فتحي عثمان - عبد الجليل سليمان يطارد أوراق اليانصيب الخاسرة

خرجت من صفحات رواية أرونداتي داتي وزارة السعادة القصوى "منستري أوف أوتموست هابنيس" تتوج رأسي سحائب من عبق روائح الهند وسحر الوقائع والكتابة لمن توصف بأعظم ناثري الإنجليزية المعاصرين وأكثرهم سحرا. وتناولت بعدها رواية عبد الجليل سليمان الأولى "أوراق خاسرة" وسألت نفسي ما أذا كان الرجل قادرا على تحدي إبقائي في أجواء المتعة والجذب السردي الذي خرجت منه.
أول ما خطر على بالي هو الحوار الذي دار في فيلم العروس الشاردة "ران أواي برايد" بين الصحفي آيك غراهام "ريتشارد جير" وماغي "جوليا روبرتس" حيث يقول آيك معرفا نفسه" أرادني أبي أن أكون طبيبا، وأرادت أمي أن أكون روائيا، وصرت صحفيا؛ فالصحافة أدب على عجل." عبد الجليل معروف كصحفي سوداني يمارس الأدب على عجل في عالم الصحافة؛ وكل من يقرأ له ولا يعرف انتاجه الآخر يتساءل لماذا لا يكتب قصصا وروايات، وهو الآن يرد على التساؤل عبر مطاردة أوراق يانصيب خسارة وأصحابها في أزقة الحياة وتعاريجها.
أعرف له قصصا مذهلة، وقصائد قليلة آسرة وكتابة شائكة السخرية لا تفارقك والا أحدثت عندك خدوشا، متعمدة، في التلقي والذهن.
تبدأ رواية أوراق خاسرة برجل يصفق الباب تاركا إمراة للندم والانتقام؛ كما فعل البطل في احدى روايات نوال السعداوي بتصريح البطلة أن تجاهله أو رفضه إياها كان كمسمار دق في قبة رأسها، لا تنساه مدى الحياة.
رحلة في خطط ومؤامرات ودسائس من أجل الطبق الذي يقدم باردا: "الانتقام". تنقلك العوالم والتي تتبرعم في قرية "ام علي" على ضفاف نهر سلام بين السودان والحبشة وتحس أن خط الحدود الوهمي لا يفصل بين ثقافات عريقة فقط؛ بل بين نزق دافق في الغرب وخبث ماكر في الشرق، وبين حجري الرحى هاذين تدور أحداث الرواية لتفرد أجنحة الخيال على مساحة تمتد من بحر دار وأديس ابابا ومقلي وإسطنبول واصفهان ومكة حتى تخوم بنغلادش لتقدم أناسا يعيشون في صوفية هائمة متلبسة بالوجد والتقوى، ولكن حبائل الدنيا تجرها نحو الفساد: فساد رجل الدين والتاجر والسياسي والمرأة التي تملك أول مغارات الإفساد: الإغواء.
قبل البداية تقدم الرواية حكمة افريقية فحواها أن "الخيال لا يكذب" وكأنما بهذا تجاهر بعناد بأن الشخوص والأماكن والسرد هنا كلهم ينطقون بالحقيقة. وربما يستخدم القارئ الحصيف، دوما، هذه المداخلة الحكيمة كمحاكمة للرواية فهي التي تقدم الدليل ضد نفسها في اجتراء مقدام "وخيالي".
في الرواية قوم يغيرون أسماءهم وأساطيرهم الخاصة والعامة ويكسبون بها المجد والصولجان والثروة وأخيرا المكانة الاجتماعية؛ وكما لا يمكن ملء الكأس الملآنة أصلا، إذ لا بد من إفراغها أولا، فلا اكتساب بدون تخلي. ويترك للزمان والخيال تقديم "صحيفة جرد كامل للمكاسب والخسائر". هنا وفي نهايات الرواية تعرف لماذا استحقت الرواية اسم "أوراق خاسرة"، إذ يشاهد بطلها محمود الفوتي بداية في حلة أم علي وهو الذي تحول لاحقا في إسطنبول إلى "مستر ضو" الثرى الذي يشبه غاتسبي العظيم. هذا البطل تمعك في السياسة وترابها، ثم اغتسل بالثروة وبريقها، وجفف جسده بالدهاء وخيوطه ومات مصروعا بسكتة قلبية بعد أن أخلى ذمته من الحياة التي اعتبرها دوما "أوراقا خاسرة". وقبل أن يرحل فضل التسامح الصوفي بدلا من الانتقام وأرسل رسول التسامح "الفكي الهندي" لينشر السلام الروحي في مسقط رأسه أم على الوادعة مظهرا والمائجة مخبرا. ويقابل هذه التسامي إخماد سكينة بنت بيلو لنيران الانتقام المتقدة في حشاها ضد نائلة الدلالية.
تقدم الرواية الحب الطائش في مزارع نائية، وجرعات الخمور البلدية والمستوردة، والورع الذي يرتدي عباءات الشيوخ؛ ثم مكر الجماعات في حلقات السياسة والمال والفساد. وهي لا تقدم إدانة لجماعة بعينها، ولكن تصور الفساد، فالمفسدون هنا بشر من لحم ودم تقاصرت حيلهم ونباهتهم، وفوق ذلك كله مرؤتهم، فلم يجدوا غير الدين مطية نحو مجد الدنيا الذي يعف عنه كل صوفي حكيم، ليس لأنه سراب خداع؛ بل لأن جرائره تفضح النفس وتجرها إلى غواية الخسران. وهذه حقيقة أدركها محمود بعد نال من الدنيا أطيب ثمارها من نساء وطعام ومتاع، ولم يكن الأبطال الآخرين سوى أندادا له يعيشون الدنيا فتغويهم تارة وينتصروا عليها تارة أخرى.
أنظر إلى "غازيني" الفلبينية الساحرة سليلة لابو لابو صاحب التراث العظيم الذي وضع حدا لمغامرة وحياة ماجيلان وهي تعطي محمود نصيبه المفروض من المساج اليومي:
"تقبض غازيني كفها الصغيرة وتعقفها إلى الداخل، وبصفحتها الخارجية التي تبدو الآن ككرة تنس ناعمة، تضغط أسفل الجزء الناعم أعلى ترقوته اليمني وتنزل إلى أسفل، على هيئة قوس غير منتظم، بحساب دقيق وبطء لذيذ حتى تصل منحنى كتفه لتمرر كرتها البيولوجية بسرعة وخفة ورشاقة ومهارة على سهل ظهره العاري، فتحصي كافة تضاريسه المنبسطة شرق سلسلته الفقرية حتى تخوم خط كنتور إليته اليمنى. كانت تجعله في سماوات ملونة كلما تجولت بيديها في تضاريس جسده الغليظة، تعبدها فتصبح سهلة وناعمة."
ولكأن يدي غازيني الناعمة أرخت عصب حصن أسراره الحصين فتأوه محمود قائلا عبارته التي طالما أيقن بها ورددها لنفسه ولجلسائه: "الحياة، يا غازيني مجرد بطاقة يانصيب خاسرة، علينا أن نروي حكاياتنا معها، قبل الرحيل."
لم تكن مثل هذه التجربة الحسية الموصوفة بأدوات الجغرافية والأمد الفسيح هي الوحيدة التي عاشها البطل؛ بل مر "بتمسيد" روحي مماثل جعله كالحرير القديم الممهد والناعم حتى وقف على مشارف الحياة مودعا. ومن الجسدي إلى الروحي وبالعكس، تمضي أحداث حيوات أبطال الرواية الممتدة في وهاد الزمان والمكان الطالعة والنازلة.
وتمضي قدما لتقدم لنا إشراقات من "الأبطال" في تقلبهم في تضاعيف الحياة وانكساراتها.
ففي لحظة تجلي أخرى يقول محمود لغازيني: "السياسة- وهو العارف بمسالكها ودروبها- تحول الإنسان إلى حيوان معتوه. السياسة عندنا ليست لعبة قذرة، إنما القذارة هي عين السياسة." صدق هذه العبارة أزنه بتصريح "حميم" لأحد رموز السياسة والدهاء في المنطقة حيث قال عبارة تعيد تردداتها عبارة محمود: "السياسة مستنقع قذر لا يعوم فيه إلا الأقذر منه." ذلك السياسي كان صاحب صولات وجولات مشهودة في ذلك المستنقع، وحين نطق بعبارته لم يشق على السامعين شم رائحة المستنقع الذي يتحدث عنه.
وكأنما تقدم غازيني سحبا من رصيد تراثها العظيم ترياقا لسم السياسة في دم محمود: "لا تخاصم، يا مستر ضو، فالخصام موت غير معلن، أعد روحك إلى أسلافها، عد اليها، وأصفح، فالصفح سمة النبلاء."
وتمضي الرواية بأشجان وأحلام أبطالها وهم يصارعون مصائرهم حتى يصلوا في الختام إلى لحظة، مبررة إبداعيا ونفسيا، من الصفاء والتسامي والتسامح الصوفي؛ ربما ليعودوا بعدها لممارسة "فنون" الحياة كما تتطلب تضاريسها وتضاعيفها الوعرة بين ملء وإفراغ؛ وربح وخسارة، فهم كما نعهدهم في التصوير البارع لعبد الجليل سليمان، مرة أخرى، بشر من لحم ودم.
أوراق خاسرة: رواية للكاتب والصحفي السوداني عبد الجليل سليمان، صادرة عن دار إضافة للنشر والتوزيع، الإسكندرية، 2022.

فتحي عثمان




1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى