د. فارس الحسيني - (الثَّواب والعقاب) و(الأخلاق) في الأديان العراقيَّة القديمة _ المقالة الثالثة _

_ المقالة الثالثة _


مِنَ المُفيدِ أَن نذكُرَ نَظرةَ الشُّعُوبِ القديمة لِلحياة ما بعدَ الموت ، فَقد (( أَثبَتَتْ أَبحاثُ عُلُماءِ الإِثنوغرافيا والأنثروبولوجيا والآثار أَنَّ كُلَّ شُعُوبِ الأَرض تُؤمنُ بِالآخرةِ ، أو حياة ما بعد الموت ، فَالإِنسانُ بعدَ مَوتِهِ تَتَّجِهُ رُوحُهُ إِلى عالَمٍ آخَرَ ؛ لِتُواصِلَ وُجُودَها هُناك )) ، وقد آمَنَ أهلُ الرَّافدين القُدَماء إِيمانًا راسِخًا (( بِوجود حياةٍ ثانية )) ! ؛ إِذْ لَم يَرَ العراقيُّونَ القُدماءُ (( الموتَ على أَنَّهُ الفناءُ المُطلَقُ ، بل كانَ انفصالًا ما بينَ الجسم والرُّوح الَّتي كانَتْ لَهُ مُلازمةً لَهُ في الحياة ، ولكنَّها عند الموت تَتَحوَّلُ من شَكْلٍ مِنَ الوجود إِلى شَكلٍ آخَرَ ؛ حيثُ تَذهبُ ، عندَ الدَّفن ، إِلى عالَم خاصٍّ بِالأَرواح ..... وَإِنَّها تَبقى سَجينةً في ذلكَ العالَم ...)) ، ، على الرَّغم من اعتقادهم القويِّ بِهذهِ الفِكرة إِلَّا أَنَّهُ لم تكُنْ ثَمَّةَ رابطةٌ وَثيقةٌ بين ( الأَخلاق ) و( الدِّين) ؛ إِذ لَم تَكُنْ في أديانِ بِلاد وادي الرَّافدين عَقيدةُ ( الثَّواب والعقاب) بعدَ الموت ؛ فَالمَيِّتُ في حضارةِ وادي الرَّافدين لَم يَكُنْ وُجُودُهُ في العالَم الآخَر _ أو العالَم الأسفل _ (( يَتَأَثَّرُ بِما اقترَفَهُ ، وَإِنَّما بَحسبِ مَكانتِهِ في عالَم الأَحياء ، وَبِما تُقَدِّمُهُ لَهُ عائِلتُهُ وَوَرَثَتُهُ مِن قرابينَ وما تُقيمُهُ لِرُوحِهِ من شعائِرَ جنائِزيَّةٍ )) ؛ لِذلكَ حضَّ أهل العراق القدماءُ على الإكثار من الإنجاب ؛ لأَنَّ الفرد يعامل في العالم السُّفليِّ وفقَ عدد الأولاد الذين أنجبهم في الحياة .
وَالجزء الآتي المنقول من نصِّ ( أسطورة جلجامش ) يعطينا فكرة عن أحوال الأموات و هي محاورة بين جلجامش و روح أنكيدو العائد من العالم السُّفليِّ :
(( هل رأيتَ الذي أنجبَ ولدًا واحدًا؟
نعم لقد رأيت أَنَّهُ ساجدٌ عند الجدار يبكي بحرقةٍ !_
_ هل رأيتَ الذي أنجب سبعة أولاد ؟
نعم لقد رأيتُ أنَّهُ مقرَّبٌ من الآلهة !! ))_
وبِذلكَ يَذهبُ ( د. نائِل حنُّون) إِلى (( انتفاءِ وجودِ حسابٍ لِلموتى في عالَم الأموات ، وَبِالتَّالي انتفاء وجودِ عقابٍ أو ثَوابٍ في ذلكَ العالَم )) ؛ وقد (( تَرَكَ هذا الاعتقادُ بِانتفاءِ وُجودِ حسابٍ يُقَرَّرُ فيهِ عقابُ المرء أو ثوابُهُ في ما بعد الموت أثَرًا بالِغًا في فِكرِ وحياةِ مُجتمع حضارة بلاد وادي الرَّافدين القديمة ؛ إِذ إِنَّهُ مَيَّزَهُما بِسِماتٍ مِنَ التَّأَزُّمِ والقَلَقِ مِرجعهما تَشَبُّثُ العراقييِّن القُدماء بِالحياة الَّتي لا يُمكنُ لِأَيِّ شَقاءٍ أَو أَلَمٍ أَن يُضعِفَهُ .... في الوقت الَّذي كانُوا واثِقينَ فِيهِ بِأَنَّ الحياةَ الدُّنيويَّةَ هِيَ المَجالُ الوحيدُ لِلتَّنعُّمِ بِالوجود البَهيجِ ، وهو مجالٌ لَم يكن من السُّهولة أن يُتاحَ لِجميع الأفراد أَن يتنعَّمُوا بِهِ مع وجود المظالم والمَساوئ في المجتمع البشريِّ الَّتي كانُوا واثقين في قرارةِ أنفسهم بِحتميَّة وجودها ؛ وهذا ما أَدَّى إِلى تأصُّلِ الأَزمةِ في نفوس أولئكَ النَّاس نتيجةً لِاضطرارهم إِلى تَقبُّلِ كِلتا الحقيقتين أي حقيقة وجود التَّشَبُّثِ بِالحياة ، وأَنَّها مهما تحمل من مساوئ فَإنَّها أَثمنُ من أن تُتركَ ، وحقيقة أنَّ المظالمَ الواقعةَ فيها تَمضي بِلا عقابٍ حينَ يَمُوتُ أصحابُها وينتقلون إِلى عالَمٍ لا يُحاسَبُونَ فيهِ على ما اقترَفوه ؛ وقد جَرَّ هذا التَّأَزُّمُ العراقييِّن القدماءَ إِلى الابتعاد عن الصِّيَغِ المِثاليَّة بدرجةٍ أكبر ممَّا هي عليه عند سائِر أقوامِ الشَّرقِ الأدنى القديم الَّذين اقترَنَ ذِكرُهم بِالحضارات القديمة الَّتي قامت في هذهِ المنطقة من العالَم ، والسَّببُ في ذلك هُوَ بقاءُ الصِّراعِ بين الخير والشِّرِّ مَحصُورًا في أفقٍ ضَيِّقٍ مُتَكرِّرٍ في الحياة اليوميَّة لِسكَّان وادي الرَّافدين القُدماء )) . فَكُلُّ إِثمٍ _ مهما بلغ أمرُهُ _ (( يُعاقَبُ عليهِ في هذا العالَم )) ؛ فَالبابليُّونَ (( لم يعرفُوا لا الجنَّة ولا جهنَّم )) .
أَمَّا عدم الاهتمام بالجانب الأخلاقيِّ ، فَهو كانَ عند الإِغريق _ أيضًا _ ؛ فالعقابُ هُوَ لِمَنْ يُسيءُ للآلهةِ أو يهينُها ، أَي إنَّ المسألة (( لم تكن أخلاقيَّة )) ، ولم يكنِ الإِنسانُ _ بَل الآلهة فَقَط ! _ هُوَ مِحورَ الاهتمامِ في هذا الشَّأن !
و(( خُلاصةُ القول إِنَّهُ ليسَ في عقائِدِ البابلييِّن والسُّومرييِّن ما يُوعَدُ بِهِ الإِنسانُ من آمالٍ دينيَّةٍ لَذيذةٍ بعد الموت ، أي لا تُوجدُ عندهم جنَّةٌ ونارٌ أو نعيمٌ وجحيمٌ ، وأثَرُ هذا الاعتقادِ في الحضارةِ السُّومريَّةِ البابليَّة جِلِيٌّ واضحٌ في جميعِ مُقَوِّماتِها حيثُ تَطغى عليها صِفَةُ الماديَّة والنَّعيم والمُتعة في هذهِ الحياة . )) .
ومن الغريبِ أَن يذكرَ الباحثونَ في الأديانِ أَنَّ ( التَّوراة ) لَها عَقيدةُ الدِّين البابليِّ نَفسُها ؛ (( فَالأَرواحُ مُتساويةٌ في مَصيرِها ، كَما هُوَ الأَمرُ في ثَقافةِ أرضِ الرَّافِدينِ ؛ فَلا بعثٌ هُناكَ ولا حِسابٌ ولا ثَوابٌ ولا عِقابٌ . )) ! فَالأرواحُ (( مُتساويةٌ في مَصيرها ، وهي تَهبطُ إِلى دارٍ سُفلى اسمُها ( شيئول) ، أو ( الهاوية) وِفقَ النُّصُوصِ العربيَّة لِلتَّوراةِ . وهذهِ الدَّارُ تَقَعُ تحتَ الأرض ......... وهي أرضُ ظلمةٍ وَدَيجُورٍ لا يَرى أَهلُها نُورًا ...... وَإِلَيها تَذهبُ أرواحُ الموتى دونَ استثناء )) ؛ إِذْ (( ليسَ هُناكَ في صَحيحِ الدِّينِ العِبريِّ بَعْثٌ لِلجَسَد )) والعقابُ يكونُ في الدُّنيا لا في الآخِرة !
........................
تنويه : المقالة مُستندةٌ إِلى المراجع الآتية _ حسب ورودها في النَّصِّ _ :
1. حَقيقةُ الموتِ في نَظَرِ الدِّيانات ، بُوساحة أحمد ، مؤسسة الانتشار العربي ، بيروت _ لبنان ، ط1 ، 2008 ، ص131 )) .
2. (( تاريخ الحضارات العام ، أندريه إِيمار ، جانين أوبوايه ، بِإِشراف : موريس كروزيه ، نقلهُ إِلى العربيَّة : فريد . م. داغر ، فؤاد . ج. أبو ريحان ، منشورات عويدات ، بيروت _ باريس ، ط3 ، 1993 ، 1/ 162 . ))
3. (( مُقدَّمةٌ في أدَبِ العراق القديم ، طه باقر ، جامعة بغداد ، دار الحريَّة لِلطِّباعة ، بغداد ، 1976 ، ص223 . ))
4. (( عقائِد ما بعد الموت ( في حضارة بلاد وادي الرَّافدين ، د. نائل حنُّون ، دار الشُّؤون الثَّقافيَّة العامة ، وزارة الثَّقافة والإِعلام ، العراق _ بغداد، 1986 ، ص145 . ، ص160 )) .
5. (( بلاد ما بين النَّهرين ، ل. ديلابورت ، ترجمة : محرم كمال ، مراجعة : د. عبد المنعم أبو بكر ، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب ، ط2 ، 1997 ، ص169 )) .
6. (( أسرار بابل ، ف. أ . بليافسكي ، ترجمة : توفيق فائق نصَّار ، دار علاء الدِّين لِلنَّشر والتَّوزيع والتَّرجمة ، سورية _ دمشق ، ط2 ، 2007 ، ص184 . ))
7. التَّاريخ اليُونانيُّ ( العصر الهللادي ) ، د. عبد اللَّطيف أحمد علي ، دار النَّهضة العربيَّة ، بيروت _ لبنان ، د . ت ، 1/ 237 )) .
8. مُفصَّلُ العرب واليهود في التَّاريخ ، الدُّكتور المهندس : أحمد سوسة ، وزارة الثَّقافة والإِعلامِ ، دار الرَّشيد لِلنَّشر والتَّوزيع ، الجمهوريَّة العراقيَّة _ بغداد ، ط5 ، 1981 ، ص423.))
9. حضارة وادي الرَّافدين ( الأسس المادية) ، د. دانيال دي بوتس ، ترجمة : كاظم سعد الدين ، مراجعة : د. إِسماعيل حسين حجارة ، الهيأة العامة للآثار والتراث ، بغداد ، 2006 ، ص328_ 329 .
10. مُغامرة العقل الأُولى ( دراسة في الأُسطورة _ سورية وبلاد الرَّافدين ) ، فراس السَّوَّاح ، منشورات دار علاء الدِّين ، دمشق ، ط13 ، 2002 ، ص298 . ، ويُنظَر ص 303 _ 304 . ) وَيُنظَرُ _ أيضًا _ (( مُفصَّل العرب واليهود في التَّاريخ : ص423)) .
11. ((دينُ الإِنسان ( بحث في ماهيَّة الدِّين ومنشأ الدَّافع الدِّيني ) ، فراس السَّوَّاح ، منشورات دار علاء الدِّين ، سورية _ دمشق ، ط4 ، 2002 ، ص323 )) .
12. (( نَحوَ آفاقٍ أوسع ، المراحل التَّطوريَّة لِلإِنسان ( الدِّين عندَ الإِغريق والرُّومان والمَسِيحييِّن) ، أَبكار السَّقَّاف ، الانتشار العربي ، بيروت _ لبنان ، ط1 ، 2004 ، ص321 . )) .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى