مناظرات الأشعري مع الجبّائي قبل رجوعه عنه..

إشارة : بحوث في الملل و النحل، ج 2 , جعفر السبحاني


إنّ الأشعري هو خريج منهج المعتزلة وتلميذ شيخها أبي علي الجبّائي، ومع ذلك ينقل ابن عساكر عن أحمد بن الحسين المتكلم أنّه قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: إنّ الشيخ أبا لحسن رحمه الله لما تبحّر في كلام الاعتزال وبلغ غايته، كان يورد الأسئلة علي أُستاذه في الدرس ولا يجد جواباً شافياً، فيتحيّر في ذلك،[1] وقد حفظ التاريخ بعض مناظراته مع أُستاذه أبي علي الجبائي، فنكتفي ببعضها:

المناظرة الأُولي

الأشعري : أتوجب علي الله رعاية الصلاح أو الأصلح في عباده؟

أبو علي : نعم.

الأشعري: ماتقول في ثلاثة إخوة: أحدهم كان مؤمناً برّاً تقياً، والثاني كان كافراً فاسقاً، والثالث كان صغيراً فماتوا; كيف حالهم؟

الجبائي: أمّا الزاهد ففي الدرجات، وأمّا الكافر ففي الدركات، وأمّا الصغير ففي أهل السلامة.

الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلي درجات الزاهد هل يؤذن له؟

الجبائي:لا، لأنّه يقال له: إنّ أخاك إنّما وصل إلي هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات.

الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس منّي، فإنّك ما أبقيتني ولا أقدرتني علي الطاعة.

الجبائي: يقول الباري جلّوعلا: كنت أعلم أنّك لو بقيت لعصيت،وصرت مستحقاً للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك.

الأشعري: لو قال الأخ الكافر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني؟

الجبائي: إنّك مجنون.

الأشعري: لا بل وقف حمار الشيخ في العقبة!!

ثمّ إنّ ابن خلّكان لمّا كان أشعرياً في الكلام، استغل هذه المناظرة لمذهبه وقال: هذه المناظرة دالة علي أنّ الله تعالي خصّ من شاء برحمته، وخصّ آخر بعذابه، وأنّ أفعاله غير معللة بشيء من الأغراض.[2]

أقول: إنّ تنزيه أفعاله سبحانه عن اللغو والعبث ممّا دلّ عليه العقل والنقل. ولو اعتزل الأشعري عن إدراك ما يحكم به العقل السليم فليس له مناص عن سماع كلام ربّ العزّة، قال سبحانه:(الّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيء خَلَقَهُ وَبَدَأ خَلْقَالإِنْسانِ مِنْ طين) .[3] وقال عزّ من قائل:(أَفَحَسِبْتُمْ أَنّما خَلْقْناكُمْ عَبثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ)،[4] إلي غير ذلك من الآيات النافية للعبث واللغو عن ساحته.

ومعني القاعدة: أنّ أفعاله علي الإطلاق غير منفكة عن الأغراض والمصالح التي ترجع إلي نفس العباد دون خالقهم. ثمّ إنّ قسماً كبيراً من الحكم والمصالح المرعيّة ظاهر غير خفي، يقف عليه الإنسان بالتأمّل والتروّي، وقسماً منها خفيّ غير بارز لا يكاد يقف عليه الإنسان لقلة علمه وضالّة دركه، قال سبحانه: (وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَليلاً)،[5] وقال عزّ من قائل:(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُّنيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَة هُمْ غافِلُونَ) ،[6] ومع ذلك نعلم أنّه تعالي لا يفعل إلاّ الخير، ولا يعجز عن الإيجاد علي الوجه الأصلح، ومن الخطأ أن يطلب الإنسان تحليل ما في الكون من دقائق الأُمور وجلائلها، بعقله الصغير ودركه البسيط، ويحكم بأنّه كانت المصلحة في إبقاء هذا وإفناء ذاك، وكأنّ هذا هو المزلقة الكبري للمعتزلة، حيث أرادوا إخضاع كلّ ما في الكون من الحوادث والأفعال لعقولهم.

المناظرة الثانية

دخل رجل علي الجبائي فقال: هل تجوز تسمية الله عاقلاً؟

فقال الجبائي: لا، لأنّ العقل مشتق من العقال، وهو المانع، والمنع في حقّه سبحانه محال، فامتنع الإطلاق.

فقال له الشيخ أبو الحسن: علي قياسك لا تجوز تسميته حكيماً، لأنّ هذاالاسم مشتق من «حكمة اللجام» وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت:

فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء

وقول الآخر:

أبَني حنيفة حكِّموا سفهاءكم إنّي أخاف عليكم أن أغضبا

أي نمنع بالقوافي من هجانا، وامنعوا سفهاءكم; فإذا كان اللفظ مشتقاًمن المنع ، والمنع علي الله محال، لزمك أن تمنع إطلاق «حكيم» عليه سبحانه.

فقال الجبائي: فلم منعت هذاوأجزت ذاك؟

فقال الأشعري: إنّ طريقي في مأخذ أسماء الله، الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت «حكيماً» لأنّ الشرع أطلقه ومنعت «عاقلاً» لأنّ الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته.[7]

ويلاحظ علي هذه الرواية:

أوّلاً: أنّ الروايات السابقة دلت علي أنّ صلة الأشعري بالجبائي قد انقطعت بعد انسلاكه في مسلك المحدّثين، والظاهر من هذه الرواية خلافها،وأنّ الأشعري كان يناظر أُستاذه حتي بعد الإنابة عن الاعتزال، بشهادة قول الأُستاذ: فلم منعت هذا وأجزت ذاك....

وثانياً: أنّه من البعيد أن لا يقف الجبائي علي عقيدة أهل الحديث، بل عقيدة المسلمين جميعاً في أسمائه سبحانه، وأنّها توقيفية، وأنّه لا تصح تسميته إلاّبما سمّي به سبحانه نفسه. وذلك لصيانة ساحة الرب عمّا لا يليق بها، إذ لو لم تكن التسمية توقيفية، ربما يعرف سبحانه بأسماء وصفات غير لائقة بساحته، فإنّ السواد الأعظم من الناس غير واقفين علي الحد الذي يجب تنزيهه سبحانه عنه.

وثالثاً: لقائل أن ينصر الأُستاذ (الجبائي) ويقول: إنّ «الحكم»مشترك بين معنيين، أحدهما المنع،والآخر معني يلازم العلم والفقه والقضاء والإتقان; قال سبحانه: (وَآتَيْناهُ الحُكْمَ صَبياً)[8] وإرجاع المعني الثاني إلي الأول تكلّف. وإطلاق الحكيم علي الله بالملاك الثاني دون الأوّل.[9]


[1] . التبيين: 38.

[2] . وفيات الأعيان:4/267 268رقم الترجمة 607، ونقله السبكي في طبقات الشافعية:2/250 251 مع اختلاف يسير، كما نقله في الروضات:5/209 عن صلاح الدين الصفدي في كتابه: الوافي بالوفيات.

[3] . السجدة:7.

[4] . المؤمنون:115.

[5] . الإسراء:85.

[6] . الروم:7.

[7] . طبقات الشافعية:2/251 252 بتلخيص منّا.

[8] . مريم:12.

[9] . لسان العرب:12/140،ط بيروت، مادة حكم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى