منقول - علم الجمال الحديث.. المخاض والولادة.. قراءة في العلاقة بين النص والواقع - ترجمة : مالك الواسطي

(ولد تيزفتان تورودوف في مدينة صوفيا – ببلغاريا عام 1939م وانتقل للعيش في فرنسا بداية السبعينيات من القرن الماضي. ويعتبر تورودوف واحد من أكثر الكتاب تأثيرا في الثقافة الأوروبية. حاز على جائزة نوبل للآداب عام2002 . له الكثير من المؤلفات منها كتابه ” الادب في خطر” الذي نستل منه هذا النص).
إن الرأي القائل بأن النص الادبي نص منقطع عن الواقع لم يكن بدعة باحثي ودارسي الادب اليوم ولم يكن نتاج التصورات الرئيسة للمدرسة البنيوية بل أن هذا الرأي له جذور تمتد الى حقب زمنية سابقة تتزامن وبدايات ظهور أفكار تيار الحداثة نفسه. ومن اجل استيعاب وفهم هذا الرأي أوهذه التصورات ومعرفة تطورها التاريخي لابد لنا من الرجوع الى المراحل الرئيسة التي أسهمت في تكوينه وصياغته كتصور أو كرأي منجز. فقبل كل شيء لابد لنا من القول بأن النص كان مرتبطا ارتباطا وثيقا بعوالم ومكونات العالم الخارجي المؤثرة في تكوينه وهذا ما كان واضحا وجليا في نظرية الشعر لدى القدماء وكلنا على دراية كاملة بتلك الآراء التي استرجعها الكثيرون وقاموا بتكرارها الى درجة السأم. فبنية النص التي تلازمت وما يجول به الواقع الخارجي قد آلت مع تراكم الزمن الى افتقاد النص لمدلولاته الأولى التي أراد لها مبدعيها الأوائل في أن تكون مقياسا للنص.
اندياح النص
فجمالية النص الشعري لدى أرسطو تنصب في اندياح النص الى أن يكون صورة مقلدة للطبيعة بينما كانت وظيفة الشعر لدى أوراتسيو Orazio (شاعر روما وفيلسوفها) منزاحة الى خلق السعادة لدى المتلقي وبث المعرفة لديه. فالعلاقة بين النص والواقع كانت قائمة سواء في تصورات المؤلف الذي يكون ملزما عند كتابته للنص أن يكون مدركا لما يقع واقعا من اجل استلهامه وإعادة بنائه عبر النص (تقليدا للواقع) وكذلك لدى المتلقي أو المستمع الذي يجد باستماعه أو قراءته للنص ما يثير فيه حالة من الاستمتاع الذهني كما تمكنه هذه القراءة من أن يكتسب من النص معارفا يمكن لها عند تفاعلها ذهنيا من تحسين طبيعة حياته اليومية.ففي العصور الأولى لأوروبا المسيحية كان النص الشعري موظفا في خدمة الدين الجديد وقد انشغل كثيرا بالصياغات البلاغية غير مكترث بالواقع الخارجي وهذا ما جعله زمن التحرر من تلك الوصايا مندفعا الى العودة السريعة لمقاييس زمن القدماء في مفهوم جماليات النص. وانطلاقا من عصر النهضة أخذت مفاهيم الجمال تؤسس لفكرة الجمال المعبر عن الحقيقة دون غيرها أي أن النص الجميل هو ذلك النص الكاشف عن الحقيقة والمساهم في عمل الخير وكلنا يتذكر جيدا ما انشده شعرا Boileau عندما قال:” لا شيء جميل خارج الحقيقة والحقيقة نفسها هي الجمال بعينه”. وهذا الرأي الذي لم يكن كافيا في تحديد جماليات النص لم يواجه اعتراضا واضحا بل عمل الجميع على تكيفيه والظروف التاريخية. أما العصور الحديثة فقد شهدت ولادة مرحلة جديدة أدت الى حصر التصورات المحددة لجماليات النص والعمل الفني في تيارين مرتبطين معا بما هو جديد من تقدم حاصل في الحياة المدنية وعصرنة التجربة الدينية المتزامنة وظهور فكرة قدسية العمل الفني. فقد اهتم التيار الأول بإحياء قيم الماضي ضمن معادلة كون الفنان المبدع مساويا للإله الخالق وهذا التيار قد اوجد أفكارا مغلقة على نفسها فالإله في الديانات الموحدة هو الخالق اللامتناهي الذي خلق عالما متناهيا وبتقليده يكون الشاعر (المبدع) مقتربا كثيرا من ذلك الاله في خلقه وابداعه لمكونات متناهية (والمقارنة الأكثر حضورا في الدلالة على ذلك ما تمثله لنا شخصية Prometeo (في الميثولوجيا اليونانية) أي أن المبدع الإنساني على الأرض يصبح مقلدا للمبدع السماوي في لحظة خلقه لعالم الشهادة. ففكرة التقليد لما هو خارج النص تبقى حية لكنها لم تعد ارتباطا بين النص والواقع بل اخذت تمتلك بعدا آخر وذلك من خلال التصور القائل بوجود خالق لعالم الاكوان المتناهية وخالق لعوالم صغيرة دون الحاجة الى أن تكون مخلوقات المبدع الأرضي (مبدع النص) مشابهة لمخلوقات المبدع الكوني سواء في طبيعة الخلق أو في نتائجه فالمهم في هذا التصور يكمن في ظاهرة وجود التشابه في عملية الابداع والخلق أي (ولادة الجديد) .فإن الفكرة القائمة على كون العمل الادبي أو الفني مخلوقا كونيا صغيرا كانت فكرة ظاهرة في السنوات الأولى من عصر النهضة في إيطاليا وذلك من خلال اقوال الكردينال Nicolò Cusano – نيكولا كوزانو،( رجل اللاهوت والفلسفة في القرن الخامس عشر) الذي كتب:” إن الانسان إله آخر… كونه خالقا لأفكاره وخالقا لعمله الفني” وكذلك Leon Battista Alberti – ليون البرتي( )، الباحث في حقل الفنون يرى بأن المبدع “يرسم وينحت مكونات حية لذلك يكون هذا الفنان متميزا والها آخر بين المخلوقات البشرية التي تنتهي بموتها”. ويذهب Landino – لاندينو (ممثل المدرسة الافلاطونية الجديدة في مدينة فلورنسا) الى القول بأن الرب هو أول الفنانين وأول الشعراء والعالم المخلوق عمله الشعري الأمثل”.هذا التصور الذي أخذ بالتجذر لاحقا في جدلية الفن والجمال قد امتد في توسعاته ليؤسس الى الاحتفاء بفكرة المبدع البشري وبدخول الحضارة الأوروبية القرن الثامن عشر استطاعت هذه التصورات ترسيخ مسارات جدلية النقد الوصفي التي جاءت تحت تأثير فلسفة جديدة تمثلت بما جاءت به عقلية الفيلسوف لبنس Leibniz التي أدخلت فكرة البذرة الخلاقة في ماهية المبدع والعالم الممكن خلقه. فالشاعر المبدع هو المترجم الحقيقي لهذه الفئة من المبدعين كونه قادرا على خلق عالم متواز للعالم الفيزيائي القائم في واقع الكينونة، فهو أي الشاعر خالق لعالم مستقل وقابل للفهم عبر المدركات الحسية والعقلية.
قطع الجذور
أما التيار الثاني الذي خرج على تصورات القدماء فقد اجتهد منذ البدء في قطع جذوره والعوم في خلق تصورات جديدة لا ترى في عمل الابداعي انعكاسا للطبيعة كما لا يمكن أن تكون له وظيفة تهدف الى أثارة الدهشة أو السعادة لدى المتلقي ولا يمكن أن تكون له مهمة تعليمية بل أنه يولد بغية أنتاج الجمال لذاته. لذا أصبح الجمال في النص غاية لذاتها. وهذا التفسير لفكرة الجمال التي اصبحت في القرن الثامن عشر الظاهرة الأكثر نفوذا قد تجلت في الخروج من المقدس الى فناء الخلو من المقدسات وبهذا يكون هذا التيار قد أسهم في عصرنة المقدس. وضمن هذه الجدلية بالذات نجد القديس أوغسطينوس في نهايات القرن الرابع قد وصف الاختلاف بين المشاعر التي تقود الفرد نحو خالقه وبين المشاعر التي تقوده نحو الاخرين. فإن الأشياء والمخلوقات كما يقول أوغسطينوس تتفاعل فيما بينها بغية الارتقاء في سلم الشعور والمعرفة للوصول الى مرحلة التكامل والارتباط بخالقها بينما يكون ارتباطها بخالقها ارتباطا لا يسعى الى الرقي المعرفي بقدر ما يسعى الى الحلول في الرحمة المطلقة والسعادة التامة أي أن الفرد بعلاقته مع الأشياء والمخلوقات التي تحيط به تساعده في الارتقاء وفهم وتذوق جماليات الخالق الذي تكون العلاقة به منحصرة في الشعور بالسعادة الدائمة والجمال المطلق. لذلك فإننا نستطيع القول بان تصورات القديس أوغسطينوس في وصفه للحاجة في الارتقاء والشعور بالسعادة المطلقة هي نشاطات إنسانية لم يجرؤ منظرو القرن الثامن عشر على الاتيان بشيء مخالف أو جديد بل قاموا بقلب المعادلة أو مسارات الطريق المرسوم من قبل القديس أوغسطينوس المتمثل بالفهم الافلاطوني للدين. فإن افلاطون قد وصف الخير المطلق بأنه خير مكتمل بذاته وخالق هذا الخير ليس بحاجة الى شيء اخر لأنه يمتلك الكمال المطلق. فالفيلسوف اليوناني (افلاطون) يدعو في حقيقة الامر الى التأمل بعيدا عن الأفكار المجردة في إدراك وتفسير معنى الجمال المطلق وإن مر أكثر من 22 قرنا على تلك الآراء فإننا لم نكف عن استرجاعها من اجل التمكين في تفسير معنى “الجمال”. لذا فإن المبدع لا يمكن أن يكون القرينة لرب المخلوقات اعتمادا على ما يتمتع به من حرية بل أن العمل الادبي أو الفني المخلوق يصبح هو القرينة لما يتحقق فيه من تكامل شروط مظاهر الجمال المطلق. ونتيجة لهذه المتغيرات في فهم جماليات العمل الادبي أو الفني شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر ظهور تصورات وأفكار اتسمت باستقلاليتها سواء في حقل نظرية الجمال التأملية أو في احكام وفهم التذوق الفني أو فهم وإدراك الجمال. وهذا لا يعني البتة بأن القدماء قد تجاهلوا فكرة (الجمال الطبيعي) أو (جماليات العمل الفني) بل أنهم لم يشاطروا القائلين بالفهم الافلاطوني للفن الذي جمع بين الحقيقة والجمال فهم يرون فيه جزءا من أنشطة الفن التي تنصب مهمتها الأولى في تحقيق الوظيفة الاجتماعية أو الدينية.فالفلاح يرى في عمله اليومي حاجته وسعادته عبر رؤية الخطوط المستقيمة التي يقوم محراثه بصناعتها شريطة أن تكون تلك الالهة قادرة على تحقيق النتائج المثيرة لسعادته واحساسه بقدرته على الخلق.
أما النبلاء فنجدهم مهتمين بتزيين قصورهم التي تعرض للزائرين تاريخ العائلة ومقامهم الاجتماعي وكذلك رجل الدين الذي تسحره الموسيقى التي ينصت لها خاشعا في كنيسته وينحني مبجلا التماثيل التي تزين الكنيسة والتي تمثل له رموزا للرب والقديسين وتعمل على خلق حالة من التناغم ومعتقداته الدينية. فإن أدراك البعد الجمالي في جميع الأنشطة الإنسانية ما هي الا دليل على ميل في فطرة الانسان وماهية تكون مدركاته.أما الشيء الجديد الذي عرفته أوروبا خلال القرن الثامن عشر هو ذلك التصور الذي قام بإفراغ جميع الأنشطة الإنسانية من بعدها الجمالي وحصر الجمال في بعد واحد هو التأمل الدائم في معنى الجمال الذي أصبح نقطة جذب معرفي استمد كينونته من مفهوم ” الحب الإلهي”.
ونتيجة لهذا التحول يصبح الفنان مطالبا بإنتاج اعمالا فنية همها الأساسي انتاج التصور المتكامل للجمال. منظور نعثر على بذوره المولى في كتابات Shaftesbury وHutcheson في إنكلترا تلك الكتابات التي مهدت عام 1750 الى ظهور كتابات Alexander Baugurten التي كانت بمثابة الإعلان عن ولادة حقل علم الجمال الحديث وله يعود نحت مصطلح (علم الجمال- “Estetica”) الذي يعني علم إدراك الانطباعات.
صفة ثورية
إن الصفة الثورية في هذا التصور تكمن في الابتعاد عن منظور مركزية المبدع للعمل الفني وتبني مركزية المتلقي الذي يسعى عبر اهتمامه بالعمل الفني أو الادبي الى خلق حالة من الشعور الغارق في التأمل الدائم بجمال العمل الفني. هذا التحول كان مصدرا لظهور نتائج متعددة منها في المقام الأول الفصل بين جميع اشكال وأساليب الخلق الفني وما يرتبط بها من نشاطات كانت تمثل امتدادا للعمل الفني نفسه وهذا الفصل يظهر بشكل جلي في بيئات مختلفة منها الفنون الحرفية والفنون التطبيقية. ففي المنظورين الإبداعي الفني والصناعي لم يعد الفنان أكثر من كونه صانعا ماهرا. وكلاهما (الحرفي الصناعي والتشكيلي) يمارسان العمل نفسه والفرق بينهما يعتمد على كفاءة أحدهما دون الآخر. وإن أردنا المقارنة بين الاثنين آخذين بالاعتبار المنتج النهائي لكليهما نجد أن الحرفي يختلف عن المبدع في الفن التشكيلي فالحرفي تنحصر قدرته في الخلق على انتاج منتج يوظف في الحياة اليومية بينما يقوم المبدع التشكيلي بإنتاج اعمال فنية وظيفتها خلق حالة من التأمل والميل الى تذوق الجمال لذاته. فالأول يكون ميالا لتحقيق منافع اجتماعية عبر منتجه بينما يبقى التشكيلي غير مهتم في خلق تلك المنافع لذلك يكون الأول منخرطا في جدلية المنافع بينما يميل الثاني (الفنان التشكيلي) الى ان يكون عمله ممهدا لولادة الشعور بالسعادة وفي النهاية نجد مكوث الأول في حدود كينونته الانسانية بينما يسعى الفنان المبدع الى الاقتراب من منزلة المقدس. ومن نتائج تلك التصورات أيضا اعتبار الفنون جميعها من فئة أو فصيلة واحدة بينما كانت في الماضي تتميز عن بعضها البعض بتميز الأساليب التي تسلكها الفنون في التعبير عن وجودها الطبيعي. فالعمل الشعري والعمل الفني التشكيلي والعمل الموسيقي يمكن لها ان تصنف في فئة واحدة طالما تشترك في عدم الاهتمام بتحقيق المنفعة وهذا التصور هو عين فكرة نظرية الجمال.إن وصف النص بـ (النص الجميل) لم يزل متجذرا بمفهوم التجربة غير الفنية وذلك لوجود “النص” غير الجميل. وهذا ما يمكن قوله أيضا على مختلف أنواع الفنون فإن نجد الى اليوم أنشطة واسعة تهتم بالفنون ذات المنافع التطبيقية ولم تزل هذه الفنون ذات أثر كبير في الحياة اليومية للإنسان.
فالنص الجميل تعبير يستمد مرجعيته من الدراسات الإنسانية التي تقف بالضد من الدراسات العلمية.
فنون معمارية
والنص الجميل يشمل كذلك الدراسات التي تهتم بتقييم وفهم الفنون المعمارية والرسم والنحت. فالمنظور الجديد والقبول به يجعل من صفة(الجميل) غير ضرورية في وصف العمل الإبداعي وذلك لان الجمال قد أصبح جزءا من مكونات العمل نفسه التي تشترك فيه الكثير من العناصر المجتمعة في عملية الخلق والابداع. فالدراسات والبحوث القديمة التي عالجت موضوعة “الفن” قد صيغت عبر نصائح قدمت للشاعر والرسام والموسيقي بينما أصبح اهتمامها اليوم منصبا على وصف مراحل تطور العمل الفني ذاته وتحليل مكونات العمل ومدى تأثيرها في ذوق المتلقي وهذا يعني اخضاع العمل الفني لقواعد علم الجمال الحديث التي تنصب بالدرجة الأولى على قدرة العمل الفني في تحقيق اعلى مستوى من الجمال. فتدريس مادة (الآداب) في فرنسا مثلا قد بدأت بتطبيق هذا المنهج بعد 100 عام من التأخر. فدراسة الآداب في هذه الدولة حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت تتركز على الجانب النظري (تعليم صيغ الكتابة)، ثم اخذت بعد ذلك تطبيق منهجا مغايرا في التدريس هذه المادة اعتمادا على منهجية المنظور التاريخي لتطور الآداب والفنون وبالتالي تزرع عبر هذا المنهج في المتلقي (التلميذ) القدر على قراءة النصوص والاعمال الفنية.ومن نتائج هذا المنهج نجد أن الاعمال الابداعية التي فصلت عن هدفها الوظيفي (وظيفتها الدينية مثلا) وخاصة التشكيلية منها أصبحت بحاجة الى مبان تضمها لتكون معروضة للجميع بغية تحقيق المتعة الجمالية لأكبر عدد من الجمهور لذلك اقيمت المتاحف والكاليريات ونظمت المعارض التي تضم الكثير من الاعمال الفنية فالمتحف البريطاني قد فتح ابوابه للعامة عام 1733م كما فعل متحف مدينة فلورنسا Gli Uffizi ومتحف مدينة الفاتكان عام 1759 ونضم لهذه المنهجية متحف اللوفر عام 1791م. إن عملية جمع الاعمال الفنية في موقع واحد أو في مبنى واحد كالمتاحف قد جردها من تلك الوظيفة التي انيطت بها قبل هذا التجميع حيث كانت تزين الكنائس وتسهم في ترسيخ عقيدة الايمان كما كانت تزين قصور النبلاء والامراء لتدل على المكانة الاجتماعية لأصحابها فقد أصبحت اليوم معروضة في متاحف عامة لا لترسخ وظيفتها تلك بقدر ما أن تكون محطة تأمل للمتلقي الذي يسعى في رؤية هذه الاعمال الى اصطياد لذة الجمال المبثوث في العمل الفني. فأسبقية المعنى التي كانت يحتلها على الجمال في العمل الفني لم تعد كذلك ضمن المنظور الجديد الذي منح الجمال الاسبقية المطلقة في العمل الإبداعي بدلا من وظيفته اللاهوتية أو الاجتماعية أو الأسطورية التي أصبحت بعدا ثانويا بعدما كان من أولويات الفنان عند إنجازه تلك الاعمال. فكل شيء يدخل المتحف ويحتل مكانا فيه يصبح عملا فنيا مهما شريطة أن يكون معروضا بشكل لائق يحقق للمتلقي الشعور بالدهشة والسعادة التي يبثها العمل الإبداعي. كما إن الترابط بين العمل الفني ومكان عرضه قد احتل أهمية كبيرة في عيون المتلقي وهذا ما دفع Marcel ( )الى وضع عمله الشهير Orinaoio في موقع خصص لعرض الاعمال الفنية وبمجرد وضع هذا العمل في موقع يتصف بأهميته ووظيفته جعل من ذلك العمل جزءا من الموقع ذاته بالرغم من أن هذا العمل لم يكن لوحة تشكيلية ولم يكن عملا نحتي.خلاصة القول إن التيارين الذين طغيا في القرن الثامن عشر واستطاعا خلق تحول جذري في مفهوم الفن بدءا بالارتقاء بمنزلة المبدع للعمل الفني الى منزلة الرب وبجعل العمل الفني مصدر تأمل والهام لذاته. وقد عملا معا على عصرنة العالم الأوروبي وعصرنة الفن. وفي هذه المرحلة التاريخية جسد الفن فكرة حرية المبدع والارتقاء بمنزلة الإنسانية الى جانب استقلاليته المطلقة وسموه قياسا بمكونات الواقع المحيط به. فالتياران قد أسهما اسهاما واضحا في تبادل تجذرهما النظري فالجمال على الصعيد الحياتي لم تعد له وظيفة عملية وعلى الصعيد الفني والتركيبي أصبحت العناصر الداخلة في تكوينه شبيهة بإتقانها ووظيفتها بالعناصر التي تدخل في تكوين وخلق الاكوان التي تقودها دقة النظم الفيزيائية. إن غياب الوظيفة الخارجية للفن قد عوض عنها بغنى مكونات العمل الفني الداخلية وهذا يعني حبكة العلاقات القائمة بين عناصر مكونات العمل الفني ومنح الفن السطوة في الارتقاء الى المطلق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى