كما في كلّ مرّة!

في طلعةِ تسوّق قُبيل المغرب، وقعَت عيني اليوم على منظرٍ لطالما لفتني أمثالُه، منظر يُثير فيّ -كلَّ مرّة- معاني مؤتلفة ومختلفة في آن، إنّه منظر جَدّ يُمسك بيد حفيدٍ من حَفَدته!
نظراتُ الحفيد مُعلّقة بوجه جدّه تدور معه حيثُ دار، ونظرات الجدّ مُنتقلة مع كلّ ما يتحرّك حولهما ويدور، كأنّها تُغلّف الحفيد بغلاف سَميك لكنّه شَفيف، يُكلله ويجلله ويحميه دون أن يحجب عنه العالم من حوله.
مضى الجدّ ويدُه بيد الولد، وبقيتُ لنفسي أقلّب مشاعرها، ولذاكرتي أفتّش في قعرها، لعلّي أحلّل ما مضى من صور مماثلة، فأستكشف جوانبها العالقة..
الجدُّ هو الماضي الحارس، والحفيد هو المستقبل الواعد، والحاضر غائب حاضر في الصورة، وهو همزة الوصل بينهما.. إنّه الأب أو الأمّ المنشغلَين بالحياة!
والجدّ هو الذاكرة التي تمهد الطريق للحفيد؛ لاقتفاء الأثر والسير على الخُطى، تدلّه على ثنيّات الحياة، على تُخوم الأرض من حوله، تُعلّمه أسماء الشوارع والأزقّة والأحياء والساحات، وما على الحفيد إلا أن يكون سامعاً واعياً.
والجدّ عينُ الأمّة على حركة الأجيال فيها، وتقلُّبِ الحَدثان والأحوال عليها، عينٌ عاصرت جَدّاً سالفاً وأباً وعمّاً وخالاً وجاراً، وعاشت من بعد ذلك أباً وعمّاً وخالاً وجاراً، ثمّ هي اليوم ترقُب الأجيال بعين التجارب.. هي عينٌ خبرت الحياة، لكنّها اليوم تدورُ في محاجرها بحثاً عن أُذُن تسمع وعقل يفهم وفؤاد يعي، تبحث عن فُسحة للتأثير في هذه الحياة الآفلة فيها، الزائلة رويداً عنها..
هي عين تُريد أن تقول للحَفيد: الحياةُ هي الحياة، والتاريخ يُعيد نفسَه ويعودُ نفسُهُ كلَّ مرّة، فلا يغرنّك تبدّل الألوان فيها من الأسود والأبيض، إلى الألوان الباهتة، إلى ما يُسمّونه اليوم «فور كَيْ»؛ لأنّ محتوى الصورة واحد، وإن تجلّت في ألوان مختلفة.
هي عين أرادت أن تقول لحفيدها الكثير، والحفيد يُحكم قبضته الطريّة الصغيرة على كفّ الجدّ الخشنة المُتعبة، وعينه مُعلّقة بصفحة وجه جدّه، لا يكاد يلمح عينه الغائرة في محجرها، ولا يفهم عنه أكثر ما يُريد؛ لأنّه يُصرّ أن تُعلّمه الحياة كفاحاً، كما في كُلّ مرة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى