د. أمين الزاوي - الأدب-بيو... Littérature BIO

ها هي الكتابة الأدبية في العالم تدخل مغامرة مثيرة وانقلابية في كل مكوناتها وفي الأطراف المؤسسة لها: المؤلف والنص والقارئ والوسائط، الكل معرض لزلزال مدمر لا يبقي ولا يذر.
بالأمس، كانت الكتابة تتغير من خلال عبقرية الكاتب في اجتهاده وجنونه ومعرفته، اليوم تتأسس وتتغير من خلال العامل الخارجي التكنولوجيا الرقمية ببرامجها المعقدة وآخرها "تشات جي بي تي".
أمام سلطة "تشات جي بي تي" المتعاظمة يوماً بعد يوم، برنامجاً بعد برنامج، يسقط العقد الثقافي والروحي والفلسفي الذي كان بين القارئ والكاتب، فالكاتب اختفى من الوجود المادي، بلعته البرامج الرقمية، وضاع القارئ في حيرة من سيل النصوص الباردة كالأجنة التي تولد من الأرحام المستأجرة.
إلى عهد قريب، درج مؤرخو الأدب على تحديد الأزمنة أو العصور الأدبية بعلامات أو محطات سياسية أو بصعود تيارات أدبية جديدة أو بسيادة تيارات فلسفية في الكتابة، فيقال التيار الكلاسيكي والتيار الرومانسي والتيار الواقعي الاشتراكي والتيار السوريالي والتيار الوجودي والتيار العبثي وما إلى ذلك من تسميات ملأت كتب النقد وملأت مدرجات محاضرات الجامعة. اليوم، يبدو لي أن كل هذا الإنشاء النقدي في فهم الأدب وتاريخ الأدب ذاهب إلى الفناء، هذه المقاربة عن طريق السياسة أو عن طريق الجماليات والرؤى الفلسفية أصبحت مقاربة متجاوزة، ومن الآن فصاعداً سيتحدث النقاد في تحديد الكتابة الأدبية من خلال مقاربة جوهرية بالقول الفصل: هذا أدب ما قبل "تشات جي بي تي" وهذا أدب ما بعد "تشات جي بي تي".
وسيتحدثون عن جماليات الأدب الروائي أو الشعري بحسب تحسن البرامج المختلفة التي تستثمر فيها لـ "تشات جي بي تي" مع كل برنامج تطويري جديد تظهر كتابة أدبية جديدة، الكتابة تولد من رحم برامج الذكاء الاصطناعي وليس من القلوب التي تمتلئ بالمعاناة الإنسانية كما كانت خلال التاريخ الإنساني كله.
بعد أقل من عشرية، سيظهر قارئ جديد، ربما، قد يحنّ، ربما، إلى زمن النصوص الأدبية المكتوبة من سهر الليالي ومن معاناة السجون ومن قساوة اليوميات الاجتماعية ومن دهشة الأسفار فيقول "أريد أن أقرأ كتابة الأحياء لا البرامج".
سيحنّ القارئ إلى مناخات كتابات دوستويفسكي وتولستوي وبلزاك ونجيب محفوظ والجواهري ورامبو والطيب صالح وهنري ميلر وكاتب ياسين ونزار قباني وسلمان رشدي وويلي سوينكا وطوني موريسون ومولود معمري ومحمد شكري... كتابات مصنوعة من أنفاس بشرية.
وسيجيبه أحدهم "عزيزي القارئ إذا أردت أن تقرأ نصاً لمبدع إنسان، فعليك أن تقرأ الأموات الذين قضوا قبل ظهور وانتشار ’تشات جي بي تي‘".
لقد أصبحت الكتابة مثل الفلاحة، فقد تم تسميم الإنتاج الفلاحي بالأسمدة والهرمونات القاتلة بقصد الربح وكثرة الإنتاج، وكذلك، سيتم تسميم الكتابة بالبرامج المتجددة في مسار هذه التكنولوجيا المتوحشة، وكما يبحث اليوم بعض المستهلكين عن إنتاج فلاحي بيولوجي Bio تخفيفاً عما يسببه الإنتاج الصناعي من أمراض على الجسد، فكذلك سيبحث القارئ مع مر الزمن عن نصوص أدبية من فصيلة أدب "بيو" Littérature Bio تخفيفاً عما قد يسببه أدب البرامج من آثار سلبية على المنظومة العقلية والسيكولوجية، فكما يقول المواطن العادي "أريد أن آكل تفاحة من منتوج زراعة بيولوجية، سيقول القارئ أريد أن أقرأ نصاً من الأدب ’بيو‘"...


أمين الزاوي
(المقال الأسبوعي بأندبندت اللندنية، الخميس 10 أوت 2023.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى