كرة القدم عزالدين ميهوبي - محمود درويش وكرة القدم!

خمسة عشر عامًا.. مرّت على رحيله، دون أن يجرؤ التّاريخ على إعلان موته، ذلك أنه حيٌّ بأشعاره وحضوره الذي يأبى أن يُسدل ستار النهاية. هو لن يغيب..
عن محمود درويش أتحدث..
في الستينيات احتضن الشارع العربي قصيدة الشاعر الكبير محمود درويش "سجّلْ أنا عربي/ أنا إسمٌ بلا لقبِ/ ورقمُ بطاقتي خمسون ألفْ/ وأبنائي ثمانيةٌ/ وتاسعهُم سيأتي بعد صيفْ.." فكانتْ أشبه بنشيد تردده الحناجر آنذاك..
درويش قال سجّلْ.. لكن جاءَ بعده من فهم الأمر على أنه دعوة لتسجيل الأهداف في شباك الخصوم (..) وبعد ربع قرن كتبَ درويش نصّه الشعري الذي رفعه للمقاوم الفلسطيني في بيروت بعد حصارها: "سقطتْ ذراعُكَ فالتقطها، واضربْ عدوّك لا مفرُّ.. وسقطتُ قربكَ فالتقطني.. واضربْ عدوّك بي فأنتَ الآن حرُّ.." وهو نصّ قد يقرأ فيه بعضُ عشّاق الكرة ما يرُوقُهم..
محمود درويش شاعر كبير لا جدال في هذا، وآخر من شهد له بذلك الهالك آرييل شارون الذي ضُبط متلبّسا بقراءة ديوان "لماذا تركتَ الحصانَ وحيدًا" وقال للصّحفي وهو يسألهُ "إنني أحسدُ الفلسطينيين كثيرًا لأنّهم يملكونَ شاعرًا مثل درويش يجعلهم أكثر ارتباطًا بالأرض.." وقد سمعتُ درويش يردّ على هذا الموقف بقوله "ما دامَ الأمر كذلك.. فليخرجْ من أرضنا.." وعندما سألتُه إنْ كان سيذمُّ شارون يومًا ما في نصّ شعريّ قال لي "الشعر لا يحتملُ شارون..".
لن أتحدّث عن أشياء كثيرة لمستُها في محمود درويش عندما قضيتُ في رفقته تسعة أيام كاملة بفندق الجزائر.. فهو مبدعٌ في شعره، سلسٌ في كلامه، مرحٌ في دعاباته وعميق في حديث السياسة.. وحليمٌ في غضبهِ. يقرأ الرواية أكثر من الشّعر، ويحبُّ السّمك الجزائري، حتّى أنه يتحدث عن مطاعم ميناء الجميلة (لا مادراك)، بتفاصيلها..
في فترة إقامة درويش بالجزائر، التقى مع عدد من الشعراء والمثقفين الجزائريين منهم غرمول وفنّي وصدّيقي وحرزالله وحميد عبدالقادر، تخللتها أحاديث في الثقافة والأدب. وقد تشرّفتُ بتقديمه لجمهور قاعة "ابن خلدون" في أمسية شعريّة تاريخيّة.. وهذا هو رابط الأمسيّة:
أردتُ أنْ أحدثكم عن محمود الذي يحبّ الرياضة، ويسأل عن النتائج ويقدم رأيه في النجوم.. ويبدي امتعاضًا من خيبة المنتخبات العربية..
التقيتُ محمود درويش مراتٍ عديدة، فرانكفورت ومراكش، وفي آخر زيارة له إلى الجزائر في 2005 قادمًا باريس بعد أن دُعي لإحياء أمسية شعرية في مدينة تولوز على هامش "ماراتون" المدينة السنوي.. وهي مناسبة كبيرة تحتفي فيها مدينة الطيران الفرنسية بالشعر والرياضة معا..
عندمَا قلتُ له إنني أكتبُ مقالا أسبوعيا في مجلة "سوبر" الرياضيّة، قال لي "هذا شيء رائع.. في كليهما، الشعر والرياضة، نشعر بمتعة الابداع". حدثته عن بعض الأفكار التي تناولتها في كتاباتي واهتمامات المجلة فوجدتهُ يصغي إليّ باهتمام كبير، وكأنه معنيّ بكل ما أقوله.. وأخذ منّا الحديث عن زيدان وقتا طويلا، إذ يرى فيه درويش أنه من أعظم لاعبي الكرة في العالم.. واستغرب لماذا لم تستفد منه الجزائر قبل تقمصهِ ألوان الديكة الفرنسية، وسألني إنْ كان يزور الجزائر أم لا.. فأجابه حمراوي مدير عام التلفزيون الجزائري آنذاك "عائلته فقط تزور الجزائر أما هو فلا.. ولكن يبدو أنّه يعتزم القيام بزيارة قريبًا..". وفعلاً زار زيدان الجزائر في 2006 وتمّ تكريمُه بمنحه وسام الدولة من درجة "أثير".
ثم تحّدث عن انخفاض مستوى منتخب الجزائر، وتعجّب من هبوط قيمته وكيف أنّه صار ينافسُ من أجلِ المشاركة في كأس إفريقيا للأمم بعد أن كان يمثل أمل الشباب العربي قبل عشرين عاما حين هزم الألمان في موقعة تاريخية 1982 كانت بيروت يومها تحت الحصار.. قلت له "لا تتعجب كثيرا فهذا رونالدينهو يصرّح بأنه يعرف كثيرا من لاعبي الجزائر في أندية فرنسا ولكنه لا يسمع شيئًا عن منتخب الجزائر.. إنها مفارقة عجيبة".
وروى لي محمود كيف تابع مع عدد من الثوار الفلسطينيين تلك المباراة التي قَهَر فيها بلومي وماجر وعصّاد جيل المانشافت الذهبي الألماني بقيادة رومينيغي. كان درويش يذكر أسماء اللاعبين، كما يذكر أسماء الشعراء.. وقال لي "برغم القصف الإسرائيلي، كنّا نتفاعلُ مع انتصار الجزائر كما لو كُنّا في إسبانيا". ومن الأشياء التي قالها لي هي أنّهُ خرج من بيروت بجواز سفر جزائري، بعد أن رفض الجوازات التي عرضتها عليه بلدانٌ كثيرة، أغلبها أوروبيّ.
رونالدينهو هو اللاعب الآخر الذي يُعجب به درويش كثيرا، إذ يقولُ عنه إنه "لاعب عجيبٌ يمتلك مهارات خارقة.." وأبدى استغرابه من هزيمة البرازيل أمام الأرجنتين بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد، آنذاك،.. حتى أنني شعرت وكأنه يسعى لتأنيب نجوم السامبا على سقوطهم هذا..
وأما بيكام فإن نظرة درويش لهُ لا تختلف كثيرا عن نظرة كثير من النّاس.. خاصة بعد أن ظل التركيز عليه كوجهٍ للتسويق الإعلامي والترويج لبعض المنتجات، "هو وسيم يثير فضول المراهقات لا أكثر.".
تصادفَ وجودُ محمود درويش في "فندق الجزائر" الذي مضى على تأسيسه أزيد من قرن وثلاثين عامًا، وجعل منه أيزنهاور مقرًّا لقوات الحلفاء في شمال إفريقيا إبان الحرب العالمية الثانية.. ونزلت به شخصيات من بينها روتشيلد وتشرشيل وتشي غيفارا وسارتر.. وأسماء فنيّة كبيرة.
أذكر أيضًا أن تصادف وجود درويش بالفندق مع تأهل المملكة العربية السعودية للمرة الرّابعة إلى نهائيات المونديال، فهنأ سفير المملكة آنذاك السيد بكر القزاز الذي حضر أمسيّته الشعرية وبادله كثيرًا من الحكايات.. غير السياسية.
ولم ينس صاحب رائعة "أحمد الزعتر" التذكير بأنّ مُنتخب فلسطين كان من أولى المنتخبات العربية التي كادت أن تتأهل إلى مونديال إيطاليا في أولى الطبعات لولا بدايات الحفر في الجسد الفلسطيني..
وفيما يتعلق بزيارة رونالدو البرازيلي إلى رام الله في 2005 فلم يعلق كثيرا عن وجود سفير النوايا الحميدة في الأراضي الفلسطينية.. واكتفى بالقول "هي سياسة"، ثمّ أشار إلى أنّ وجودَ عدد من لاعبي منتخبات أمريكا اللاتينية من أصل فلسطيني مهمٌّ للذاكرة الفلسطينيّة، وكيف أنهم أحيانا يستعيدون جذورهم الأصلية.. معرّجًا إلى الحديث عن فريق بلستينيو (فلسطينيو) الشيلي الذي تأسّس على فكرة فلسطين، وأكثر من هذا فالنادي وضع خارطة فلسطين على أقمصة لاعبيه، وهو ما منعهُ لاحقًا اتحاد الكرة الشيلي بعد أن جاءتهُ إشارة من تل أبيب.. على أن هذا نوعٌ معاداة السامية!
ويذهب درويش في حديثه عن الحياة اليومية في الأراضي الفلسطينية إلى أنّ الناس صاروا يعرفونَ وضعهم جيدا، ويدركُون تمامًا أنّ العالم ينظر إليهم وكأنهم خارج الزمن.. لكن الناس في مدن فلسطين يتعلقون بالحياة ويحبُّون كما يحبُّ كل الناس، ويفرحون ويلعبون الكرة ويستمعون إلى الموسيقى.. لكنهم أسرى نظرة العالم إليهم بعيون مختلفة.
هكذا ينظر الشاعر محمود درويش إلى عالم الكرة.. فمن قال إنّ الشعراء لا يحبُّون الكرة ولا يصفقون إلا للشّعر؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى