عزيز معيفي - نص "كلبش" القصصي لموسى مليح.. من تشوه الخلقة إلى تشوه العالم..

أذكر ـ وأنا تلميذ في السنة النهائية إعدادي ـ أنه زارتنا بعثة عسكرية من القوات الجوية الملكية، يتقدمها ضابط كبير، لتحفيزنا آنذاك على دخول الأكاديمية العسكرية الجوية. شرح لنا ونحن منشدين إليه أيما انشداد، أن الطيار العسكري لا بد أن يكون شديد النباهة، وكذلك شديد التركيز. بعد ذلك طرح علينا سؤالا حول ما يمكن فعله إذا واجهتك طائرة معادية.. أجاب بتسرع تلميذ ذكي:
ـ سأحسب الأبعاد الهندسية وأصوب وأطلق..
ضحك الضابط، واستدركه:
ـ ولكن في الوقت الذي تحسب فيه، هو كذلك يحسب، وحتما سيصوب ويطلق!!
هذا ما يحدث وأنت تطّلع على نصوص موسى مليح القصصية!
ـ هو بالطبع ليس طيارا معاديا.. نصوص تحمل من الكثافة والقوة الفجائية ما يجعلها تمتنع عن التأطير النقدي الكلاسيكي ـ بل إن اقتصادها يجعلها متسمة ببهلوانية جمالية عالية، تشبه ما يقوم به لاعبو السيرك من تطويع لأجسادهم، لتؤدي أدوارا خارقة لا يقوى عليها عامة الناس.
وعليه يمكن تصنيف نص "كلبش" ضمن الأخّاذ من منجز مليح القصصي، وستسعى هذه السطور للوقوف على ما جعله كذلك.
العنوان: "كلبش" تركيب عجائبي
يذكر العنوان "كلبش" بتركيبه الجميل، بالعنوان الذي اختاره إيميل حبيبي لرائعته "المتشائل"..
تركيب يخرج عن المألوف، ويمتح من القاموس الحيواني، فهو يحيل على كائن يجمع بين الكلب والكبش.. غير أنه يدشن في عالم الوجود السيميائي كائنا خرافيا، لم ولن يتسنى له الوجود إلا ضمن عالم مليح التخييلي.
يدخلنا هذا العنوان في حقل العجائبي، ولا يبعدنا كثيرا عن أسلوب التورية والذي بني عليه نص كليلة ودمنة في الأدب العربي القديم.
لا نكاد نطمئن إلى أن هذا العنوان يشكل وجها للنص، حتى نكتشف بأن هذا الوجه لا يشبه مطلقا ما يدخل في دائرة المعلوم معجميا. فهو يستدرجنا إلى المجهول الذي لن نحيط بأسراره إلا بعد استيفاء التعرف على كل ثنايا النص، وزواياه المعتمة، حيث يتخفى البياض في المعنى.
نص يحبل بشعرية التحول والتقابل
ننتقل إلى جسد النص، بعد أن فاجأت رؤيانا بحيرة شعرية / قصصية يتموج ماؤها بين السريالية والدهشة.
في البدء كان العجيب.. وكانت شخصية "سامسا" الذي تحول إلى حشرة ضخمة في رواية "المسخ" لكافكا.
هكذا تمكن مليح من استيلاد كائن عجيب هو الذات التي تحولت ضمن أطوار النص إلى ما يثير الدهشة، ويجعلنا نغوص في ذاتنا تحسُّسا لما قد يطرأ علينا ونحن نقرأ هذا النص!! ولبلوغ هذه الغاية سعى كذلك إلى إزالة بعد السطح من تمثلاتنا، ليخترق العمق كبعد فني أحاسيسنا.
كل شيء يتحول، ويدعو إلى الرغبة في الاكتشاف.. تماما كما حدث في البداية القوية للنص..
وهل هناك أقوى من لحظة الولادة؟..
لحظة الولادة تشبه الانفجار العظيم "البيغ بانغ" حيث يظهر إلى الوجود كائن قادر على التأمل والاستقراء، منذ انبلاج النور من الظلمة، وخطو الخطوة الأولى التي نقلت المولود / السارد من الوسط العضوي ـ بطن الأم ـ إلى الوسط الدلالي.
ففي حركة الذهاب والإياب بين الوصف والحكي، يغلب السارد معجما بصريا: (تأملت شفتيها ـ نظرت إلى أذنيها ـ شد انتباهي).
تتلو البعد البصري حاسة السمع (نظرت إلى أذنيها).. وهكذا تتعرف الأم على وليدها، وتتفاعل معه؟ وهي ـ حقيقة ـ حركة معكوسة يتماهى فيها السارد مع الوليد، ويدخل في تأمل دقيق لوجه الأم / العالم.
عن طريق الصوت والبصر، وما يلفهما من بعد فني عبثي، تحدث الولادة التي تأخذ في النص موقع الانطلاقة، وتسمح باندلاق النص، وكأنه رد فعل عبثي يختزل مجمل الوجود في ثلاث كلمات: (الطلق / صرخة أمي / أنا)..
لعلنا هنا ندخل في عبثية ألبير كامو في رواية " الغريب" التي استهلها بعبارة "أمي ماتت"..
الحياة التي سيبتلي بها هذا المولود، تشبه إلى حد بعيد الحدبة التي سيستعملها طوال حياته، ولذلك تيقّظ وعيه منذ لحظة الولادة، واكتسب قدرة شبه طبيعية على اكتشاف ما جعل تشوهاته متلائمة مع اعوجاج الحياة.. أليس ذلك هو الأنسب لم سيحمله لبقية عمره من فقر وظلم ومعاناة؟!
من "جمالية القبح" التي يحملها العنوان، ينتقل السارد إلى وصف الوجه موظفا جمالية التقابل الذي لا يمكن فصل عراه، لأن منبعه الحواس.. وعلوم أن هذه الأخيرة محكومة بالانسجام.. ولكننا هنا أصبحنا فريسة لتفاعل من نوع جديد لا يقبله المنطق الطبيعي، وبالعكس يقبله منطق العالم الذي لا يستوي إلا في الطوبى!!: (عين ترقص من الفرح / وعين تدمع من القرح).
الأذن بدورها تتحول وتسمع لوصف الإحساس الداخلي بإتمام التفاعل المأمول حصوله..
كل شيء يعلن عن الانكسار.. وحتى الزغرودة أصبحت مبحوحة..
تجدر الإشارة إلى أن السارد لم يذكر الأم بمطلق اللفظ، بل استتبعها لحاسة من حواسها، أو لما يدل عليها (وجه أمي / ذات أمي..) ، أو لضمير الغائب. أين هي الأم ببعدها الوجودي العاطفي الصرف؟ علامة الحرمان تلوح من بعيد لفزاعة الحقل!!
المؤشر الثاني على الحرمان، وعلى فقدان العلاقة العاطفية الطبيعية، يبتدئ من خلال اعتبار الأب مجرد رجل (رجلا ـ ربما أبي).. وهنا يعوي الحرمان الوجودي عواء عميقا، صادرا عن جرح أحدثه المقدم إلى العالم..
مرة أخرى تتسع مسافة التقابل بين ما يحتاجه الوليد من عطف، وما استقبله به "الحشد" في اليوم السابع من تعجب واستهجان، لأنه لا يشبه الآخرين، ولا يشبه "الحشد": (إني مخلوق لم يُر مثيل لي من قبل..).
هنا يسنح السارد لنفسه بأخذ متسع من الحرية في توظيف السخرية: (الرؤية من خلف حيواني!!) مع ما يستتبع ذلك من فضح الجاهل الذي لا يقبل الاختلاف، ويعتقده خروجا عن سنن الحياة.. ويضفي عليه ما شاء من سطحيات وسفائف الوجود )الذيل / البراز الرمادي..) وكأن التشابه في البراز سيُكسبك مرتبة البشر!!
تأتي الرؤية من أمام لتكمل الصورة
حين اجتمع الناس لم يتجاوز مدى أفقهم نظرة حيوانية تصنف المولود المختلف إلى شيء آخر عدا الإنسان، فهو إما كبش أو كلب.. ولتعميق ضيق إدراك الجمع استعاض السارد عن ذكر الكائنين بسماتهما فقط: أي ما يصلح للنباح، وما يصلح للذبح!!.
إقفال دورة النص
لحظة إقفال دورة النص، وانتهاء زمنه الفني المشرق، وظف السارد أجواء الجموع العامة التي تحول البعض إلى كثلتين صمّاوتين تحملان وصفا انتقل من سمة المولود إلى سلوك نمطي: (الكلباويين والكبشاويين).. ويبلغ العبث الفني قمته حين يتوصل الجمع إلى رأب صدع القبيلة!! فهل هو جمع يستمد مشروعيته من ثوابت وأفكار الانتماء القبلي، أم يتجاوز هذا الأفق إلى ما يؤسس فكرا حداثيا مشبعا باحترام الاختلاف وقبول الآخر واحترام أساليب الحوار الديمقراطي؟
وعندما خلا المولود / السارد إلى نفسه بعد أن انفض الجمع الذي يشبه أغلب الجموع المنعقدة تحت السقف الاجتماعي الذي يجمعنا، والذي لا يسمح بالاختلاف ولا يحترمه، سيواجه قلق السؤال: هل سيستمر كنسخة مما يفرزه هذا الوجود العجيب من معتدين قائمين على فرض قوانينه اللاإنسانية، أم سيتحول إلى فريسة مآلها الضياع؟!
تجدر الإشارة إلى أن المتتبع لأعمال موسى مليح القصصية، لا بد وأن يستشعر النزعة "النّيسينية" لديه ـ نسبة إلى الكاتب التركي الساخر عزيز نيسّين ـ ويمكن إدراج النص ضمن هذا المنحى الساخر الذي حول الزمن إلى لحظة ولادة للمفارقات عن طريق تعريتها، وفضح عبودية الدّأب على المألوف، وكأن الأيديولوجيا التي لا تلد إلا التابعين وتابع التابعين، لا يمكن كسرها إلا عن طريق العنف الفني.. وهل هناك أقوى من عنف السؤال الفلسفي: متى نعتبر قبول التعايش مع الآخر المختلف جزءا من كينونتنا؟

مراكش 04 / 09 / 2023


1.jpg



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى