د. علي زين العابدين الحسيني - ذكرى البيوميّ... كلمة أخيرة

إننا قوم لم نتعود أن نحتفي بعظمائنا!
أبعث ذكرى أستاذي محمد رجب البيومي قبل موعدها بأيام قليلة، وأدعو تلامذته وعارفي فضله إلى تمجيد مئويته وتخليدها، والكشف عما في آثاره المتعددة من جواهر دفينة!
فيا طلابه وصحبه الأكرمين الذين أحبكم وأهدى إليكم ما خطت يراعته مَن أولى منكم بالاحتفاء بمئويته وإثارة ذكراه بين الناس؟!
ألم يرعكم أن تكونوا من أبناء الواجب أرباب الوفاء؟!
يا أسفا! لم يقل التلميذ الميت لأستاذه الحيّ شيئاً، وقد كان أحوج بالتلميذ أن يذكر مآثر شيخه وأستاذه ليحيا بها حياة خالدة.
لم يعد في الإمكان اليوم العثور على هذا الوفاء وا حزناه، فحل محله التجاهل، والتجاهل بمعونة النسيان والزمان يمحو صورة المبدعين من الذاكرة، ويطمس جهود العظماء في الذهن.
وهل يحيا الوفاء بعد الطلب المتكرر، فيكون بعده للكتابة معنى؟
الوفاء أتريد أن تعرفه على حقيقته؟ هو إحياء مَن في طي النسيان، واستنهاضٌ لقوة الدفع في تراجم الرجال، وتربية الأجيال على التعلق بهمم الكبار.
تلك الذكرى هي عيدٌ للعبقرية!
لقد غدا تاريخ ما أهمله التاريخ من شخصيات فناً عزيزاً مقروناً باسم "محمد رجب البيومي" في عصرنا الحاضر، قد وهب لهذا الطريق الصعب زهرة شبابه وسني كهولته، فلو أخلص له تلامذة مَن ترجم لهم وأحيا ذكرهم لتحمسوا أن يكتبوا عنه بعد وفاته كتابة تكون بعض التقدير والوفاء لجهده الطويل المثمر.
هو هو الذي كان يعطر مجالسه بشذى حديثه عن أعلام الأدب، ولكن الجحود عصف به فصدّ الناس عن الاحتفاء بذكراه.
لقد كان رجلَ وحدِه في نظام حياته، وأسلوب كلامه، وطريقة تفكيره، ونمط كتابته، وترتيب عمله، وسمو همته، ووضوح هدفه، والتفرد في الحياة والأسلوب والتفكير والكتابة والعمل والهمة والهدف معناه وجود شخصية نادرة الوجود، لا يغني عن وجودها وجود، ولا يعوض عن فقدها أحدٌ.
إن البيوميّ غرسٌ من مغارس أساتذة عظام آتى أكله في الأزهر وغيره من معاقل العلم، قد تغذى في صغره بأفاريق الثقافة، فإذا البيومي كوكب دري يتألق في سماء المعرفة بعبقرية وألمعية، وإذا هو حالة فريدة في قوة الأسلوب، وسحر البيان، وحكاية الأحداث، وسرد القصص، وعذوبة السجايا، وفيض الخاطر والشعور.
حمل رسالة العربية يستكشف بها آيات ماض مجيد، ويتطلع بها نحو مستقبل منشود، ويربط بها بين أجيال متتالية، ويوصل بسببها بين ثقافات متعددة؛ فاستحق عن جدارة لقب "شيخ العربية" و "أديبها الكبير"، وهو ما استقرّ في أذهان العلماء عنه من قديم.
بيد أنّ أشدّ ما نخشى منه أن تطوى فكرة الاحتفاء بمئويته كما تطوى مشروعات الاهتمام بكبرائنا في الحياة الثقافية، ويحرم هذا الرجل العظيم من أن يحاط بكلّ مظاهر الثناء والتجلة، ويندثر ما تبقى من الاعتناء بتراثه مع الأيام!
هؤلاء العباقرة لا يطوى لهم بساط في ظل الحياة!
لقد طلع هذا الأديب على الناس في القرن الماضي بموسوعية شاملة في أغلب الفنون، ما جاد بها الزمن إلا في حقب زمنية محددة خصبة بأنواع الثقافات، فأطلّ على دنيا المعارف نابغة عبقريّ يكتب في مجالات متعددة، وهو الوحيد من أبناء جيله الذي كان يُقرأ له في الشهر الواحد مقالات أدبية وثقافية ودينية وتاريخية، ينشرها في كبرى المجلات العريقة في العالم العربي ببراعته المعهودة!
ما رأيت قلماً كقلمه يسرع من دون أن يتعثر أو يتردد!
إنّي أذكر أيامه في مجلة "الأزهر" التي استعاد رونقها وأظهر قوتها، وأعماله التي كانت منحة من منح الزمان وحجة على الرجال!
وللبيوميّ جوانب شتى، فهو جامعي أصيل، رائد من روّاد الثقافة المعاصرة، وأستاذ أكبر في المعارف، أديب وقصاص، شاعر وناثر، أديب مؤلف، ومؤلف أديب، بياني ومسرحي، مقالي ومنشئ، كاتب ومفكر، باحث وناقد، مؤرخ وراوية، لغوي وفقيه، عميد أكاديمي ورئيس تحرير، وفيلسوف تأملي ومدرس متمكن، وله في كل جانب من هذه الجوانب ابتكار وخلق، ونظريات وآراء، وتعقيبات وردود.
وهو في حياته الشخصية مواطن مخلص، وديع النفس، رصين اللب، وملتزم واضح، ومحب للعلم، ومثابر لا يسترخي، وعاشق للأزهر وتراثه، وعروبيّ حريص، وحارس للفكرة العربية والفكرة الإسلامية، وزوج وفي، وأب حان، وصديق مواس، ذو خلق رفيع، وذهن متوقد، ونبل عزيز، ومنطق مستقيم.
إنه خلاصة جيل تلامذة كبار الأدباء من أبناء القرن الماضي، وتطبيق صحيح لمدرستي الزيات والديوان وعصريهما!
حاشاك أن تحمل كلامي عن البيومي على المجاملة، ففي كتبه ومقالاته وحياته الخاصة الأدلة والبراهين!
ولو شئتُ أن أعدد مآثر الرجل في حياته الخاصة لضاق المجال، وحسبه أنه -كما عرفته- من العاملين لغيره في صمت، يرشدهم ويقف بجانبهم في بداية حياتهم العلمية، فكان يتفقد زملاءه وطلابه، ويأبى وفاؤه إلا أن يردّ الأمل والثقة لمن دهمتهم الشدائد، ويسعى إلى ذلك سعياً شديداً يتعجب منه عارفوه، وهو بذلك قدوة وذكرى جيل بعد جيل.
إنّ الحياة عمادها صدق المخلصين وجهدهم، وإقدام الرواد وفناؤهم، وحكمة الملهمين وإبداعهم!
و"تسعون" البيومي جديرة بالنظر والدراسة لأنه تهيأ له من الأخذ عن أعلام الأدباء والمفكرين والثقافات المتعددة ما يجعلنا نطيل النظر في الشخصيات التي قابلها، والمشاهد التي رآها، والأحداث التي وصفها، والروايات التي نقلها، والمواقف الكثيرة التي برزت في حياته وآدابه!
وإنّ حياته في القاهرة وقت التحاقه بكلية اللغة العربية كانت حياة مليئة بالأحداث والنوادر والأخبار، حياة غنية بالمجالس الأدبية والعلمية والكتابة في كبرى المجلات الثقافية، وإذا عرضنا البيومي بتلك الأيام والمقالات رأيناه نابغة من أول أمره، وانظر قصائده التي نظمها في أول شبابه.
شكل من أشكال الكتابة طفر طفرة عظيمة بعد محمد رجب البيومي بفضل موهبته الكبيرة وموسوعيته الشاملة هي الكتابة التاريخية الأدبية، فكانت لكتبه ومقالاته الفضل في إحياء كثير من الشخصيات المهمة، ومعالجة قضايا مختلفة مرتبطة بهؤلاء الأشخاص بأداء تعبيري راق متمكن.
ولعبقريته العزيزة استطاع أن تكون له بصماته على أساليب الإبداع والكتابة لدى معاصريه من الأكاديميين وغيرهم، وهم من أجيال متعددة.
ومن يقرأ له لا بد أن يقرأ الإصلاح الاجتماعي في جميع ما كتب.
كتبَ البيوميّ بالقلم والروح: قصائد، ومقالات، ومسرحيات، ومؤلفات، وقصصاً، ودراسات أدبية، ونوادر وأخباراً، وخواطر ونقداً أدبياً، وفكراً إسلامياً، ودراسات فقهية وتفسيرية، وتاريخاً وسيرة نبوية، وكتباً جامعية ومقررات دراسية، وتقاريظ ومقدمات كتب، وإذا كانت كل هذه الكتابات التي خطها يراعه هامشية إلى جانب إبداعه الآخر، فإن الكتابة التاريخية الأدبية هي العلامة الفارقة التي تدمغ إبداع البيومي كله ... ذلك أنّه خلد بالتراجم والتاريخ، حتى عدّ مؤرخ الأزهر وأديبه الأول!
ما فتئتْ روحه تطالعني كلّ يوم مصطفة أمامي من منجزاته العلمية.
وأجمل ما في كتبه هذه هو أن صاحبها يؤرخ لعصره، ولأجلّ الشخصيات التي عرفها، وأبرز الأحداث التي وقعت فيه، لا بمنهج المؤرخ فحسب، بل بعقل المؤرخ وأدواته، وأسلوب الأديب وإدراكه، مما يجعل من كتبه بحق مادة للتاريخ والأدب، حيث يلتقي التاريخ بالأدب، ويلتقي الأدب بالتاريخ، فيما يمكن وصفه بعلم جديد في عالم الكتابة، وهو الكتابة التاريخية الأدبية.
ومَن أقدر منه على نقل هذه النوادر وأشباهها فيما سطر؟
وانطلق البيومي يرسي مجموعة جديدة من القيم الكتابية في حياتنا الأدبية، فكان خروجه بكتاباته إلى الساحة الثقافية الواسعة؛ إذ لا يمكن أن يمارس الكتابة في عزلة عن قضايا المجتمع، ثم كان تأسيس مدرسة تاريخية حديثة تتخذ من الأدب وسيلة في الحديث عن تراجم الرجال، ورصد الأحداث والروايات المختلفة بالعلم والأدلة، والإيمان بالحوار والمناقشة، وتوسيع الدائرة مع المخالفين، ومواصلة الاهتمام بالشخصيات ذات التأثير المعرفي، والتجديد المستمر في قراءاته، والوعي بما يدور في العالم الخارجي من ثقافات.
ذلك بعض القول في فقيد العربية والوطن!
ولنا في الاحتفال بمئويته وتجديد ذكراه أغراض: منها إعلان الشكر للبيومي والاعتراف بالجميل له على ما قدمه للأمتين العربية والإسلامية من جهود في مجالات معرفية مختلفة، وقد كان هذا في حياته أوجب، لكن يظهر أننا أناسٌ لا نلتفت إلى العظماء إلا بعد مماتهم، وكأننا نرسل رسالة لكل رجل مخلص وفيّ يشارك في بناء رفعتنا: إذا أردتَ أن تكرم ويرفع ذكرك بين الناس فمت أولًا. ومن تلك الأغراض إرسال رسالة للمثقفين والأدباء الأحياء أن جهودهم لن تضيع هباءً منثوراً، وأن هذا العمر الطويل المملوء بالبذل والاجتهاد هو في أعين الآخرين ثروة هائلة لا يمكن الاستغناء عنها؛ نتابع بها المسيرة، ونربط الحاضر بالماضي، ونعد للمستقبل!
وفي الاحتفاء بالعظماء تكريم للأحياء أنفسهم لأنه دليل عملي على أنهم أوفياء يقابلون جهود غيرهم من الأموات بالشكر والعرفان، فلا يضيع الإحسان فيهم، ولا ينقطع، بل هي سلسلة متصلة من الوفاء يجب ألا تنقطع، فيكرم الحي الميت، وهكذا!
لقد رجونا أن نتوارث الوفاء الذي عاش به على مدى الأجيال لتظل تلك القيم مستأنفة الحياة ومتصلة السبب.
أستاذي البيومي! كنتُ أعلل نفسي بمراجعة آثارك بعد رحيلك، فأتغذى -من هول فقدك- على ثمرة فكرك الذي يلذ العقل عصارته، وأتأمل كثيراً خطرات قريحتك الصافية التي تشرق على النفس فتعزز ارتباطها، وتجدد مناها، وتنعش قواها، وتفتح بصيرتها، وألمحُ ثاقبَ نظرك في كثيرٍ من القضايا، فيقع كلامك قريباً من ذهني بدقة صوغك، وعلوّ فكرك، ورقة أسلوبك، وصحة طبعك، وتلك من علائم الأديب العظيم!
ومن وحي كتبك القيمة ومقالاتك الشامخة تنساب الأفكار الجليلة التي تسري إلى روحي، ثمّ تنتقل إلى كتاباتي لأجدد بها ذكراك!
لقد كان البيوميّ هبة ثقافتين وجامعتين، ثقافة التراث الأصيل والدراسة المعاصرة، وخريج الجامعة الأزهرية والجامعة المصرية، فهيهات ينبغ مثله إلّا مَن أخذ عن أساتذة الجامعتين والثقافتين ... وهيهات!
والأمر في أزهرية البيومي أبين من أن يبين، ولكنه في الجامعة المصرية يحتاج إلى تعليل، ذلك أن الرجل لم يكتف بما حصله من علوم أزهرية، بل واصل دراسته التربوية بــــ"معهد التربية العالي" بالإسكندرية، أضف إلى ذلك أخذه عن أساطين الجامعة المصرية وتلقيه عنهم كثيراً من الثقافات المعاصرة، وحضوره للندوات والملتقيات الثقافية الخاصة بهم، ولا يخفى أن الفرق بين مدرسة الأزهر ومدرسة الجامعة المصرية كالفرق الذي كان عند النحويين بين مدرستي البصرة والكوفة، واتصال البيومي بتلك المدرستين كان له الأثر في تعبيره وسمته وتفكيره.
إذا غرب نجم حياة "محمد رجب البيومي" دون رجعة، وإذا فقدنا الأمل في الاحتفاء بمئويته فإن له نجوماً تطلع كلّ يوم من خلال كتبه وأفكاره، وحياته باقية في سيرته ومقالاته، وفي جهاده العلمي الصامت الذي برز تاريخاً ملهماً ووعياً ثقافياً ووفاءً منقطع النظير.
ليس بكثير على رجل عظيم؛ كالبيومي أن تنطلق أقلام الكبار في الإفصاح عن منزلته!
إذا لم نجعل يوم ميلاد البيومي ذكرى نتبادل فيها الإعجاب بتراثه، وتنطلق الألسنة بالثناء عليه فمن أحقّ بذلك منه؟!
وإذا كانت المجلات الأدبية والصفحات الثقافية لا يلفت نظرها حدث مثل هذه الذكرى، فما الذي يمكن أن يلفت النظر؟!
ليس البيوميّ في حاجة إلى إكرامكم، وإنّما أنتم في حاجة إلى بقاء إبداعه بينكم!
كيف يستوطئ هؤلاء التجاهل؟ وكيف يركنون إلى الجحود؟
رحم الله الذي بعث فينا روح الإبداع، وبرّد ثراه، وحباه في كريم جواره بأحسن تحية، وخلّد ذكراه!
لقد حدثتك عن رغبتي في إحياء ذكراه، أما الواقع فسأدعه وإياك ليحدثك عن نفسه!
لا تسل عما سينالنا من الابتهاج والفرح لو حققت تلك الأمنية!
تلك هي الذكرى!


د. علي زين العابدين الحسيني - كاتب أزهري




[جريدة الديوان الجديد، عدد: ٤٦، أكتوبر ٢٠٢٣م]




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى