د. عبير خالد يحيي - - القصيدة الكونية والبيانو الشعري في ديوان: ميلونجا للشاعرة المصرية هالة الفحام

تقديم:

إن الشعر الذي لا يحتفي بالكون وبالإنسان الذي يعيش في حيّزه الحدودي, هو شعر محبوسٌ باللغة, محكومٌ بمحلّيّتها, مقصىً عن الفضاء الفسيح اللامتناهي بالمفهوم القممي للشعر ... وعصرنا الحالي يسعى لجعل العالم قصيدة كونية, بمدّ الشعر خارج حدود اللغة واللهجات, ليستوعب كلّ الأزمان, ويصنع نسغًا روحيًّا خاصًا, مركّبًا بكيميائية جمالية خاصة, ثمّ, يشارك به كحصّة مساهمة في شجرة الشعر الكونية. وهنا يحضر الشعر بمفهومه البيانوي.
في مقال لإبراهيم محمود في يوم الشعر العالمي الذي صادف يوم الجمعة من 12 مارس 2014 , منشور في ملحق الخليج الثقافي, تحت عنوان: قصيدة كونية مكثفة في يوم عالمي البيانو الشعري, يقول:
" البيانو الشعري, وليس البيان طبعًا, وما فيه من إراقة دم الشعر وتجييره اسمًا على مسمّى, وهو أنك تقيم علاقة شمولية معه, كل جسمك موهوب للبيانو, العزف باليدين, والتحرّك في الاتجاهين, دون افتراق اليدَين, وتكون الملامسُ ببياضها وسوادها, حاضنةَ الألوان ومسمّياتِها, ولكل ملمس نكهته, وبراعته, كأن هذا الطباق مأخوذ بحرفيّته الموسيقية البيانوية: اليدان كلتاهما, الأصابع كاملة, العينان كلتاهما, الأذنان كلتاهما, القدمان في الأرض, الرأس متجاوب, الجسم مأهول برهبة البيانو والنابض من الداخل, القواعد ثوابت متحركة, ملء المكان والأنظار والأسماع, ربما هي مقاربة أخرى للشعر , كما هو السعي إلى التعامل معه, بوصفه قدرنا الجميل في تنقية حسّنا الإنساني بإشاراته اللمّاحة.
البيانويون كثر بحضورهم, قليلون بإحصائهم, كما يعلمنا تاريخهم المتنقل عبر الحدود, كما هو وضع شعراء لهم انتماءاتهم القومية , لغاتهم, لكن المقتفى في شعرهم ما يخصّ كل اللغات:
فشاعر " جلجامش" المجهول, هوميروس, المعري, دانتي , رامبو, بوشكين, بايرون, لوركا,أنسي الحاج, ماياكوفسكي, نيرودا, رفائيل إلبرتي, عبد الوهاب البياتي, يانيس ريتسوس, ناظم حكمت, برايتن برايتنباخ, رسول حمزاتوف, محمود درويش, الجواهري, شيركوه بيكه س. لكل منهم سلّمه إلى السماء وأصوله في الكرة الأرضية, جسده بألف أصبع وأصبع على ملامس البيانو الكوكبي, باعتبارهم روحًا واحدة."
إن من يقرأ شعر هالة الفحام, سيجد بلا أدنى شك أنها من البيانويين الكثر في حضورهم, الذين قلّ تعدادهم, والذين أقام الشعر في كامل أجسادهم إقامة صامتة, وعندما ثار تعبيرًا مجازيًّا, نُعِتَ أصحابُه بالجنون.
في قصيدتها المونوريل أفضل لك, تقول:
حينَما تهبطُ ملائكةُ الشِّعرِ..
على سفحِ الهوى المطلِّ..
على شرفاتِ النورِ..
الموزعةِ توزيعًا "أفلاطونيًا"
بغرفتي البحريةِ...
يجبُ أن تجدَني
وكاملَ بهائي اللائقِ
بشرفِ استقبالهم؛
فغالبًا هبوطُهم لا يكونُ اضطرارًا،
بل يسبقُهُ استدعاءٌ...
يندى له الجبينُ؛
ولكي يكون الشعر لافتًا للانتباه, يجب أن تكون فيه للدلالة السيميائية و والإيحائية الذرائعية قوة كبيرة في الكشف عن معناه, كعلاقة الجسد بالخارج, وقدرته على تكوين علاقاته مع المحيط, حيث الشعر هو الكامن في الجسد, وعليه يكون أداء هذا الجسد بقدر الحمولة الفنية الكامنة فيه, أي أن هذا المركّب المتشكل من كتلة ( جسد- شعر) والرغبة بالأبدية المؤصّلة فيه, والتي ينشد الوصول إليها, في سبيل هذا الوصول عليه أن يتناسل بعلاقات مصاهرة ونسب مع العالم والحياة بكل ألوانها وأصواتها وكائناتها وأجناسها وحوادثها.
في قصيدتها (روح ثائرة), نجد الشاعرة تحقق بعضًا من تلك العلائق, مزاوجة عالمها الداخلي الحزين, مع العالم الكوني الخارجي الذي يحتفل بعام جديد:
أكتبُ رسائلي اليوميةَ..
غيرَ القابلةِ للنشرِ..
لصندوقِ الدنيا؛
فالعامُ الجديدُ..
يجبُ أن يكونَ اليومَ..
أطولَ منْ شَعري كثيرًا؛
حتى أستعيدَ ما سقطَ منه..
في العامِ المنصرمِ
وأنْ يكونَ لونُهُ أكثرَ إشراقًا؛
حتى يتماهى معَ ازدواجِ شخصيتِي..
الغجريةِ الرومانسيةِ...
في الشعر الكوني, تتعدّد الأصوات والأعمار, وتتفاوت بتفاوت الإيقاع الشعري, يبقى الإبداع هو ما يحدّد عمر الذات الشاعرة, من خلال فيوض الصراعات مع الوجوه العديدة للذات, في بحثها عن مكان تكتب فيها اسمها على حائط الشعر في قوائم الشعراء المزحوم بالنجوم. يحاول الشاعر الكوني أن يجعل لنفسه موطئ قدم على القمم, كيف ذلك, وقد سبقه من سبق, هو أصلًا لا يبحث عن ذاته لا على القمم ولا على التخوم , وإنما يبحث لذاته عن عالم جديد, وحقل جديد لم يُزرع بعد, لننظر كيف تجاهد الشاعرة هالة الفحام في بحثها عن عالم جديد لذاتها الشاعرة :
من قصيدة (هزمتني فأحييتني), تقول :
لا تَصالُح..
معَ منْ سكنَ القمرَ..
في سالفِ الزمنِ،
سأحتلُّكَ في سَرِيرةٍ..
بطعنةٍ شريرة على نيّتِي،
لا تذهبْ بعيدًا..
لتبحثَ عن جوابٍ،
ولا تكنْ حتى..
على حدودِ الذكريات.
الشاعر الكوني لا يضنّ بعلومه على شعره, بل نراه يوظّف ثقافته المعرفية في معظم قصائده , إن لم نقل كلّها, فهي محمولة على صوره التخييلية, وعلى حالاته الشعورية, ورموزه ومرجعياته, ولقد وظّفت الشاعرة في قصائدها العديد من مكتسباتها المعرفية, منها المعرفة الأسطورية برموزها الإيحائية التي وجدناها في الكثير من القصائد منها:
في قصيدة (أكتب لنفسي):
حينما أكتبُ..
أكتُبُ لنفسي...
كما يُقال لِي،
فهل أكتُب ليعرفَني الآخرونَ،
أم بي مسٌّ من نرسيس*؟!
ومن قصيدة (أقمار حبيبي):
"أفلاطون"
يبحثُ لَهُ عنْ مدينةٍ،
"بوسيدون"
بلا بحرٍ، بلا نهرٍ، ولا ينبوعٍ؛
لنحيا عمرَين،
ونرحل مرتَين،
كما وظّفت ثقافتها الفنية الموسيقية :
كما في قصيدة (همس وألحان) :
"البيانو" "الوتريات" "الكاستنيانا"
يغازلونني بكلِّ جرأةٍ،
كيفَ أهربُ منَ البزقِ؟!
ليلاحقَني الهاربُ "والقانونُ"
(فأنَا لحبيبي وحبيبي إلي
لا يعتب حدا ولا يزعل حدا
ويا شمس المحبة حكايتنا اغزلي)
في قصيدة( نهاري أنت ) وظّفت ثقافتها الغنائية العربية الطربية :
ولن أسمعَ منكَ..
(ليالي فيك أسهر وأفكر)*
ف"أمُ كلثوم" قد ماتتْ،
ودُفِنتْ...
معها (ألفُ ليلة وليلة)
أما في قصيدة (روح ثائرة ) وظّفت ثقافتها الغنائية الغربية :
ففرقةُ "بينك مارتيني" الأمريكيةُ...
قريبًا ستُعانقُ القلعةَ...
في حفلتِها الأكبر،
سأكونُ أولَ الحاضرينَ
لسماعِ مُغنيتِها الناريةِ
"ستورم لارج" تغني
تغني "لأرماندو"
لأعشقَهُ أنا أينما كانَ
وأينما أكونُ...
سيكونُ "أرماندو."
وظّفت أيضًا ثقافتها الأدبية, من الأدب العالمي:
في قصيدة (كما أنا كما أنا), تقول :
الدروبُ كلُّها لا تؤدي إلى روما...
رغمَ مصافحتِي لدانتِي مرارًا،
رغم إلقائِي ببعضِ العملاتِ الفضيةِ..
"بالفونتانا دي تريڤي"
لاكتمالِ النصِّ...
حتى تيارِ الوعيِ المتدفقِ..
الذي يسيلُ من عروقِكَ النابضةِ..
بأفكارٍ كما خليةِ نحلٍ راحلةٍ..
من قدسِ الأقداسِ العتيقةِ..
إلى مذابحِ الإغريقِ البعيدةِ..
في قصيدة (وطن يشبهنا), وظّفت معارفها عن الحضارة الأغريقية :
واليومَ يجبُ أنْ أستعدَ
لتتويجِ "يوريبيديس"
على عرشِ القصيدةِ
علَّني أجترُّ كلَّ ما درستُهُ عنْ حضارةِ الإغريقِ ..
ولغتهمِ غيرِ الحيّةِ المحمولةِ في شهادتي الجامعيةِ...
والشعر الكوني لا يتجاهل حضور شاعره, بل يطلبه بشدّة, ليتباهى بشخصه, ويعتدّ بقوة حضوره, مهما كان هذا الحضور مقيّدًا إلى ثوابته, فلا يخجل الشعر الكوني من شاعره الهارب من زمنه الحاضر وتاريخه المحدود وواقعه المأزوم, والمحلّق في فضاءات الخيال التي تجتمع فيها أصوات الشعراء من كل الأصقاع, الضاجّة بالهمّ الإنساني والوجداني, ليلمّ شملهم الشعري المشتّت في حضور كوني بهي, وهاهي الشاعرة هالة الفحام, يباهي الشعر بحضورها الذي لم ينفصل يومًا عن ثوابتها القديمة, كما لم ينفصل وطنها عن أصوله, بمقاربة رائعة بين الوطن والذات, تقول في قصيدة (وطن يشبهنا) :
بعدَ خمسين وستةٍ منَ الأعوامِ
ما زلتُ أطهو البطاطسَ
على طريقةِ أمي القديمةِ
أسلقُها أولًا على مهلٍ،
ثمَّ أقليها في الزيتِ الحارِّ..
على عجلٍ
بلْ يجبُ أنْ تُطهَى..
حياتي بنفسِ الطريقةِ؛
فكلُّ الأمورِ يجبُ أنْ تأخذَ..
وقتَها الطبيعيَّ في النضجِ
إن الشعر الكوني, هو شعر اللانظام, الرافض لكل نظام, الشعر الثوري المختنق من آبائية السلف, والمتطلّع إلى عهد جديد, بإصرار كبير على التحوّل, واعتزال المرجعيات, ولا يهمّ إن كان التحريض همسًا أو إيحاءً, المهم أن النسف يطال كل قاعدة, لتشييد الاختلاف الأسمى , في قصيدة (ليل سهيل) تقول الشاعرة:
ليسَ ذنبًا..
أنْ أرى الحبَّ في عيونِ ماجنٍ،
أتعاطفُ مع قاطعِ طريقٍ،
أو سارقِ العمرِ الجميلِ...
فى رحابِ مدنٍ تليدةٍ..
تصولُ الروحُ،
والحسنُ الرشيق...
ليس بي ذنبٌ..
فى مناجاةٍ خفيةٍ،
وكأسِ نبيذٍ..
بليل سهيل؛
فتشرقُ حريةُ قلبٍ ودينٍ
الشاعرة احتفلت على طريقتها بالمناسبات المجتمعية, والقومية الوطنية, واستخدمت معظم الأغراض الشعرية, حتى القديمة منها, كالرثاء والحكمة, لكنها أفردت للقصائد التأمّلية مساحات كبيرة, ورشقتها بالعديد من الاقتباسات والتناص القرآني :
من قصيدة (آخر أوّل قصيدة) :
سأتلو عليكَ حكاياتِ الأوّلينَ،
تُستدعى الروحُ لعشاءٍ أوّلٍ..
من جديدٍ،
من قديمٍ،
من بعيدٍ
قدّوسٌ قدّوس،
ربُّ الروح،
ربّ العرشِ والملكوتِ،
أتتْ بك الليالي..
من كلِّ فجٍّ عظيمٍ...
حتى أنها كتبت القصائد الصوفية, برؤية كونية مغايرة, جمعت فيها الشرق والغرب:
في قصيدة (وجهتنا القدرية), تقول :
أحاديثُنا أحاديةٌ ثنائيةٌ..
لها ما لكَ في قلبي..
لباسُ الحريرِ،
وقبعةٌ آسيويةٌ،
الأحمرُ ملوكي،
الثوبُ ثوبُ عربيةٍ،
أحاديثُ العشقِ نورانيةٌ،
فموعدُنا...
بين القيدومِ* والمارومِ*،
ووجهتُنا قدريةٌ.
للأماكن عند هالة الفحام بعدها الإنساني, بعيدًا عن بعدها الجغرافي, فسجن الباستيل يعنيها إنسانيًّا وتاريخيًّا, فالإنسان إنسان, والسجن سجن, في كل الأصقاع, وكل الأزمان, من قصيدة ( سجن الباستيل), تقول:
ألوانُ سجنِ الباستيلِ باهتةٌ،
أحجارُهُ صلبةُ البنيانِ
أتعبني الترحالُ،
اليابانُ،
بلادُ الغالِ،
أوروبا البيضاءُ،
أفريقيا السمراءُ،
أمريكا التي كانتْ حمراءَ
كلُّ الإجاباتِ مؤقّتةٌ...
لحياةٍ مؤقّتةٍ،
للعصيانِ أبوابٌ مؤصدةٌ،
صفحةُ نهرٍ يطفو عليها سجانِي،
لم تكن, في الديوان, كل القصائد نثرية, بل كان هناك قصائد تفعيلة, وبعضها قصائد نزارية , مثل قصيدة (همسٌ وألحان):
سأهمسُ (لفيروز)، والألحانِ؛
لأخمرَ أكثرَ،
لأسكرَ أكثرَ،
وأحبك أكثرَ أكثرَ
اغزلي..
لقلبي... روايةً،
ولعيني... حكايةً،
وعلى جسمي أوشمي صوتَهُ..
بألف وردةٍ...و (ضحكاية)
ختامًا:
إن الشاعرة هالة الفحام, في هذا الديوان, تلعب ذات اللعبة الأبدية, تخاتل فيها القارئ بجمالياتها, حينما تدخله في فتنة التخييل, حيث تشرك المتلقي في خيالاتها الشاعرة, وتنظر إليه متأمّلة في مدى اندماجه مع ما توحيه إليه من خيالات, وبعد أن تجعله متوافقًا مع تطلّعاتها, تحفّز عنده الرغبة لقول الشعر, أمّا هي, فيتصاعد عندها الشعور بمتعة وجودها في العالم, تنصتُ أكثر لصوتها, مؤمنة بأن العالم ينتظره, كما ينتظر أضاءتها المباغتة, ودهشة التلقي, والإعجاب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى