عبد الرحيم جيران - الهوية السردية ومقولة التعرف المصنفة

يمْكِن عد مقولة التعرف في تصنيف الهوية السردية بمثابة مُجمع هوياتي؛ أي أنها تؤسس المحصلة النهائية، التي تنجم عن تضافر كل المقولات المصنفة السابقة في تحديد الهوية السردية للذات الساردة الفاعلة.
وتُعَد في الآن ذاته هدفًا لكل صيرورة أو حبكة سردية، لكن هذا الهدف لا يُعَد نتيجة تأتي في نهاية حركة السرد، بل هي محايثة للفعل السردي منذ بداية انبثاقه، لكنها تكتمل في الأخير. وهي قائمة على التراوح بين الحرص على الحفاظ على التعرفات المحايثة للفعل السردي كما هي، وإعادة النظر في تمظهراتها طيلة جريان الحدوث.
وسُميت بمقولة التعرف بموجب صيغتها الصرفية التي تحمل في بنيتها صدور الفعل من الذات الفاعلة ليطولها هي؛ ومن ثمة فهي دالة على أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه؛ الشيء الذي يفيد الوعي الذاتي للذات بنفسها. وهذا الوعي الذاتي ناجم عن علاقة الفعل الذي تمارسه هذه الذات تجاه موضوعها من طريق شكل تحقيقه (تملكه والحصول عليه أو عدم تملكه والحصول عليه).
وتتصل مقولة التعرف المصنفة بسؤالين مهمين:
أ- أتتطابق الذات (هو- أنا- أنت) مع نفسها في أثناء فعلها في صدد تحقيق موضوعها، أم تجد نفسها غريبة عنه؟ ب- أيُعَد الموضوع مطابقًا لتصور الذات (تطلعها)، أم غريبًا عنه؟ وكلا السؤالين يرتبط بمسألتين:
أ- مسألة تماسك الذات أو انحلالها، ومدى تماهيها مع نفسها من طريق العثور على نفسها (بوصفها متطلعة) في ما تنجزه، أو انفصامها وانشطارها، بما يترتب على هذا من تشكل نفسي لها، ومن معرفة ملتبسة في صدد نفسها.
ب- مسألة حضور الآخر الرمزي في تكون تعرف الذاتِ نفسَها، بما يعينه هذا من تباعد الذات تجاه ما يضعه هذا الآخر من صور نمطية لعلاقة الفعل بموضوعه (شرعي/غير شرعي)؛ فالذات السردية تعرِف نفسها في نطاق ما يجعلها متماثلة مع الصور النمطية التي يضعها المجتمع للأفراد، وما يجعلها مخالفة لهذه الصور؛ ومن ثمة لا تعرِف نفسها بدون مسافة تجاه كل أشكال الآخر، ولا يُعَد هذا الأخير إلا هذه المسافة التي قد تتسع وقد تضيق. وبهذا تُعَد مقولة التعرف المصنفة مجالًا للتفاعل بين الذات، من حيث هي مريدة والموضوع في تجليه أو غموضه، وفي قبوله التحقق أو استعصائه. وينبغي عد الموضوع في هذا السياق متضمنًا في بنيته الآخرَ بوصفه مسافة تجاه الذات.
إن العلاقة بين الذات الساردة الفاعلة وموضوعها مشكلة وفق قبول تبادل التعرف بين الذات والموضوع؛ ومعنى هذا أن الأولى لا تفعل إلا في حدود ما تحوزه من معرفة في صدد الثاني وتمثلات حوله، وأن هذا الأخير لا يقبل التعين إلا بفعل ما يتضمنه في بنيته من تحديدات للذوات المعنية به؛ فلا يُمْكِن أن يكُون موضوع الحرب مسندًا إلا إلى الذات الشجاعة. ومن ثمة ينبغي إعادة النظر في الموضوع السردي؛ فهو ليس بخامل ومحايد، بل هو مجهز في الحياة الاجتماعية بصور من هم معنيون به؛ ففي السرد العريق تُعَد الموضوعات السردية مشبعة بالصور السحرية التي تتلاءم مع ذات خارقة فوق بشرية؛ وتتصل وهذه الصور بالسياقات العجيبة أو الغريبة التي يُؤطر الموضوع ضمنها (سراديب- أمكنة مطلسمة- أقباء-قلاع- أمكنة موحشة الخ). وتُعَد الموضوعات السردية في السرد الحديث مشبعة بالصور المخالفة للعادة التي تتلاءم مع ذات غير مقتنعة بالعالم كما وُهب لها؛ وهي تتصل بسياقات تجريبية يتأطر الموضوع ضمنها؛ والمعنى من هذه السياقات أنها حادثة على نحو طارئ ووفق المصادفة، وهي مربكة لكل توقعات الذات، وتجعل منها ذاتًا تختبر نفسها ومعرفتها بذاتها وقدراتها (لقاءات- علاقات غير منتظرة- أزمات- وضعيات ملتبسة الخ).
تتأسس الهوية السردية بوساطة مقولة التعرف في نهاية الفعل السردي، وفق خاصية الاكتشاف المعرفية؛ أي تعرف خاصيات محددة للذات، وهذا الاكتشاف لا يعني بالضرورة تعرف خاصيات جديدة؛ فقد يعني اكتشاف صلاحية خاصيات قديمة من طريق استمرار فاعليتها في تحديد هوية الذات السردية؛ فإذا كانت الهوية الحقة هي تحديد الذات بما تضيفه إلى العالم، فإن الإضافة لا تعني بالضرورة ما لم يكن موجودًا فحسب، بل أيضًا ما اكتُشِف في الموجود السابق من أشكال القوة غير المتنبه إليها. ويتصل الاكتشاف النهائي باكتشاف هوية الذات في تكشف موضوعها، وهو نوعان:
أ- الاكتشاف الماثل في الحكي العريق الذي يقوم على التمظهر التام للمتوقع القيمي من الموضوع الموجود سلفًا بإظهار صلاحيته من طريق إظهار النبوئي فيه؛ أي المصير المتنبإ به (كعب أخيل مثلًا).
ب- الاكتشاف الماثل في الحكي الحديث الذي يقوم على المفاجئ غير المتوقع في الموضوع، ويقوم هذا الاكتشاف على التمظهر التام للمتوقع في الموضوع من طريق الاحتمالي الذي هو محط إمكان. ويُعَد الاكتشاف الأول دالا على تجلي الذات السردية، كما هي منمطة وجاهزة في النظام القيمي للجماعة الثقافية القديمة، الذي يُمثل ذاتًا كلية متعالية. ويُعَد الاكتشاف الثاني تجليًا لذات سردية موضوعة على مسافة من المجتمع ونظامه القيمي، ولا تُمثل إلا نفسها؛ يتأسس هذا التمثيل على صراع قيمي بين الموجود هنا سلفًا وغير المرضي للذات والموجود هناك في هيئة يوتوبيا.
تتصل خاصية الاكتشاف بعلاقة الإرادة بالقدرة، إي لا اكتشاف بدون إرادة (تطلع نحو موضوع محدد) وبدون توافر القدرة على الفعل؛ ومن ثمة فالاكتشاف في الحكي العريق متصل بتناسب الإرادة والقدرة، حيث تصير هذه الأخيرة مساوية لموضوعها، حتى في الحالة التي يكُون فيها هذا الأخير مُعجِزا؛ ويتأتى هذا التناسب من جراء المتعالي القيمي الذي يمنح الذات البشرية الممثلة له قوى غير بشرية من طريق مساندة قوى غير مرئية لها. بينما يُعَد الاكتشاف في الحكي الحديث متصلًا بالأزمة التي تنشأ من جراء التنافر بين محدود القدرة ولا محدود الإرادة، وبين الأنا الصميم المتحرر من كل السنن السوسيو- ثقافية والأنا المرتهن بإكراهات المؤسساتي؛ ويُعَد الصراع بين هذين النوعين من الأنا داخل الذات محتوى الأزمة المشار إليها.
ما يحدث في الحكي العريق هو إعادة تعرف النظامُ القيمي المهيمن المتعالي نفسَه بتجديد فاعليته من خلال فعل الذات السردية، بما يدل عليه هذا من استمرار لهذا النظام القيمي الثقافي كما هو من خلال تمظهره عبر الذات السردية، وما يتم هو التنويع في هذا الاستمرار على مستوى الشكل (تنوع الحبكات). وما يحدث في الحكي الحديث هو إعادة التعرف خارج النظام القيمي المهيمن المتعالي؛ من طريق عمليتي الإفراغ والملء: إفراغ الذات من تحديدات قبلية غير مرضية، وملؤها بأخرى يوتوبية تبدو على أنها مسعفة للطوية.

٭ أكاديمي وأديب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى