د. محمد عبد الله القواسمة - ذكريات الاستحمام

بعيدًا عما قاله جبران خليل جبران، وبعيدًا عن الفضاء الرومانسي الحالم الذي رسمه في قصيدته الموسومة بــ "أعطني الناي وغن" التي أقام فيها بالغابة، وسار مع السواقي، وتسلق الصخور، واستحم فيها بالعطور، وترك الشمس تجفف جسمه في قوله مما تغنيه المطربة فيروز:

هل تَخَذت الغاب مثلي منزلاً دون القصور

فتتبَّعت السواقي وتسلَّقت الصخور

هل تحمَّمت بعطر وتنشَّفت بنور

فإن الاستحمام عند كثيرين من الأدباء في مرحلة الطفولة له ذكريات واقعية ممزوجة بحب الأم وحنانها، خاصة عند الذين عاشوا في المخيمات والأحياء الشعبية، فلا أظن أن أحدًا من هؤلاء ينسى كيف كانت أمه تجره كأنه اقترف إثمًا إلى غرفة الحمام، حيث طشت واسع بالقرب منه، ووعاء فيه الماء الساخن وأدوات الاستحمام: ليفة خشنة، وصابونة نابلسية. وتبدأ بخلع ملابسه المتسخة ووضعها في الطشت، ثم تجلسه عليها، وهو يبكي ويحاول أن يهرب من هذا المصير الذي وقع فيه، ولكن لا يستطيع منه فكاكًا؛ فأيدي أمه قوية وهمتها عالية. وتستغرق العملية ساعة وربما أكثر، وينتهي الطفل بجلد ناعم منهك من شدة الحك والفرك، وعينين حمراوين من رغوة الصابونة الحارقة.

يكثر ورود هذه الذكريات وأمثالها، مما يتصل بالاستحمام أيام الطفولة في الأعمال الأدبية، التي تناولت الحياة في مخيمات اللاجئين، ومساكن الفقراء والمساكين، وبؤر البؤس والشقاء. ففي روايتي "أصوات في المخيم" ذكرى الأم، وهي مشمرة عن يديها، وداسة طرف ثوبها في حزامها العريض(شملة) وهي تركض خلف الطفل صالح بطل الرواية، وتستنجد بشاب في شارع المخيم كي يلقي القبض عليه وتسليمه لها؛ كي تجره إلى الحمام. وفي اللقن الواسع تبدأ عملية الغسل بالليفة والصابون، وسط تصميم الأم بتغيير الجلد المتسخ بجلد نظيف وناعم.

وفي الرواية نفسها يظهر البطل نفسه، وهو يلعب في النهار بين الخيام لعبة الغميضة، ومشهده وهو يتسلل إلى طرف خيمة المختار ليتخفى وراء جدار قصير من التراب والحصى، فيرى امرأة المختار وهي ترقص كما خلقها الله في لقن الغسيل استعدادًا للبدء بالاستحمام. فتصرخ به فيتولى هاربًا.

ومن الأعمال الأدبية التي ذكر فيها الاستحمام ما كتبه الفنان التشكيلي والأديب محمد العامري في سيرته الذاتية بعنوان "شجرة الليف" الذي هو العنوان الرئيسي من كتابه" شجرة الليف: تسريد الذاكرة" 2013 تحدث فيه عن ذكرياته الطفولية حين كانت أمه تستدرجه كي يستحم. ويذكر أن يوم الجمعة هو اليوم الذي يتعرض فيه إلى الاستحمام القصري؛ إذ تجلسه أمه في اللقن بعد أن تخلع ملابسه قطعة قطعة، وسط بكائه حينًا وضحكاته حينًا آخر. ثم تشرع في حك جلده بالليفة التي اتخذتها من ثمرة شجرة الليف المزروعة في حوش البيت وبالصابون النابلسي ماركة(أبو مفتاحين). ويرى العامري بأن هذه العملية تشبه عملية اعتقال، يتم فيها استخدام الماء الساخن والمدارة، ويقشر فيها الجلد كما يقشر كوز الليف.

ومن الأعمال الأدبية الأخرى التي تناولت عملية الاستحمام قصة قصيرة لزياد أبو لبن، جاء عنوانها "أنفاس مكتومة" وهو نفسه العنوان الرئيسي للمجموعة التي وردت فيها بإضافة (وقصص أخرى). فيوم الاستحمام يكون يومًا مشهودًا، تقوم القيامة في البيت، ويهرب الوالد ليجلس في دكان صديقه في المخيم، وصوت الغسالة مثل الجاروشة، وملابس الغسل متناثرة على الأرض، والمياه ورغوة مسحوق الغسيل تتطاير في سماء البيت. تكون الأم في هذه الأثناء واضعة أطراف ثوبها في سروالها، وتدعو الطفل عمر الذي يدور في المكان شبه عار إلى الاستحمام قبل أن يبرد الماء.

هكذا فإن موضوع الاستحمام شائق وجدير بالاهتمام؛ ليس في مستوى هذا المقال فحسب، بل في مستوى دراسات وأبحاث أيضًا؛ لأنه يتصل بعالم الطفولة الجميل وذكريات الأم التي لا تنسى، تلك الذكريات التي تبعث في الإنسان الحنين إلى حضنها الدافئ، والأمنيات بأن يعود طفلًا ليتربع في اللقن، وينعم بطقوس الاستحمام العبقة برائحة الأم، والغنية بحبها وحنانها مع ما يسودها من مظاهر القسوة والخشونة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى