القبور أو من العالَم الأسفل على هيأة أشباحٍ تُهاجِمُ البَشَرَ ، ويُمكنُ إِجمالُ تِلكَ الأرواحِ بِما يَأتي :
1. رُوحُ الميت غير المدفون !
2. روح الميت الذي لم يلقَ عنايةً لائقة !
3. روح الميت الذي لم تُقدَّم لَهُ القرابين الجنائزيَّة !
4. روح الميت الذي لَم يُسكبْ لَهُ الماءُ !
5. روح الميت الذي لم يُذكَر اسمُهُ !
6. أرواحُ الذين ماتُوا بِسبب حوادثِ ، كالسقوط من نخلةٍ ، أو الموت في غرق سفينة ، أو بسبب الموت المُبكِّر ، أو بسبب وباءٍ ! ، أو بسبب الموت الفُجائي ، أو بسبب المجاعة ، أو الجفاف ، أو الصاعقة ، أو الشاب الذي ماتَ عزبًا بِعمر الزواج ، أو الفتاة العذراء ، أو الذي يَموتُ غريبًا ؛ فَيُشارُ إِلى رُوحِهِ بِ( الرُّوح الغريبة) !
7. المرأة التي ماتتْ في المَخاض ! ، وهذهِ الخُرافةُ موجودةٌ في أوروربا ، أيضًا ، لِلمرأة المُتوفَّاة ، (( وخاصَّةً أرواح النِّساء الشّاَبَّات اللَّواتي قَضَينَ نحبهُنَّ في الولادة )) !
وَخُلاصةُ الكلامِ في العالَم الآخَر _ عند أهل الرَّافدين القُدماء _ إِنَّهُ (( عالَمٌ لا يُنيرُهُ أَيُّ شُعاعٍ من نُورٍ ، يَلفُّهُ الغُبارُ لَفًّا تامًّا ، يَنعدِمُ فيهِ الهواءُ ، وينقُصُهُ الطَّعامُ والشَّرابُ ، لا تَجِدُ أرواحُ المَوتى ما تَعيشُ عليهِ إِلَّا ما يُقَدَّمُ لِلموتى مِن نُذُورٍ وقَرابينَ ، فَإِذا لَم يَتَذَكَّرْهُم أَحَدٌ ؛ فَإِنَّهُم سَوفَ يُردَّوْنَ إِلى الأرضِ ؛ ليملئوها أوبئةً ، وآنذاكَ ، يَعيشُونَ على ما يَجِدُونَ من فَضَلاتٍ في المَجاري )) .
........................
تنويه : المقالة مُستندةٌ إِلى المراجع الآتية _ حسب ورودها في النَّصِّ _ :
1. (( عقائِد ما بعد الموت ( في حضارة بلاد وادي الرَّافدين ، د. نائل حنُّون ، دار الشُّؤون الثَّقافيَّة العامة ، وزارة الثَّقافة والإِعلام ، العراق _ بغداد، 1986 ، ص145 . ، ص287 _ 288 ، ص123_ 124 ، ص125 ، وَيُنظَر : ص127 . ، ص129 . )) .
2. (( تأثير الإِسلام على الوثنيَّة ( دراسة أَنثروبولوجيَّة ) ، د. فاروق إسماعيل ، دار المعرفة الجامعية ، إسكندرية _ مصر ، 1987 ، ص167 . ))
3. (( كتاب الموتى الفرعوني ( عن برديَّة آني بِالمتحف البريطاني ) ، ترجمه عن الهيروغليفيَّة : السِّير والس بدج ، التَّرجمة العربيَّة : د. فيليب العطيَّة ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، ط2 ، 2000 ، ص180 ، وَيُنظر : ص149 . )) .
4. (( معجم الخرافات والمعتقدات الشَّعبيَّة في أُوروبا ، بيار كانا فاجينو ، ترجمة : أحمد البطال ، المؤسسة العربية الجامعية لِلدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت ، ط1 ، 1993 ، ص119 )) .
5. (( الحياة اليوميَّة في بلاد بابل و آشور ، جورج كونتينو ، ترجمة وتعليق : سليم طه التِّكريتي ، بُرهان عبد التِّكريتي ، مَنشُورات وزارة الثَّقافة والإِعلام ، دار الرَّشيد لِلنَّشر ، الجمهوريَّة العراقيَّة _ بغداد ، 1979 ، ص497 _ 498 )) .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى