سيد جمعة - تأويلات في رواية (الأقدام السوداء) للأديب «محمد فايز حجازي فريق العمل

أجبرتني رواية (الأقدام السوداء) للأديب المبدع «محمد فايز حجازي»، على قراءتها مرتين خلال أسبوع واحد برغم حجمها، وهي من المرات القليلة التي أفعل فيها هذا، وذلك لسببين أساسيين، أولهما؛ الفكرة الفريدة والطرح الجديد والعالم الذي كتب فيه الرواية وثانيهما؛ اللغة الجذلة -والسهلة في نفس الوقت- والسرد السلس، إلى جانب الحبكة القوية، الرواية عبارة عن لوحة أدبية بالغة الجمال تتقاطع فيها عدة خطوط ومُنحنيات وأشكال، الرواية التي تدور أحداثها في زماننا المُعاصر، يتجلى فيها الخط التاريخي وكذلك العلمي والرومانسي والاجتماعي والفلسفى، بل والبوليسي أيضًا، وربما كان هذا سببًا في أن يضع الكاتب عنوانًا فرعيًا لروايته (تقاطعات العشق والدجل) أو ربما كانت إشارة منه إلى أحداث روايته التي يصطدم فيها العشق بأشكاله، عشق الوطن، وعشق الحبيبة، وعشق العمل، وعشق الدين (على اختلافه)، يصطدم كل هؤلاء بأشكال الدجل والشر المختلفة من كذب وتدليس ونهب وخيانة، الرواية تحتاج إلى قراءات وقراءات وقد بعث لنا الكاتب فيها برسائل جمة ومُهمة، فعل ذلك بذكاء وحنكة، ولكنني سوف أتطرق إلى بعض الجوانب والسمات التي رأيتها متفردة في هذا العمل الأدبي المهم، وأذكر بعض مفاتيح قراءته من منظوري.
الرواية التي تتخذ من عالم حفر آبار البترول والتنقيب عنه خطًا رئيسًا، ولا يظن ظان بأن في هذا العالم الذي اختار الكاتب أن يكتب عنه، فيه شئ من جمود أوجفاف، لا، فقد برع الكاتب كل البراعة في جعل عالمه هذا يعج بصور العشق والفكر والإثارة، تبدأ الرواية بثلاثة مشاهد تاريخية في بلاد وأزمنة مُختلفة، بسردالراوي العليم وبلغة وصف بارعة ورشيقة وحوار جاذب وماتع ودقيق، ورسم فريد للشخصيات، ثم بعد ذلك ذكر خبر في جريدة «واشنطن بوست».

لماذا انتقى الكاتب تلك الأحداث في تلك الأزمنة والبلاد وذيلها بخبر في جريدة؟
جاء المشهد الأول في ولاية بنسلفانيا الأمريكية في عام 1859م، والثاني في مصر في الفترة بين عامي 1881م و 1882م، والثالث في الجزائر في عام 1917م، وهي تواريخ اكتشاف أول آبار للبترول وفي الوقت نفسه جنسيات الشخوص المحورية الثلاثة في الرواية، فاكتشاف أول بئر بترول في العالم كان في أمريكا والثاني في «مصر» والثالث في «الجزائر» وما صاحب ذلك من أحداث وسيطرة لأهل الشر ومن أسماهم الكاتب بـ«الأقدام السوداء»، ونكتشف عند قراءة الرواية أنها نفس جنسيات اللاعبين الأساسيين في مسرح الأحداث «حسن عبد الكريم» المصري وحبيبته «داليا بن بركة» الجزائرية و«ريكي جيفرسون» الأمريكي، وكأن الكاتب أراد أن يقول ببراعة بأن من حرَّك الأحداث في تلك الوقائعالتاريخية هو نفسه من يُحركها الآن.


1.jpg

المشهد الأول في ولاية بنسلفانيا الأمريكية في عام 1859م عندما تم حفر أول بئر بترول في العالم، نتيجة جهود الأمريكي «إدوين دريك»، وقد يبدو لمن لم يقرأ الرواية أن الكاتب في تلك المشاهد كان مجرد ساردًا للأحداث، غير أنه قد تناولها بشكل فني ودرامي بارع، ووصف الشخصيات وصف ندُر أن يكتب به كاتب، وقد بذل جهدًا بحثيًا كبيرًا في معرفة البيئة في تلك المنطقة وفي ذلك الزمان، حتى عندما راجعت شكل الساعات والنظارات والأسماء وأنوع الأخشاب هناك وأسماء الجرائد والمجلات حينها، وجدته لم يخطيء في ذلك خطأ وحيد، فعندما وصف شكل الساعة التي يرتديها أحد مالكي شركة «سينيكا أويل» مثلًا، وصفها بدقة شديدة وماذا رسم عليها، وهو عندما يفعل ذلك فلأهداف أدبية وفكرية فيثير في نفس القاريء التساؤلات والتأويلات، يتعرض «إدوين دريك» لفشل مُتكرر ومضايقات في الموقع من قبل من يُدعى «دوف بنيامين»، وبعد أن يحبس القاريء أنفاسه وبعد حبكة فنية، تتكشف الحقائق، في هذا المشهد لفت انتباهي حوارًا دار بين «إدوين دريك»المتدين وأحد ملاك الشركة وقت أن تقدم «إدوين دريك» لشغل وظيفته
قال «إدوين» في حماسة هادئة:
– لن تكون هناك عقبات، وستسير الأمور على خير حال ببركة «يسوع».
برقت عينا «جورج» من خلف نظارته ببريقٍ خاطفٍ، بريقٍ خبيثٍ ومُخيف لم يلحظه «إدوين»، ثُمَّ قال وقد أخفى عدم إعجابه بكلام «إدوين»، الذي اصطُبغ بمسحة دينيَّة:
– سيد «إدوين»، وحدهم -ولا سواهم- هي آليَّات النجاح المُؤكَّد، الذكاء المُتمثل في العقل، والقوة المُتمثلة في المال، والسلاح المتمثل في العلم والمعدات والآلات، حالما تستخدم كلّ هؤلاء في التوقيت المثالي، فحتمًا ستصل إلى مَأرَبك، هكذا تعلَّمنا وبهذا نعتقد، ثِقْ في هذا.
أظن في هذا الحوار أن الكاتب أراد أن يرسل إلينا برسالة مبكرة مفاداها أن أهل الشر هؤلاء لا دين لهم سوى مصالحهم وأهدافهم، حتى أنهم أنزلوا بـ«دوف بنيامين» -الذي يبدو من اسمه يهوديًا- ذلك الرجل الذي وضع العقبات في طريق «إدوين دريك»، أشد العقاب الذي ربما وصل إلى الموت، إذن فأهل الشر لا يكترثون بمسلم أو مسيحي أو يهودي، دينهم مصالحهم وأهدافهم فقط، حتى أنهم خدعوا «إدوين دريك» نفسه، الرجل الذي جاء الكشف عن أول بئر للبترول في العالم نتيجة جهوده المضنية وعقليته المضيئة، عندما لم يفطن لتسجيل براءة
اختراعه، واستمروا في حفرهم في مناطق مختلفة بنفس التقنية التي اكتشفها الرجل. في هذا المشهد خلط الكاتب بين الشخصيات التاريخية الحقيقة وشخصيات أخرى استدعاها للضرورة الدرامية، بما لم يخل بالوقائع التاريخية بالطبع.
في بداية هذا المشهد، لمح الكاتب في وصفه البديع للمتنزه، إلى قوي الصراع الأبدي بين القبح والجمال، فقال (الخُضرة على مَرمى ناظريهم، يُزيِّنها الورد مُختلف الألوان والأشكال، والأشجار العتيقة ذات الجُذوع السميكة والأغصان المُتشابكة الكثيفة، وكذا تماثيلُ من جبس ورخام مَصقول وخشب وصُلب، تأثَّر فَنَّانوها بمختلف مدارس النحت، الفرعونيَّة والرُّومانيَّة والإغريقيَّة، التي تُحاكي الجسد الآدمي مع إضفاء طابع مثاليٍّ مُنسجم ومتوازن، فانتشرت تماثيل لمواطنين أحرار وأباطرة وقادة عسكريين، وقدِّيسين وَرُسُل، مُضاهاةً لتماثيل «ميرون» و«ڤيدياس»، ومَنْ بَعدَهُم مِن فَنَّاني عصر النهضة الأوروبيَّة، كالأيطالي «مايكل أنجلو» والفرنسي «بيلون»، والألماني «كرافت» وغيرهم) فإلى جانب إلمامه بفنون عصر النهضة الأوروبية وفنانيها،
جاء مقطع (فانتشرت تماثيل لمواطنين أحرار وأباطرة وقادة عسكريين، وقدِّيسين وَرُسُل) معبرًا عن قوى صراع الخير والشر على مر العصور، وقد استشعرت مع كل استدعاءاته السردية ذكاءً وحنكة كبيرين.

كيف ربط الكاتب المشاهد الثلاثة في سرده الأدبي؟
بعد المشهد الأول ينقل الكاتب الكاميرا إلى اجتماع أهل الشر الذين ينتشون لسبقهم هذا، الذي سيضيئون به العالم ويسيطرون عليه أكثر، وفي هذا الاجتماع تم اتخاذ قرار بعقاب «دوف بنيامين».
في المشهد الثاني ينتقل الكاتب إلى سرايا عابدين في «مصر»، حيث يدور فيه حوار بين الخديو «توفيق» المرتعش وكل من القنصل الإنجليزي والقنصل الفرنسي، حول الأميرالاي «أحمد عرابي» وسر مجيئه إلى السرايا مع جنوده، وتستمر الأحداث بسرد ماتع وأحداث مُتصاعدة، حتى تفضي إلى الإحتلال الإنجليزي لـ«مصر»، بعدها سيق جمع من العمال المصريين لحفر أول بئر في «مصر» في منطقة «رأس جمسة»، لتتوالي التهنئات والتبريكات في اجتماعات «الأقدام السوداء».
ثم المشهد الثالث في ولاية ورقلة الجزائرية ومقاومة الشعب الجزائري البطل بقيادة الشريف «محمد بن عبد الله»، ثم اكتشاف أول بئر بترول في «الجزائر» مصادفة عن طريق «مسعود بن روابح» حفار آبار الماء وراعي الغنم -الذي سميت المنطقة فيما بعد باسمه- وسرعانما نقلت العيونالخبر إلى المحتل الفرنسي، الذي لم يدع الفرصة ليرسل عينات السائل الأسود إلى معامل «فرنسا»، التي قررت حفر أول بئر للبترول في المنطقة.
في المشاهد الثلاثة يفرد الكاتب بسلاسة وإثارة كمًا هائلًا من المعلومات العلمية والتاريخية، أظنه قد بذل فيه جهدًا مُضنيًا.
ثم أخيرًا في هذا الجزء من الرواية يدعي الكاتب خبرًا نُشر في جريدة «واشنطن بوست» عن الصعوبات التي واجهت الشركة الأمريكية حتى نجحت في أول كشف بترولي لها في «المملكة العربية السعودية»، وكأن الكاتب أراد أن يقول لدول الخليج (على الرغم من أن أحداث روايتنا ستدور في «الجزائر» و«مصر»)
فإنكم غير بعيدين. وبعد الخبر تتوالي التهنئات والتبريكات في اجتماع «الأقدام السوداء»، الذي ربط به الكاتب شتى المشاهد السالفة.

هل خدمت تلك المشاهد الأولى النص؟
الإجابة هي نعم بكل تأكيد،وإلّا كيف كان لنا أن نعي الامتداد التاريخي لتلك «الأقدام السوداء» بكل تلك التفاصيل والصراعات، والتي ستستمر بعد ذلك في أحداث الرواية المعاصرة، لذلك فهي جزء أصيل من النص وبدونه لم يكن ليستقيم السياق أو يُفهم الهدف وصارت فكرة الرواية العميقة مبتورة.
ثم تنتقل كاميرا السارد العليم، إلى «القاهرة» في ديسمبر من عام 2012م (وللتاريخ مدلوله) حيث يتم الاتفاق بين مدير إحدى شركات البترول ومدير الشؤون الإدارية، على إقالة المهندس الشاب «حسن ثابت عبد الكريم» والجيولوجي «إسلام صابر» وآخرين، ومرة أخرى يؤكد الكاتب على مدلولات الأسماء، ولا أدري لماذا تذكرت أغنية الشيخ «سيد درويش» أنا المصري كريم العنصرين عندما قرأت اسم بطل الرواية، فضلًا عن اسم «الشاطر حسن» ولا أدري هل قصد الكاتب كلًا من الجانب الرومانسي والقومي في اسم بطل العمل، وهل كانت مصادفة عندما اختار الكاتب اسم «حسن» لبطل الرواية المولع بمسجد «السلطان حسن» ؟ وهل كانت مصادفة أن يكون مشهد ختام الرواية عند هذا الموضع وهو موضعأعظم الآثار الإسلامية على سطح الأرض؟ على أية حال هذا ما وصلني كمُتلقي.
بدا أن مدراء الشركة التي عمل بها «حسن» لا يكترثون بالأكفاء وأنهم لأغراض أخرى قرروا التخلص ممن يزعجونهم، وعليه فقد توجه «حسن عبد الكريم» بعد إقالته إلى مكانه الآسر عندما يتعرض لأي أزمة، الممر بين مسجدي «الرفاعي» و«السلطان حسن» لنجد حوارًا مُتخيلًا بينه وبين المساجد من حوله، وقد كان عاشقًا للمساجد التاريخية والآثار كأبيه الراحل، وكان «حسن» عاشقًا للقراءة والكتابة ومسؤولًا عن أمه وأخته الصغيرة والوحيدة، وبعد عناء البحث عن عمل جديد، تأتيه الفرصة في أبعد مكان يمكن أن يخطر له على بال، في «الجزائر»، لتبدأ الإثارة والأحداث المتلاحقة، عندما يقع في شرك أهل الشر على حفارة البترول المعزولة في قلب صحراء «الجزائر»، ومقابلته لمن عاش عمره يحلم بها، وقد مهد الكاتب مبكرًا ببراعة وحبكة فريدة لتلك المقابلة مع «داليا بن بركة» الجيولوجية المُتدربة على الحفارة، وقد تعارفا قبل أنيتقابلا، «حسن» كمهندس وكاتب و«داليا» كقارئة مفتونة بالكتب والصفحات الأدبية على مواقع التواصل الاجتماعي؛ ليعيشا قصة عشقهما النقية في قلب الخطر، وهما يمثلان بلدان يشتركان في الهوية والدم، حتى نجوا بالفطنة وبفضل مدد السماء بظهور «العم يزيد» ذلك السائق الذي استقبله في المطار عند قدومه لأرض«الجزائر»، عندها اتخذت الرواية شكلًا مثيرًا يحبس الأنفاس.
يمرر الكاتب في روايته عدة أفكار أهمها (في تأويلنا)، أذكرها وأذكر بجوارها سبب التأويل:
– «الأقدام السوداء»، أولئك الذين يتعاطوا كل الرذائل ويتفرغون تمامًا لفعل الشر (كما ذكر) لا يكترثون لدين أي ما كان هذا الدين، ولا يشغلهم سوى مصالحهم وأهدافهم المشبوهة (المواقف ضد «إدوين دريك» و«دوف بنيامين».
– «الأقدام السوداء» لا جنسية لهم، وقد عمد الكاتب لهذا الغرض فيما أظن إلى تعدد جنسيات شخصيات الرواية من أصحاب «الأقدام السوداء»، حتى أنه قد أدرج في نصه في غرابة وبفنية عالية اللغة الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، ربما إشارة لذلك.
– «مصر» كانت ومازالت وستظل هي السند والظهير والقوة لدرء الخطر ودحر المؤامرات (شخصية البطل «حسن» عبد الكريم) الذي اكتشف بذكائه ألاعيب «الأقدام السوداء» وخداعهم للجزائريين في حفارة البترول ممثلين في شخصية «ريكي جيفرسون» الرجل الكبير في الحفارة، الذي حاول استقطاب «حسن» إلى جانبه بالترغيب والترهيب.
– «مصر» مُستهدفة والألاعيب ضدها مستمرة (عرض «ريكي» لـ«حسن» بالعمل معه عند إقامة مشروعاتهم «مصر»).
– «الأقدام السوداء» وإن كان المصطلح قد ارتبط بأناس بعينهم إلّا أن الكاتب قد عممه على كل أهل الشر في كل الأزمنة (حوار «حسن» والعم «يزيد» في طريقهما من المطار إلى مقر الشركة، عند وصول «حسن» لأرض «الجزائر».
– لن تستقيم الأمور إلّا بالتكاتف والوحدة والتفاهم بيننا كأبناء أمة واحدة، وأذكر هنا ضمن مشهد الختام البديع للغاية وفيه يقول الكاتب (في أول أيام عيد الفطر، وأثناء شعائر الصلاة، كان مَشهد مَسجدي «السلطان حسن» و«الرفاعي»، والمساجد التاريخيَّة الكثيرة حولهما، تحت قلعة «صلاح الدين» الشامخة مشهدًا خلّابًا، امتلأ خلاء المَمَرِّ الساحر بين المسجدين، والميدان الواسع أمامهما بالمُصلِّين الذين فرشوا سجاجيدهم، وقد غَطَّى لون جلاليبهم الأبيض كامل المشهد، وبدت السماء مُتربِّعَة على عروشها، صافية تمامًا وكأنَّها مُبتهجة لروعة المنظر وجلال الموقف، وراضية عن الجميع، وكان صوت تداخل التكبيرات وزقزقة العصافير على الأشجار حول الميدان، صوتًا ملائكيًّا آسرًا يُنْبِئ عن تلاحُم الأجساد ووحدة الأفكار، ولعلَّ السرَّ الأبدي في روعة هذا المشهد، ليس فقط في أهل المكان أو طبيعته، بل في الآثار التي خلَّفها أناس آخرون عبروا من هذا المكان، آثار تفيض بقوة تكمن في المساحة والمباني والرمز)
– التمسك بالدين والخلق والعلم هو السبيل الوحيد والأكيد للرفعة والتقدم (دائمًا ما كان الممر بين المسجدين الكبيرين هو الطمأنينة والسكينة لبطل الرواية وفيه مشهد الختام أيضًا، فالكاتب مولع بتاريخه وبالمساجد العتيقة.
– الشباب هم المستقبل (ما حمله الشاب الذي ظهر مشهد النهاية من أمانة شاقة لمستقبل صعب).
– الحب والنقاء باقيان ما بقيت الحياة حتى وإن ساد الشر ظاهريًا (مشهد النهاية البارع للغاية وظهور الزوجين المصري والجزائرية سواءً كانا «حسن» و«داليا» أو غيرهما).
– انتصاراتنا دائمًا ما ترتبط بروحانياتنا (أحداث الرواية كانت كلها في شهر «رمضان» وختامها كان في صلاة العيد
ولم يكن هذا من قبيل المصادفة بكل تأكيد، فالكاتب أبدع باختيار زمن الأحداث، وكان من البديهي لأي كاتب لا يقصد أو يدرك ما يكتب، أن يكون الزمن طبيعياً.
– التمسك بالهوية واللغة هو أول مفاتيح التقدم (حوار السائق «يزيد» و«حسن» و الحوار الآخر بين مسيو «خازم» الرجل الجزائري مسؤول الحفر و«حسن».
– الخلافات المُفتعلة والمُخطط لها من قبَل أهل الشر لا تؤثر على أصحاب الوعي والفطرة السليمة بين الأنقياء من عامة الأمة (حب السائق «يزيد» الصادق لـ«مصر» وكذلك مقابلة رجال أمن المطار لـ«حسن» عند وصوله برغم الخلافات الكروية المفتعلة آنذاك وكذلك موقف مسيو «خازم».
– النجاة تأتي ملازمة للفطرة النقية والحب الصادق المتمثلان في العم «يزيد» هذا السائق البسيط الذي كان طريقًا للخلاص.
– «الجزائر» قوة جبارة بأبطالها وثرواتها (والكاتب ملم بالثقافة والشخصية الجزائرية سواءً كانت من الأصول العربية أو الأمازيغية إلمامًا كبيرًا).
– «الجزائر» تفطن إلى محاولات تفرقة أبنائها الأحرار (حوار العم «يزيد» مع «حسن» في الطريق من المطار)
– القراءة والعلم هما الوعي والإدراك وتبصير العيون والقلوب، أمة إقرأ لابد أن تقرأ (مهد الكاتب لشخصية بطل الرواية المفتون بالكتب والمولع بالكتابة، وكذلك «داليا» وقد أنار الله بصيرتهما).
– الدين والفطرة السليمة باقيان ما بقيت الحياة (نجاة «إسلام صابر» الجيولوجي من مؤامرة أصحاب (الأقدام السوداء).
– رسائل التاريخ يجب أن تقرأ بدقة وبصيرة ففيها العبر واستشراف المستقبل (مشهد «حسن عبد الكريم» بين مسجدي «الرفاعي» و«السلطان حسن»
– الفن والجمال لا يتناقضان مع الفطرة ( استدعاء «حسن» لمقطع من قصيدة من «أجل عينيك» وقصيدة «الجندول» للمهندس «على محمود طه» ومسلسل «ليالي الحلمية»…..)
– الدين والحب هما النجاح التام (قصة عشق «لورا» و«دريك» المتدينان، و«حسن» و«داليا»).
– الأمة بطائفتيها في ذات المركب («عمار»، «حسن»، «سفيان»، «يزيد»)، بل والعالم كله أيضًا، لاحظوا اختيار الأسماء.
– اكتشفوا أطفالكم فهم كنز عظيم إن أحسنا اكتشاف ملكاتهم ومواهبهم، فالولدان الصغيران هما من أهديا الفكرة الذهبية لوالدهم «إدوين دريك».
أخيرًا فإن الرواية تعج بالرسائل والأهداف الأدبية وبها غير ذلك الكثير، فهي تحفز على التفكير واعمال الوعي وتحتاج إلى تأويلات وتأويلات، ولكنني أكتفي بما ذكرت نظرًا لضيق المساحة وسوف أكتب عنها ثانية بكل تأكيد.

بعض سمات وخصائص الرواية في اختصار.
– لغة دقيقة وجزلة بلا تكلف، أنيقة وسلسة كالماء الجاري، حتى لقد خلت الكاتب شاعرًا في كثير من المواضع.
– الحبكة القوية التي أمسكت بي كقاريء من أول صفحة إلى آخر صفحة ( أعجبني جدًا تمهيد الكاتب لمقابلة «حسن» و«داليا»، وتمهيده
للأحداث عامة بشكل احترافي، لاحظوا أيضًا موقف الشاب الجزائري النهم للقراءة في الشركة الذي كاد يتعرف على «حسن» بصفة الأخير كاتب له صفحات على مواقع التواصل ومؤلفات أدبية مطبوعة)
– فكرة الرواية وعالمها الجديد تمامًا على القارئ، فلم أقرأ في هذا العالم من قبل.
– مادة تاريخية دسمة ومُشبعة وتعج بالرسائل.
– تعدد أصوات السرد، الذي منح حيوية كبيرة للنص.
– ضبط إيقاع النص وخلوه من الرتابة والثرثرة.
– مادة علمية جديدة كتبت بأسلوب أدبي راقي ورقراق، جعلتني ملمًا بعالم الحفارات والحفر، وقد استغل الكاتب وجود طلاب التدريب الجدد على الحفارة ليمرر للقارئ من خلال شرحه للطلاب بعض المعلومات العلمية المهمة واللصيقة بأحداث الرواية.
– الأشكال والرسومات التوضيحية التي نقلتني إلى داخل الآبار وكأنني أعيش فيها، وبين جنبات الحفارة، وكذلك الرسم التخطيطي الموضح لكل الأماكن والمواضع وغرف المبيت على الحفارة، ذلك الذي ذكرني برسم متاهة المكتبة في رواية «أمبرتو إيكو» (اسم الوردة).
– لغة حوار بارعة، ومناسبة تمامًا للشخصيات وطبيعتها وثقافتها.
– الرومانسية الشفيفة والنقية التي حلقت بي في سماوات العشق والجمال.
– رسم ووصف الشخصيات جاء فريدًا ووافيًا ومُفصلًا، وكأنني أرهم أمامي بملامحهم وخلجاتهم وحركاتهم وسكناتهم.
– لم يصف الكاتب «حسن»و«داليا»عن عمد، وحسنًا فعل، ليُعمم الفكرة، وليدع المجال لكل قاريء بأن يكون «حسن» وكل قارئة بأن تكون «داليا»، فلا يحجمهما في صفات شكلية محددة مما قد يباعد نفسيًا بين بعض المتلقين وبينهما.
– التجنيس الأدبي، فقد أدرج الكاتب قصة قصيرة وشفيفة تتمتع بكل مقومات وفنيات القصة بيد «حسن»
عندما اعتقد الأخير بأن «داليا» قد غادرت الحفارة، وكأنه يريد جذب قاريء الرواية لفن القصة الذي يعشقه الكاتب.
– برع الكاتب في استدعاء بعض الألفاظ القرآنية وكذلك من الحديث الشريف في محلها وبيسر وجمال (تعلم ما في نفسي وأعلم ما في نفسك، لو نظر بجواره لرآنا، إستيأس…..) وكأنه يؤكد على إحدى رسائل روايته ألّا وهي اللغة والدين).
– برع الكاتب في استدعاء بعض الأشعار والقصائد المغناة.
الغلاف والعنوان
جاء الغلاف معبرًا تمامًا عن جو الرواية وأحداثها، فكانت الخلفية بلون رمال الصحراء بها دوامات من زيت أسود، كالمتاهة التي وقع فيها«حسن»، بينما ترقبه عين من عيون أصحاب «الأقدام السوداء».
العنوان في منظوري جديد تمامًا ولافت، له منظوران، الأول الواضح لجماعة «الأقدام السوداء» والثاني هو قياس عمق حفر الآبار الذي يكون بالأقدام كما ذكر الكاتب في بعض المواضع، للوصول إلى الهدف الذي هو السائل الأسود، فالعنوان يفي بكلا الجانبين موضوع الرواية ومسرح أحداثها.
من الإقتباسات …..
(قوة واحدة، واحدة فقط تُعِين المرء على حُلفاء الشيطان هؤلاء، هي القوة الروحيَّة، تلك التى أستمدها من شيئين لا ثالث لهما، الدين والحب)
(فمن لم تُتَح له الرؤية والتقرير، أتيح لقلبه التخيّل والتقدير، فإنْ سَلِمَ القلب صابَ تقديره وإنْ فَسُدَ القلب خابَ تقريره).
(الأماكن كالبشر لها أرواح تَهِيم وقلوب تَنبِض، منها ما تسكُن إليه وتألفُه روحُك بلا سببٍ واضح، ومنها ما تنفُر منه نفسك ولا ترتاح معه بلا سببٍ أيضًا).
(الكتابة هى بكائي الصامت وفرحتي الصاخبة، وملاذيالآمن من وحشة الحياة).
أخيرًا تحية تقدير للكاتب المبدع «محمد فايز حجازي» الذي أمتعنا وأثار فينا نعمة التفكير والتأمل، وننتظر منه المزيد والمزيد.


2.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى