تماماً ، وسط المقبرة القديمة ، على حافة الليل المتهادي فوق كاهل الأموات ، والهدير الأملس للريح الضجرة في لج البؤس .. كانت ضربات معول “السيد” ، وهي تثقب الأرض ، تتخلق نظاماً موسيقياً صارماً.. يشبه ، فعلاً ، نبض ضبع جائع لم يعرف الرعب إلي قلبه سبيل ، أو كخفقان ساعات القدر الحثيثة المؤقتة للقيامة. كانت الضربات ، على وحشتها ، ذات وتيرة ثابتة ، وإيقاع متزن.. تمكن التنبؤ بميعاد الضربة والأخرى. ولها ذاك الأنين الطفيف ، الذي يفضح بيسر تام ، أن المصدر ليس إلا معول مشرب في القدم ، من النوع المتوسط حجماً ، والرأس الواحد المدبب ، والهاراوة الخشبية المعمولة من أشجار السنط شاهقة العلو. وأيضاً -من صدى الطنين- تستشف الأذن ، بأن المعول إياه .. لا يمت بأي صلة ، للمعاول الهجين ؛ المستخدمة عند فلاحي الأرياف ، في شق مجاري المياه ، أو لتلك الضخمة صاحبة الرأسين ، التي تقاسي الصخور بأكف عمال المناجم ، ذوي البشرة المالحة.!
(كوك… كوك… كوك…!)
“السيد” ، وهذا ما يثير الاهتمام ، هو في الأصل.. رجل جثة ، مات قبل مئة أعمار من ولادته ! ومع ذلك كان عجوزاً متقنطر الظهر ، بالى اللحم والشحم والجلد .. حيث لن تجد مسحة أثارها على هيكله العظمي. وللحق ، هو أيضاً رجل بشر ؛ لأن عروقة تضج ببعض قطرات دم أسود متخثر ، ولأن ضحكته المجلجلة ، التي إن افتعلها ، تسقط بما لا يدعو للشك آخر ثلاثة أضراس من فيه.. تضاهي قهقهة كل بني آدم طاعني التعاسة.! صحيح ، أن البثور ملأت جنبات وجهه ومحت ملامحه الشفافة ، وأن الدمامل والنخور لم تترك له موضع إصبع غير ممسوخ .. إلا أن عينيه كانتا لا تزالا السوداويتين النشيطتين بالحياة ، تبحثان بنظرات وجلة عن الفراغ والمادة ، وتتمحصان بكثب للوجود والعدم ، ودون رفع حاجب.. تندهشان ، للا موتى واللا أحياء..!
(كوك… كوك… كوك…)
السيد الجثة ، أو السيد البشر ، العجوز في كلتي حالتيه ، بالكاد تحسس درباً بين القبور دون أن يسقط في إحداها ويتحلل ، مشى بخطوات واثبة وسط الظلام المعقد لليل ، المتشابك كماهية الروح ، وأخذ يقفز مع الكلاب المنتشرة هنا وهناك ، التي تهم لنبش لحد مرة ، ولممارسة حب مرات عديدة … مضى هكذا إلى أن توسط فناء المقبرة ، تماماً عند قبر تحفه الزخرفات والرسوم ، مكتوب على شاهده : ( ضريح “السيد” بن “حاجة فضيلة” بنة ” الوداعية” بنت “المبروكة”) . وعلى الرغم من أن “السيد” ، خرب الذاكرة لعامل الدهر ، وأنه الآن لا يذكر البتة شيئاً عن نسبه الأمومي ، إلا أنه تعرف على الضريح.. بكل بساطة ، وأخذ يضربه بالمعول ، مصدراً صدى كآبة أرقت الأموات ؛
(كوك… كوك… كوك…!)
ظل السيد يحفر الأرض بلا استكانة. يشق مضجع الليل والهبوب ، ويمنح البؤس أكثر مما الحال عليه. فالسماء السوداء ، الملطخة بمئات من بقع النجوم ، ارتدت حمرة حالكة في الأسى .. والقمر المكتمل ، البدرى ، توارى من الفلق بالخسوف.. وفقط ، وحدها الكلاب كانت شجاعة بما يكفي لتنبح !
واصل “السيد” ، نبشه للحد ، بضرباته القوية.. ولم يلهه عن الحفر شيء ، فهو لا يملك عرقاً ليتوقف ويمسحه عن جبينه المهترئ ، ولا يتنفس شهيقاً طويلاً لأن رئتيه مثقوبتان .. وحتى عندما أحس بطقطقة تحت الأرض ، لم يك قط مصاباً بالتعب ، بل جعل يزيد من شدة قرعه دون الإخلال بالوتيرة..
(كوك… كوووك… كوووووك…!)
ارتفع صوت الطقطقة ، داخل القبر ، شيئاً فشيئاً.. ظنها السيد بادئ الحال مجرد ديدان ذباب جائعة ! لكنه سرعان ما عدل رأيه لحظة خروج يد بشرية مكتملة التخلق ، ذات أصابع نحيلة ، وأظافر باهتة غير مقلمة . وحين عمد لتوجيه ضربة بمعوله ، كانت الجثة حية تقف على قدميها وتنفض الغبار ، كانت جثة بجسد هزيل ، ووجه بارد ينهشه الدود ، وتشبه في ملامحها ، جثة “السيد” إلى التطابق ، سوى أنها أقل عمراً بقليل ؛ فشعرها أشقر خفيف على حواف فروة الرأس ، وعيناها المحتفظتان بالسواد.. ممتلئتان جمالاً وبهجة… وفور قدرتها على المشي ، ألقت الجثة بوقار مهذب ، التحية على “السيد” العجوز ، وراحت بمعول وجدته مدفون معها ، تضرب الأرض بعين النسق المتزن:
(كوك… كوك… كوك…)
لم يمض “السيد” والجثة لحظات حتى أخرجا مومياء رجل ذي لحية ، مماثل لهما في الملامح.. ولم يزل الثلاثة حتى نبشوا رابعاً وخامساً بملامح أصغر وشعر بني مجعد ، رحبا بالسيد العجوز ترحيباً حاراً ، وبالبقية ترحيباً حميمياً أخوي. وشرعوا بالحفر. وما إن وصل العدد إلى عشرة رجال أحياء ، أو لنقل عشر جثث ميتة ، لم يدرِ أحد أيهم السيد الجثة الأول وأيهم الجثة العاشر ! لذلك ، لم يؤدِ الأخير شعائر السلام ، بل أخذ معوله وغدا بنفس الإيقاع ، يثقب الأرض مع الجماعة ،
(كوك… كوك… كوك…!)
في الحال ، امتلأت المقبرة بالرجال الجثث ، الذين هم كلهم “السيد” .. والذين لهم نفس الطريقة في الوقوف ، المشي ، الكلام ، الحفر ، وفي العينين السوداويتين الباحثتين بنشاط . كانوا في كل مرة ينبشون فيها “سيداً” جديداً ، يكون أصغر بعمر واحد عن الآخرين ، حتى أنهم أخرجوا ذات مرة شاباً بديناً في مقتبل الموت ، بشعر طويل وحاجبين كثيفين ، ما إن تحرك حتى عطس وتنهد بصوت مرتجف : (اللعنة، كم الجو بارد!) ودفأ نفسه بكفن قديم…
عندها لاحظ السيد الأول أن الجثث الأكثر شباباً ، تحمل صفاتاً آدمية ؛ فالسيد الخمسون مثلاً شعر بالجوع والخوف ، والسادس والستون تبول بولاً أصفر يرقاني ، والذين يحملون الرقم سبعين كانوا يفهمون معنى الحب ، ويتذكرون ، على خلاف الباقين ، بالأشعار ، امرأة تدعى “قمر البنات” وأخرى سموها “ضحوية”. ووقت أن قاربت الأمور لتصبح همج ، خلق السيد الأول العجوز ، نظاماً معقداً للعمل ، حيث طلب من بعض جثث “السيد” التي لا تقوى على الحفر ، بأن تحضر الماء من النهر القريب.. وأمر الأخرى بأن تطهو البازلاء مع اللحم البقري ، ولعلمه بأن قليلاً من الجثث ستوضح تهكماً صريحاً من البازلاء ، أوصى كذلك بتحضير العصيدة بأديم اللبن الرائب ، و سلق البيض والبطاطس والخيار ، ومع الغناء المرتفع للسيد الولهان التاسع والسبعين واصل الجميع الحفر دون انقطاع ،
(كوك…كوك…كوك…!)
كان النبش على عاتق القبر حاداً ، وضربات المعاول المسننة لا ترحم ، لكن القبر ظل دونما ضرر ؛ كأنهم يحفرون داخل دائرة ليس لها آخر ، أو أن التراب الذي يستخرجونه ما يلبس يعود خلسة إلى مكانه ! ظلوا ينقبون عن الجثة خلف الجثة ، يخرجون السيد تلو السيد..
بالطبع ، إن أكثر ما جعل السيد العجوز يضحك ، ويرتكب تلك القهقهة المماثلة لفعل البشر.. هو أن الجثث الأخيرة ، الشابة المرحة ، كانت تبدو كوميدية بسبب انتفاخها والعفن ؛ مما اضطر الذين يملكون حاسة شم إلى وضع مناديل مبللة بالمسك على ثقبي أنوفهم..! فطنت كذلك بعض الجثث ، إلى أنها جميعا لا تجر رفقتها ظل ، حسبوا أن السبب وراء خسوف القمر ، لكن حتى مع النار التي أضاؤها لم يك ثمة ظل يذكر.
لكن الأكثر فظاعة ، هو لما حاول السيد الرابع والثمانون أن ينام ويحلم ب “حاجة فضيلة” ، عدّ لأجل ذلك ما لانهاية من قطعان الخراف الشبحية ، وقرأ روايتين فلسفيتين عن الوجود.. ودخل جدياً في دوامة من النعاس والأرق ، إنما دون نوم. وقبل أن يكفر ، أخبره السيد العجوز ، بطيب خاطر ؛ أن الله موجود ، وأن الجثث قد تتعب وتمرض لكنها لا تنام ، و بكيا سوية بشوق!
في الأخير ، وقت أن سكنت طقطقة العظام ، واعتقد الجميع بأن الحفرة نضبت ، وتأكدوا من ذلك بالقفز عليها عدة مرات دون سماع شيء.. قرر السيد الأول إعطاء توجيهاته بردم معالم المقبرة. لكن ، والله وحده يعلم من أين ، نهضت فجأة آخر جثة لفتى أسمر وسيم ، بدا عليه الحياء من رؤية جسده العاري مكشوف ، وأصابته نوبات الهلع والفزع ، بالتأكيد ليس لأن الدود ينخر على كل محيا الذين من حوله وحسب ، بل لأن الجميع كانوا كشخص “السيد” مثله..! تقدم نحوه بحذر وحيطة ، السيد العجوز ، دثره أولاً برداء أبيض قديم ، وأشربه بغطاء جمجمة مقعرة حساء البازلاء الساخن… وهمس في أذنه: (لا تجزع يا فتى ، نحن أقرب إليك منك .. كلنا هنا أنت ، كلنا هنا السيد!) ثم أشار له بيده أن تعال.
ابتسم الفتى حين لم يجد داع للرهبة ، وبالأخص أن الكلاب التي كانت تنبح قد فرت منذ أمد ، وأن القمر المختبئ بالخسوف ظهر كبدر ناعس للعيان .. وقتها بانت للسيد الصغير ، غمازتان على خديه ، ولمع من ثغره ناب ملبس بالذهب … أخذ يمشي خلف العجوز إلى أن أصعده على مقام عال تتمكن من رؤيته كل الجثث. وطلبوا منه ، جميعهم ، أن يقص عليهم كيف عاشوا قبل الآن ، وكيف ماتوا إلى ما هم عليه ، أرادوه أن يحدثهم عن ماهية الوجود والفراغ ، عن النوم والأحلام ، وأن يخبرهم بالأم “حاجة فضيلة” وبالحبيبة “قمر البنات” و “وضاحية” ، وأن يروي ، بإطناب ، كل تفاصيل الحياة.!
(كوك… كوك… كوك…!)
“السيد” ، وهذا ما يثير الاهتمام ، هو في الأصل.. رجل جثة ، مات قبل مئة أعمار من ولادته ! ومع ذلك كان عجوزاً متقنطر الظهر ، بالى اللحم والشحم والجلد .. حيث لن تجد مسحة أثارها على هيكله العظمي. وللحق ، هو أيضاً رجل بشر ؛ لأن عروقة تضج ببعض قطرات دم أسود متخثر ، ولأن ضحكته المجلجلة ، التي إن افتعلها ، تسقط بما لا يدعو للشك آخر ثلاثة أضراس من فيه.. تضاهي قهقهة كل بني آدم طاعني التعاسة.! صحيح ، أن البثور ملأت جنبات وجهه ومحت ملامحه الشفافة ، وأن الدمامل والنخور لم تترك له موضع إصبع غير ممسوخ .. إلا أن عينيه كانتا لا تزالا السوداويتين النشيطتين بالحياة ، تبحثان بنظرات وجلة عن الفراغ والمادة ، وتتمحصان بكثب للوجود والعدم ، ودون رفع حاجب.. تندهشان ، للا موتى واللا أحياء..!
(كوك… كوك… كوك…)
السيد الجثة ، أو السيد البشر ، العجوز في كلتي حالتيه ، بالكاد تحسس درباً بين القبور دون أن يسقط في إحداها ويتحلل ، مشى بخطوات واثبة وسط الظلام المعقد لليل ، المتشابك كماهية الروح ، وأخذ يقفز مع الكلاب المنتشرة هنا وهناك ، التي تهم لنبش لحد مرة ، ولممارسة حب مرات عديدة … مضى هكذا إلى أن توسط فناء المقبرة ، تماماً عند قبر تحفه الزخرفات والرسوم ، مكتوب على شاهده : ( ضريح “السيد” بن “حاجة فضيلة” بنة ” الوداعية” بنت “المبروكة”) . وعلى الرغم من أن “السيد” ، خرب الذاكرة لعامل الدهر ، وأنه الآن لا يذكر البتة شيئاً عن نسبه الأمومي ، إلا أنه تعرف على الضريح.. بكل بساطة ، وأخذ يضربه بالمعول ، مصدراً صدى كآبة أرقت الأموات ؛
(كوك… كوك… كوك…!)
ظل السيد يحفر الأرض بلا استكانة. يشق مضجع الليل والهبوب ، ويمنح البؤس أكثر مما الحال عليه. فالسماء السوداء ، الملطخة بمئات من بقع النجوم ، ارتدت حمرة حالكة في الأسى .. والقمر المكتمل ، البدرى ، توارى من الفلق بالخسوف.. وفقط ، وحدها الكلاب كانت شجاعة بما يكفي لتنبح !
واصل “السيد” ، نبشه للحد ، بضرباته القوية.. ولم يلهه عن الحفر شيء ، فهو لا يملك عرقاً ليتوقف ويمسحه عن جبينه المهترئ ، ولا يتنفس شهيقاً طويلاً لأن رئتيه مثقوبتان .. وحتى عندما أحس بطقطقة تحت الأرض ، لم يك قط مصاباً بالتعب ، بل جعل يزيد من شدة قرعه دون الإخلال بالوتيرة..
(كوك… كوووك… كوووووك…!)
ارتفع صوت الطقطقة ، داخل القبر ، شيئاً فشيئاً.. ظنها السيد بادئ الحال مجرد ديدان ذباب جائعة ! لكنه سرعان ما عدل رأيه لحظة خروج يد بشرية مكتملة التخلق ، ذات أصابع نحيلة ، وأظافر باهتة غير مقلمة . وحين عمد لتوجيه ضربة بمعوله ، كانت الجثة حية تقف على قدميها وتنفض الغبار ، كانت جثة بجسد هزيل ، ووجه بارد ينهشه الدود ، وتشبه في ملامحها ، جثة “السيد” إلى التطابق ، سوى أنها أقل عمراً بقليل ؛ فشعرها أشقر خفيف على حواف فروة الرأس ، وعيناها المحتفظتان بالسواد.. ممتلئتان جمالاً وبهجة… وفور قدرتها على المشي ، ألقت الجثة بوقار مهذب ، التحية على “السيد” العجوز ، وراحت بمعول وجدته مدفون معها ، تضرب الأرض بعين النسق المتزن:
(كوك… كوك… كوك…)
لم يمض “السيد” والجثة لحظات حتى أخرجا مومياء رجل ذي لحية ، مماثل لهما في الملامح.. ولم يزل الثلاثة حتى نبشوا رابعاً وخامساً بملامح أصغر وشعر بني مجعد ، رحبا بالسيد العجوز ترحيباً حاراً ، وبالبقية ترحيباً حميمياً أخوي. وشرعوا بالحفر. وما إن وصل العدد إلى عشرة رجال أحياء ، أو لنقل عشر جثث ميتة ، لم يدرِ أحد أيهم السيد الجثة الأول وأيهم الجثة العاشر ! لذلك ، لم يؤدِ الأخير شعائر السلام ، بل أخذ معوله وغدا بنفس الإيقاع ، يثقب الأرض مع الجماعة ،
(كوك… كوك… كوك…!)
في الحال ، امتلأت المقبرة بالرجال الجثث ، الذين هم كلهم “السيد” .. والذين لهم نفس الطريقة في الوقوف ، المشي ، الكلام ، الحفر ، وفي العينين السوداويتين الباحثتين بنشاط . كانوا في كل مرة ينبشون فيها “سيداً” جديداً ، يكون أصغر بعمر واحد عن الآخرين ، حتى أنهم أخرجوا ذات مرة شاباً بديناً في مقتبل الموت ، بشعر طويل وحاجبين كثيفين ، ما إن تحرك حتى عطس وتنهد بصوت مرتجف : (اللعنة، كم الجو بارد!) ودفأ نفسه بكفن قديم…
عندها لاحظ السيد الأول أن الجثث الأكثر شباباً ، تحمل صفاتاً آدمية ؛ فالسيد الخمسون مثلاً شعر بالجوع والخوف ، والسادس والستون تبول بولاً أصفر يرقاني ، والذين يحملون الرقم سبعين كانوا يفهمون معنى الحب ، ويتذكرون ، على خلاف الباقين ، بالأشعار ، امرأة تدعى “قمر البنات” وأخرى سموها “ضحوية”. ووقت أن قاربت الأمور لتصبح همج ، خلق السيد الأول العجوز ، نظاماً معقداً للعمل ، حيث طلب من بعض جثث “السيد” التي لا تقوى على الحفر ، بأن تحضر الماء من النهر القريب.. وأمر الأخرى بأن تطهو البازلاء مع اللحم البقري ، ولعلمه بأن قليلاً من الجثث ستوضح تهكماً صريحاً من البازلاء ، أوصى كذلك بتحضير العصيدة بأديم اللبن الرائب ، و سلق البيض والبطاطس والخيار ، ومع الغناء المرتفع للسيد الولهان التاسع والسبعين واصل الجميع الحفر دون انقطاع ،
(كوك…كوك…كوك…!)
كان النبش على عاتق القبر حاداً ، وضربات المعاول المسننة لا ترحم ، لكن القبر ظل دونما ضرر ؛ كأنهم يحفرون داخل دائرة ليس لها آخر ، أو أن التراب الذي يستخرجونه ما يلبس يعود خلسة إلى مكانه ! ظلوا ينقبون عن الجثة خلف الجثة ، يخرجون السيد تلو السيد..
بالطبع ، إن أكثر ما جعل السيد العجوز يضحك ، ويرتكب تلك القهقهة المماثلة لفعل البشر.. هو أن الجثث الأخيرة ، الشابة المرحة ، كانت تبدو كوميدية بسبب انتفاخها والعفن ؛ مما اضطر الذين يملكون حاسة شم إلى وضع مناديل مبللة بالمسك على ثقبي أنوفهم..! فطنت كذلك بعض الجثث ، إلى أنها جميعا لا تجر رفقتها ظل ، حسبوا أن السبب وراء خسوف القمر ، لكن حتى مع النار التي أضاؤها لم يك ثمة ظل يذكر.
لكن الأكثر فظاعة ، هو لما حاول السيد الرابع والثمانون أن ينام ويحلم ب “حاجة فضيلة” ، عدّ لأجل ذلك ما لانهاية من قطعان الخراف الشبحية ، وقرأ روايتين فلسفيتين عن الوجود.. ودخل جدياً في دوامة من النعاس والأرق ، إنما دون نوم. وقبل أن يكفر ، أخبره السيد العجوز ، بطيب خاطر ؛ أن الله موجود ، وأن الجثث قد تتعب وتمرض لكنها لا تنام ، و بكيا سوية بشوق!
في الأخير ، وقت أن سكنت طقطقة العظام ، واعتقد الجميع بأن الحفرة نضبت ، وتأكدوا من ذلك بالقفز عليها عدة مرات دون سماع شيء.. قرر السيد الأول إعطاء توجيهاته بردم معالم المقبرة. لكن ، والله وحده يعلم من أين ، نهضت فجأة آخر جثة لفتى أسمر وسيم ، بدا عليه الحياء من رؤية جسده العاري مكشوف ، وأصابته نوبات الهلع والفزع ، بالتأكيد ليس لأن الدود ينخر على كل محيا الذين من حوله وحسب ، بل لأن الجميع كانوا كشخص “السيد” مثله..! تقدم نحوه بحذر وحيطة ، السيد العجوز ، دثره أولاً برداء أبيض قديم ، وأشربه بغطاء جمجمة مقعرة حساء البازلاء الساخن… وهمس في أذنه: (لا تجزع يا فتى ، نحن أقرب إليك منك .. كلنا هنا أنت ، كلنا هنا السيد!) ثم أشار له بيده أن تعال.
ابتسم الفتى حين لم يجد داع للرهبة ، وبالأخص أن الكلاب التي كانت تنبح قد فرت منذ أمد ، وأن القمر المختبئ بالخسوف ظهر كبدر ناعس للعيان .. وقتها بانت للسيد الصغير ، غمازتان على خديه ، ولمع من ثغره ناب ملبس بالذهب … أخذ يمشي خلف العجوز إلى أن أصعده على مقام عال تتمكن من رؤيته كل الجثث. وطلبوا منه ، جميعهم ، أن يقص عليهم كيف عاشوا قبل الآن ، وكيف ماتوا إلى ما هم عليه ، أرادوه أن يحدثهم عن ماهية الوجود والفراغ ، عن النوم والأحلام ، وأن يخبرهم بالأم “حاجة فضيلة” وبالحبيبة “قمر البنات” و “وضاحية” ، وأن يروي ، بإطناب ، كل تفاصيل الحياة.!