حسن حافظ - أدب الزلازل

الزلزال أحد الكوارث الطبيعية التى ضربت البشرية مرارا وتكرارا، لكنه فى كل مرة يضرب أى بقعة من الأرض يترك خلفه أثرا، دمارا هنا وهناك، بعض الجراح النازفة فى النفس البشرية، تجربة قاسية يعانى منها من يمر بها، لذا لم يكن غريبا أن يتفاعل المبدعون من مختلف الثقافات والحضارات مع الزلزال ويكتبون عنه من منظور أدبى يركز على استخلاص تجربة البشرية من هذه الكارثة، لذا مع توالى القرون نشأ ما يمكن وصفه بأدب الزلازل، الذى شارك العرب بنصيب وافر فيه، عبر ديوانهم الأكبر، الشعر، بينما ازدهرت كتابة الرواية الزلزالية على مستوى عالمى خصوصا عند الشعوب المطلة على الحزام النارى فى المحيط الهادى مركز الزلازل الأشد خطرا.

العرب اهتموا بالزلزال على أكثر من مستوى وأنتجوا العديد من النصوص المتنوعة التى غطت الجوانب العلمية والأدبية والشعرية للتعاطى مع ظاهرة الزلازل، فقد تعامل المسلمون مع ظاهرة الزلزال باعتبارها واقعا لضخامة مساحة العالم الإسلامى الممتد من بلاد الأندلس والمغارب غربا إلى الهند وحدود الصين ووسط آسيا شرقا، وهى مساحة ضخمة من المعمورة، فجاءت أخبار الزلازل كثيرة فى كتب الحوليات التاريخية، لكن هذا لم يمنع المسلمين من التصدى للزلزال أدبيا، فالكثير من الأشعار تتناول هذه الظاهرة، ما حوّلها إلى ظاهرة أدبية بامتياز، وأثبت المسلمون تفوقهم الحضارى فى هذا المضمار الأدبى بالكثير من النصوص الأدبية عن الزلزال، خلدها الشعر ديوان العرب.
ورصد كتاب (سجل الزلازل العربى) للدكتور عبد الله يوسف الغنيم، وكتاب (نصوص عربية تاريخية عن الزلازل والبراكين فى العالم العربى والإسلامى) للدكتور مصطفى أنور طاهر، الكثير من النصوص التى تعرضت لموضوع الزلازل وحاولت أن تقدم تفسيرا علميا، أو قدمت رصدا للتناول الأدبى لموضوع الزلازل وتأثيره على مجتمعات المسلمين، على مدار 12 قرنا، فنجد محاولة لتقديم تحليل علمى لظاهرة الزلزال فى رسالة الفيلسوف العربى يعقوب الكندى (علم حدوث الرياح فى باطن الأرض المحدثة كثير الزلازل)، واستعرض مصطفى أنور طاهر المحاولات العلمية لتحليل ظاهرة عند ابن سينا والبيرونى وابن رشد وغيرهم من علماء المسلمين.
ويعود إلى مصر أحد أهم النصوص المتعلقة بالزلازل وهو كتاب (كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة) للعالم الموسوعى جلال الدين السيوطى، الذى قدم دراسة تاريخية هى الأولى من نوعها لتاريخ الزلازل، هو يستند على إيراد العديد من القصائد وأبيات الشعر التى قيلت فى الزلازل، بما فى ذلك البيت الشهير الذى قاله محمد بن القاسم بن عاصم فى أمير مصر الأستاذ كافور الإخشيد، عندما وقع زلزال سنة 357هـ/ 965م:
ما زُلزلت مصر من سوء يراد بها...ولكنها رقصت من عدله فرحًا

ويذكر السيوطى الكثير من الحكايات والقصص والأشعار المؤلمة لزلزال شهير وقع فى بلاد الشام سنة 552هـ/ 1157م، واللافت أن هذا الزلزال ضرب بلاد المسلمين والأراضى التى احتلها الصليبيون وقتذاك، فانشغل كل فريق بما دهاه من تدمير الزلزال للقلاع وأسوار المدن، وقد قال الشاعر الأمير أسامة بن منقذ الكثير من الأشعار فى هذا الزلزال خصوصا أنه دمر حصن أسرته فى مدينة شيزر، ومن شعره فى هذه الواقعة:
يا أرحم الراحمين ارحم عبادك من...هذى الزلازل فهى الهلك والعطب
ماجت بهم أرضهم حتى كأنهم...ركاب بحر مع الأنفاس تضطرب
فنصفهم هلكوا فيها ونصفهم...لمصرع السلف الماضين يرتقب
تعوضوا من مشيدات المنازل بالـ...أكواخ فهى قبور سقفها خشب
كأنها سفن قد أقبلت وهم...فيها فلا ملجأ منها ولا هرب
وقد ألف أسامة بن منقذ كتاب (المنازل والديار) الذى طرح فيه بعض مشاهداته لأثر الزلزال الذى دمر حصن آبائه وأجداده وشرد عائلته وهم أمراء المدينة، وكتب بلغة أدبية مؤثرة آثار الزلزال، كما كتب مجموعة من الأشعار التى تكشف عن حجم تأثير الزلزال على نفسه وعلى أسرته، إذ يقول عن ذويه:
ماتوا جميعا كرجع الطرف وانقرضوا... هل ما ترى تارك للعين إنسانًا
أعزز علىّ بهم من معشر صبر... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لم يترك الدهر لى من بعد فقدهم... قلبا أجشمه صبرًا وسلوانًا
فلو رأونى لقالوا مات أسعدنا... وعاش للهم والأحزان أشقانا
لم يترك الموت منهم من يُخبرنى... عنهم فيوضح ما لاقوه تبيانا
بادوا جميعا وما شادوا فوا عجبا... للخطب أهلك عمارا وعمرانا
هذى قصورهم أمست قبورهم... كذاك كانوا بها من قبل سكانا
ويح الزلازل أفنت معشرى فإذا... ذكرتهم خلتنى فى القوم سكرانا

وفى عصر الانحطاط العثمانى تحول التعاطى مع ظاهرة الزلزال إلى مجرد شعوذة وترديد للخرافات، وهو ما نجده فى كتاب (تحصين المنازل من هول الزلازل) لابن الجزار الذى ألفها بمناسبة زلزال 984هـ/ 1576م الذى ضرب مصر، وهو يحكى الكثير من القصص الخرافية التى تكشف عن تراجع علمى فادح، لكنها قصص فلكلورية دخلت نسيج الحكاية الشعبية المصرية فى ذلك العصر، فنجده يقول بما تقوله العامة من أن "الثور الحامل للدنيا حولها من قرن إلى القرن الثانى، كما هو مشهور على لسان القاصى والدانى"، وهو يقول إن الأرض على الثور، والثور محمول على الحوت، وأن تحرك هذا الحوت هو المسبب للزلازل!

وإذا كانت مجتمعات العرب قد دخلت عصر الخرافة مع العثمانيين، فإن أوروبا كانت تدخل عصر الاستفاق وتبدأ فى الازدهار حضاريا، ويظهر لديها العديد من الأشكال الأدبية الجديدة التى تعاطت مع ظاهرة الزلزال، ففضلا عن التعامل العلمى الذى فند أوهام الكنيسة الكاثوليكية التى غطت فى الجهل، بدأ التعامل الأدبى مع الزلزال من باب الرواية والشعر، فنجد فولتير يتأثر بزلزال ضرب مدينة لشبونة البرتغالية 1755، فيكتب (قصيدة حول كارثة لشبونة) 1758، ثم ساعد على ازدهار أدب الزلازل اكتشاف العالم الجديد وازدهار الحركة التجارية فى المحيط الهادى الذى تقع فيه منطقة الحزام النارى التى ينشط فيها معظم الزلازل المدمرة، لذا لا غرابة أن نجد انتقال شعلة أدب الزلازل إلى الولايات المتحدة واليابان ودول أمريكا اللاتينية الواقعة ضمن الحزام النارى.
ومن أشهر الروايات التى تتعرض للزلزال، نجد رواية (10 ريختر) 1997، لرائد أدب الخيال العلمى الروائى الإنجليزى آرثر سى كلارك، الذى شاركه كتابة الرواية الروائى الأمريكى مايك ماكواى، التى تدور فى المستقبل بعد تعرض بطل الرواية لويس كرين لتأثيرات زلزال نورثريدج الذى ضرب ولاية لوس أنجلوس الأمريكية عام 1994، فدمر منزله وقتل والديه، ليقرر كرين تخليص العالم من الزلازل إلى الأبد، عن طريق ضرب منطقة حزام النار التى تقع فيها معظم الزلازل المدمرة بالقنابل النووية، لكن الرواية تشهد الكثير من الأحداث والعقبات أمام البطل لتحقيق هدفه. فى المقابل، اعتمد الروائى الأمريكى جيمس داليساندرو على التاريخ والواقع فى كتابة روايته (1906) الصادرة العام 2005، التى ترصد تبعات الزلزال المدمر الذى ضرب مدينة سان فرانسيسكو فى ذات العام الذى يحمل عنوان الرواية، وترك المدينة خلفه شبه مدمرة وفى حالة فوضى شاملة، وهو يرصد النفس الإنسانية فى مشاهد مختلفة وشخصيات متباينة. . ونجد نفس الروح التى تستغل حدث الزلزال ورمزيته فى زلزلة قيم المجتمع فى رواية (حركة قوية) 2001، للكاتب الأمريكى جوناثان فرانزين، الذى تنطلق أحداث روايته بزلزال يؤدى إلى وفاة سيدة مسنة تترك خلفها ثروة تقدر بـ 22 مليون دولار بين أفراد أسرتها، بينما يدخل بطل الرواية فى قصة حب مع عالمة زلازل تبحث عن سر الزلازل التى تضرب ولاية بوسطن، لتتفجر صراعات الرواية على أكثر من مستوى، كما يرصد الروائى اليابانى الشهير هاروكى موراكامى فى كتابه السريالى (بعد الزلزال) 2000، الزلزال الذى ضرب كوبى فى اليابان العام 1995، بالتوازى مع هجمات الغاز السام فى مترو أنفاق طوكيو، ليرصد فى ست قصص تاريخ اليابان المعاصر ويفكك المجتمع اليابانى ويغوص فى أعماقه.

فى السياق العربى الحديث، لا نجد الكثير من التناول لموضوع الزلزال بسبب قلة الزلازل المدمرة التى تعرضت لها المنطقة طوال القرن العشرين، وهى الفترة التى شهدت توهج كتابة الرواية عربيا، لكننا نجد مسرحية (الزلزال) لمصطفى محمود، الذى كتبها مستخدما الزلزال كواقع يتعرض له الأبطال كأداة رمزية لواقع المجتمع المصرى فى عصر جمال عبد الناصر، ليتمكن من رصد التحولات التى يتعرض لها المجتمع فيما يشبه الزلزال، بينما قدم الروائى الجزائرى الطاهر وطار أهم رواية عربية عن الزلزال تحت عنوان (الزلزال) التى ترصد عبر زلزال متخيل أثر الاستعمار الفرنسى على الروح الجزائرية وتفاصيل الحياة فيها، وكأن الزلزال الحقيقى الذى ضرب الجزائر هو الاحتلال الفرنسى الذى مسخ روحها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى