المصطفى اجماهري - الكاتب المغربي ومسألة المنهج

يلاحظ كثير من المتتبعين للشأن الثقافي المغربي وقوع عدد من الإصدارات المكتوبة في أخطاء منهجية تمس الشكل كما الجوهر على حد سواء. من بين هذه الهفوات يمكن الإشارة، على الأقل، إلى اثنتين، هما: غياب التنميط وتجاهل الدراسات السابقة. والحال أن احترام هذين الشرطين أمر ضروري في كل تأليف أو بحث أو دراسة. بل من المفروض مبدئيا على كل من تلقى دراسة جامعية أن يكون ملما بهما، ما داما يعتبران من ضمن البديهيات التي لا تستساغ كتابة بدونهما.
ومن غير شك فإن تدني وضع التعليم في المغرب بما فيه التعليم الجامعي، وغياب استراتيجية للتكوين، وتخلف التدريس خاصة باللغة العربية، والتركيز على الحفظ والاجترار، واستسهال النشر والكتابة، كلها مدخلات أفضت، من بين أشياء كثيرة أفضت إليها، إلى ظهور كتاب لا يدركون تماما بديهيات الكتابة والبحث التي أتينا على ذكرها.
أما الأمثلة على ذلك فلا تعد ولا تحصى. فالواحد منا قد يشتري كتابا وسرعان ما يكتشف من خلال تصفحه ثم من خلال قراءته الأولية أن مؤلفه يجهل معنى التنميط. وفي اللغة العربية يقال : نمط الشيء أي جعله على نفس النوع والأسلوب. فحين يكتب المؤلف مثلا اسم مدينة "أغادير" بهذا الشكل ينبغي أن تُتبع في مجمل صفحات الكتاب بنفس الطريقة. وهذا ما يحتم على الكاتب تجنب التلاعب بكتابة الأسماء فلا يجعلها مرة "أغادير" وفي أخرى "أكادير" وفي ثالثة بإضافة ثلاثة نقط فوق حرف الكاف. ونفس الشيء ينطبق على كتابة أسماء الشخصيات التي يتعين تدقيقها. وقد لاحظنا مثلا كيف أن بعض المنابر تكتب اسم الوزير الأول السابق "اليوسفي" وفي أخرى "يوسفي" وربما "يوسوفي" دونما استقرار على شكل موحد.
وفي حالة ما إذا كان الكتاب مؤلفا جماعيا مشتملا على مجموعة مساهمات فينبغي الحرص على أن تكون كتابة تلك المساهمات بنفس شكل الحرف والسمك وأن يتم تقديمها أيضا بشكل موحد. وقد أتيحت لي الفرصة مرات للاطلاع على هذا النوع من الإصدارات فوجدت أن أصحابها كما لو أنهم اكتفوا بجمع المقالات وتسليمها للمطبعة. دليلنا على ذلك أن نجد المقالة الأولى مذيلة باسم كاتبها مسبوقا بصفته على شكل "ذ. أحمد مجيد"، وفي المقالة الثانية "الدكتور علي النحوي" وفي الثالثة "محمد ربيع" دونما صفة. وأحيانا قد تضاف للبعض هويته المهنية كمثل "أستاذ بكلية كذا" دون معاملة الآخرين بالمثل. والحال أنه ينبغي إخضاع كل إصدار لتنميط موحد من بدايته إلى نهايته. هذا علما بأن ما ينسحب على النص، في كتاب جماعي، ينسحب أيضا على صور المساهمين التي ينبغي أن تكون بنفس الحجم وألا تنشر للبعض دون الآخر.
وقد تحصل الطامة الكبرى حينما يصدر الكتاب عن ناشر ليس له من التسمية غير الاسم. ذلك أن أقل ما يمكن أن يقوم به ناشر لهو توحيد شكل الإخراج والكتابة، وإلا عُدّ مجرد طابع. فكيف لا ينتبه الناشر لهفوات ستضرّ بسمعته. إن مثل هذه الأمور لا يتصور حدوثها من قبل ناشر فرنسي. وقد أتيحت لي فرصة التعامل، في أربع مناسبات، مع دار "لارمتان" الباريسية ولاحظت الفرق الكبير بيننا وبينهم. فدار "لارمتان" مثلا تتوفر على مصححين لغويين وتقنيين في فن الإخراج ينسقون مع الكاتب، كل فيما يخصه، حتى يصدر عمله في أحسن شكل ممكن.
أما الهفوة الثانية والتي يمكن اعتبارها أكبر من هفوة لأنها قد تمس جوهر العمل وجودته العلمية فتتمثل في كون كثير من البحوث والمؤلفات والمداخلات تتجاهل الإشارة إلى الدراسات السابقة ذات الصلة بالموضوع المطروح. وطبعا فأهمية الإشارة إلى هذا الجانب تتجلى في إبراز ثراء قراءاته أولا، وتنم ثانيا عن حس أخلاقي في الاعتراف بمجهودات غيره. إن احترام الباحث لهذه المنهجية يظهر جديته العلمية ونزاهته الفكرية واحترامه لإضافات من سبقوه في تناول الموضوع. فهل يعقل مثلا أن يتناول باحث موضوع "البريسترويكا في الاتحاد السوفياتي السابق" أو "صورة البادية في القصة المغربية" أو"دور الذاكرة في كتابة التاريخ المحلي" دون أن يقدم، هذا الباحث، حصيلة، ولو غير مكتملة، للدراسات السابقة ؟ عطفا على ذلك أشير، على سبيل المثال لا الحصر، أن المرحوم الدكتور زكي الجابر، الأستاذ السابق بالمعهد العالي للصحافة، كان يلح إلحاحا شديدا على هذا الأمر. بل إنه، في إطار السلك الثالث، كان لا يقبل الإشراف على أطروحة تخرّج إلا إذا قدم صاحبها جردا بالدراسات السابقة وملخصا مختصرا لها. وحتى بالنسبة للدراسات التي تمت خارج المغرب وتدوولت في وسائل الإعلام فكان يلزم الباحث بذكرها في الجرد مع الإشارة إلى تعذره الاطلاع عليها.
وفي نفس السياق أتذكر أيضا، بكثير من الفخر والاعتزاز، ما أسر لي به ذات يوم المرحوم عبد الجبار السحيمي مدير جريدة "العلم" حين طلبتْ منه، في أواسط التسعينيات، جمعية خريجي معهد الصحافة المشاركة في مائدة مستديرة حول ظاهرة الملاحق الثقافية في المغرب. اقترحت عليه الجهة المنظمة أن يساهم في الجلسة بتقديم نبذة عن العلم الثقافي وخلفية إعداده وإصداره ما دام أن الراحل كان مشرفا عليه لسنين طويلة. شكرهم الراحل على الدعوة وأجابهم بما معناه "عليكم بالاتصال أيضا بالمصطفى اجماهري لأنه أنجز دراسة أكاديمية حول الصحافة الثقافية في المغرب من خلال نموذج العلم الثقافي". وهذا ما يدل على تواضع المرحوم ورغبته في التعريف بالباحثين وفي تثمين مجهوداتهم وإخراجهم إلى النور.
واليوم فإن ما يدعو حقا للاستغراب لهو أن نستمع لبعض ضيوف البرامج الثقافية الحوارية في القنوات المغربية وهم يتحدثون في مواضيع مختلفة دونما إشارة إلى اسم واحد سبقهم في البحث بخصوص المحور الذي استضيفوا من أجله. هؤلاء الناس يتخيلون أنفسهم، بلا حياء ولا حشمة، عباقرة لا يشق لهم غبار متجاهلين التاريخ ومجهودات الأولين. بل إن ما يدعو إلى السخرية أن من هؤلاء من أصبح ضيفا دائما على القنوات التلفزية معتبرا نفسه العالم الأكبر فلا يجد حرجا في التنقل بين البرامج، متحدثا مرة عن معضلة الشرق الأوسط، ومرة عن مشاكل البيئة، وتارة أخرى عن أزمة التعليم وضعف القراءة وهلم جرا. كل ذلك ببضع عبارات رخوة حفظها صاحبها عن ظهر قلب ثم راح يستظهرها في كل زمان ومكان.


المصطفى اجماهري
- الكاتب المغربي ومسألة المنهج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى