كانوا ثلاثة يجلسون داخل الدكان.. القيت التحية عليهم. وعيناي تدوران ضمن وجوه وجدران متقاربة، صاحب الدكان اعرفه.. والآخر ايضا لكن بشكل اقل، أما الثالث فرغم معرفتي به كصورة سبق لي وأن التقطتها ضمن احافير ذاكرتي الا انه احتل البؤرة من المشهد الكلي حين هدج صوته مرحبا بي وداعيا اياي للجلوس في مكان يكاد يضيق بالثلاثة فكيف برابع ضخم الجثة عريض (المنكعين) على قولة طيب الذكر عادل امام.. ثابرت على ان اظهر بمظهر المترفع عن الجلوس رغم شعوري بالتعب.. فنجحت في مسعاي، ويبدو ان تجاوزي للاربعين من العمر لم يوهن ملامحي واقتنع العجائز بأني فتي وقادر على الظهور بمظهر القوي.. مرت ثوان كنت اتوقع ان يليها هجوم صوتي من الشخص الثالث.. وصدق توقعي اذ بادر الى السؤال عن سابق معرفة بيننا.. كان صوته رغم قوته بطيئا ويشي بشكل لا يقبل اللبس انه لم يصب بجلطة واحدة كما ادعى بل اثنتان أو ثلاث، لكني تعمدت بخبث ان اظهر عدم تذكري له، الرجل لم يقف كثيرا عند محاولتي هذه.. بل صهل مدعيا انه يعرفني جيدا وأن ذاكرته ستسعفه لاحقا حين يتذكر من كانوا معه في صالة الانعاش .. ثم مضى ليقص علينا من ذكرياته بعض القصص.
فقال: كنت اشغل وظيفة محقق عدلي في المحكمة.. ثم لاذ بالصمت حين سألت طفلة صاحب الدكان عن بعض الحلوى فقدم لها ما تريد وقبض الثمن. ليكمل الرجل الثالث حديثه: ثمة رجل نقل الى بعقوبة من احدى المدن الجنوبية، وهو رجل امن.
وقد حدثت خلال فترة تواجده في بعقوبة عمليات سلب ونهب تحت تهديد السلاح.. وكانت مثل هذه الحوادث نادرة الحدوث في بعقوبة، كان الرجل يرتاد نادي الموظفين ونادي الضيافة الذي اقيم في بناية كانت معدة ليقيم فيها محافظ ديالى.. الرجل كان يستأجر احدى السيارات بعد ان يأخذ السكر منه كل مأخذ ثم يوجه السائق للعبور ناحية الجسر المؤدي الى مقبرة الشريف ثم يقوم هناك بسلبه كل ممتلكاته ويحرص في اخر المطاف على سلب السائق اوراق المركبة مدعيا بأنه يعمل ضمن مؤسسة أمنية حكومية ، ولا ينسى ان يشير الى احدى الدور الفارهة في منطقة بعقوبة الجديدة مدعيا بأنها دائرة حكومية وان على السائق الحضور في اليوم التالي لدفع غرامة جراء مخالفته لقواعد مرورية او امنية معينة، وقد اسهم خوف الناس من النظام الدكتاتوري في انجاح هذه اللعبة.
لكن شاءت المصادفة ان يكون احد السائقين اخا لمدير احد المستشفيات وحين تعرض للسلب واشار رجل الأمن الى دار مدعيا بأنها دار حكومية ابلغه الأخ بأنها تعود لأخيه.. وبين دهشة وذهول السائق من هذا الكم من الاكاذيب استطاع رجل الأمن مغادرة السيارة والهرب الى عمق مظلم من مقبرة الشريف.. ثم تكرر الفشل مع صاحبنا مرة اخرى وتحول من صائد مغفلين الى طريدة، وتوصل شقيق مدير
المستشفى الى ضبطه في نادي الضيافة فالقي القبض عليه من قبل رجال الشرطة وحكم عليه. وهنا تدخلت لأنهي القصة بالقول: خمس سنوات وشهر.
لكن الرجل لم يلتفت لجملتي بل استمر ليضيف بأن الرجل حكم عليه بخمس سنوات وشهر. وبصوته الثقيل البطيء المتقطع اشعرني بأن الحكم قد صدر ضدي انا وليس ضد المتهم. بعد دقائق من الصمت المعبر ووجوه الاخرين تتبادل النظرات بينها وبيني وكأن ثمة لغة ما يجب علي ان اتفهمها وان احافظ على تماسكي وانضباطي امام هذا الفتور والوهن الدبق الذي يحاول ان يتشبث باذني وبانتباهي وان يحتكرها لصالحه مفترضا بأن علته توجب على من حوله الاذعان والمشاركة عن رغبة او غير رغبة، كنت انظر الى عينيه بين فواصل الكلمات فأرى تلك النظرة الشبيهة بنظرات حيوان جريح، بالتماعة تشي بأن الجلطة التي سبق وأن اصابت المتحدث لم تكن الأولى وان رغبته في الاستحواذ على اسماعنا وعلى اي شيء اخر يقع ضمن نطاق سيطرته السلبية وهي رغبة عظمى بالنسبة له، وربما هي تشكل الحد الفاصل بينه وبين التورط في الاخلاد الى جلطة اخيرة.
وحين استطال الصمت بيننا والعيون الثماني تتبادل النظرات بينها.. انتظرت قليلا علّ الأول أو الثاني يقول شيئا ليحث ذلك العجوز على اتمام قصته لكن الوقت كان يمر ثقيلا وهما في صمت مطبق وكأنهما قد اعتادا الاستماع الى القصص المبتورة من ذلك العجوز الخرف فآليت على نفسي أن اخرق ذلك الحاجز وأن أتكلم.. لكن الصوت لم يخرج من بين شفتي.. وبذلت جهدا مضاعفا.. لكن الخرس حلّ بشفتي وكأنني في كابوس يجثم على صدري ويمنعني من الكلام، ومرّ الوقت بلا كلمات ولا اعرف لماذا شعرت رغما عني بأنني مكتف بما استمعت اليه وأن القصة قد انتهت حقا. ولا داع لأن اشغل تفكيري بتفاصيل أخرى.. ثم خرقت أذني ضحكات معدنية صدئة خرجت من أفواه الثلاثة وهم ينظرون اليّ بطريقة غريبة.. وحين التقت نظراتنا، غرقت انا ايضا بضحك هستيري وأنا أردد دون أن اعي حركات شفاهي: وماذا في ذلك.. وماذا في ذلك؟ ثم شعرت بوغزة في صدري فتوارت اصوات تلك الدقات حتى اختفت وكنت انظر الى الثلاثة بعيون جاحظة بينما هم يواصلون الضحك.
فقال: كنت اشغل وظيفة محقق عدلي في المحكمة.. ثم لاذ بالصمت حين سألت طفلة صاحب الدكان عن بعض الحلوى فقدم لها ما تريد وقبض الثمن. ليكمل الرجل الثالث حديثه: ثمة رجل نقل الى بعقوبة من احدى المدن الجنوبية، وهو رجل امن.
وقد حدثت خلال فترة تواجده في بعقوبة عمليات سلب ونهب تحت تهديد السلاح.. وكانت مثل هذه الحوادث نادرة الحدوث في بعقوبة، كان الرجل يرتاد نادي الموظفين ونادي الضيافة الذي اقيم في بناية كانت معدة ليقيم فيها محافظ ديالى.. الرجل كان يستأجر احدى السيارات بعد ان يأخذ السكر منه كل مأخذ ثم يوجه السائق للعبور ناحية الجسر المؤدي الى مقبرة الشريف ثم يقوم هناك بسلبه كل ممتلكاته ويحرص في اخر المطاف على سلب السائق اوراق المركبة مدعيا بأنه يعمل ضمن مؤسسة أمنية حكومية ، ولا ينسى ان يشير الى احدى الدور الفارهة في منطقة بعقوبة الجديدة مدعيا بأنها دائرة حكومية وان على السائق الحضور في اليوم التالي لدفع غرامة جراء مخالفته لقواعد مرورية او امنية معينة، وقد اسهم خوف الناس من النظام الدكتاتوري في انجاح هذه اللعبة.
لكن شاءت المصادفة ان يكون احد السائقين اخا لمدير احد المستشفيات وحين تعرض للسلب واشار رجل الأمن الى دار مدعيا بأنها دار حكومية ابلغه الأخ بأنها تعود لأخيه.. وبين دهشة وذهول السائق من هذا الكم من الاكاذيب استطاع رجل الأمن مغادرة السيارة والهرب الى عمق مظلم من مقبرة الشريف.. ثم تكرر الفشل مع صاحبنا مرة اخرى وتحول من صائد مغفلين الى طريدة، وتوصل شقيق مدير
المستشفى الى ضبطه في نادي الضيافة فالقي القبض عليه من قبل رجال الشرطة وحكم عليه. وهنا تدخلت لأنهي القصة بالقول: خمس سنوات وشهر.
لكن الرجل لم يلتفت لجملتي بل استمر ليضيف بأن الرجل حكم عليه بخمس سنوات وشهر. وبصوته الثقيل البطيء المتقطع اشعرني بأن الحكم قد صدر ضدي انا وليس ضد المتهم. بعد دقائق من الصمت المعبر ووجوه الاخرين تتبادل النظرات بينها وبيني وكأن ثمة لغة ما يجب علي ان اتفهمها وان احافظ على تماسكي وانضباطي امام هذا الفتور والوهن الدبق الذي يحاول ان يتشبث باذني وبانتباهي وان يحتكرها لصالحه مفترضا بأن علته توجب على من حوله الاذعان والمشاركة عن رغبة او غير رغبة، كنت انظر الى عينيه بين فواصل الكلمات فأرى تلك النظرة الشبيهة بنظرات حيوان جريح، بالتماعة تشي بأن الجلطة التي سبق وأن اصابت المتحدث لم تكن الأولى وان رغبته في الاستحواذ على اسماعنا وعلى اي شيء اخر يقع ضمن نطاق سيطرته السلبية وهي رغبة عظمى بالنسبة له، وربما هي تشكل الحد الفاصل بينه وبين التورط في الاخلاد الى جلطة اخيرة.
وحين استطال الصمت بيننا والعيون الثماني تتبادل النظرات بينها.. انتظرت قليلا علّ الأول أو الثاني يقول شيئا ليحث ذلك العجوز على اتمام قصته لكن الوقت كان يمر ثقيلا وهما في صمت مطبق وكأنهما قد اعتادا الاستماع الى القصص المبتورة من ذلك العجوز الخرف فآليت على نفسي أن اخرق ذلك الحاجز وأن أتكلم.. لكن الصوت لم يخرج من بين شفتي.. وبذلت جهدا مضاعفا.. لكن الخرس حلّ بشفتي وكأنني في كابوس يجثم على صدري ويمنعني من الكلام، ومرّ الوقت بلا كلمات ولا اعرف لماذا شعرت رغما عني بأنني مكتف بما استمعت اليه وأن القصة قد انتهت حقا. ولا داع لأن اشغل تفكيري بتفاصيل أخرى.. ثم خرقت أذني ضحكات معدنية صدئة خرجت من أفواه الثلاثة وهم ينظرون اليّ بطريقة غريبة.. وحين التقت نظراتنا، غرقت انا ايضا بضحك هستيري وأنا أردد دون أن اعي حركات شفاهي: وماذا في ذلك.. وماذا في ذلك؟ ثم شعرت بوغزة في صدري فتوارت اصوات تلك الدقات حتى اختفت وكنت انظر الى الثلاثة بعيون جاحظة بينما هم يواصلون الضحك.