ثقافة شعبية عبدالله البقالي - بين رقصة البارود والعيطة الجبلية

كثيرة هي الرقصات الشعبية التي تعودنا على مشاهداتها في مناسبات شتى. وفعل التعود على مشاهداتها جعلنا غير مكترثين ومهتمين بأمرها كمحاولة تفسير حركاتها وفهم طقوسها. فنركز فقط من خلال متابعتنا لها على الجانب الاحتفالي الفلكلوري فيها دون محاولة الغوص في أبعاد حركاتها و كشف الخطاب المبثوث في دلالات طقوسها.
من بين هذه الرقصات، رقصة البارود الشائعة في منطقة اجبالة. و المختلفة عن باقي رقصات البارود لدى سكان المناطق الواقعة جنوبا كتلك السائدة لدى قبائل "الحياينة "
فرقصة البارود في منطقة اجبالة هي رقصة مشاة. في حين أن رقصة البارود في الحياينة هي رقصة فرسان يركبون خيولا. و لا شك ان البيئة الجغرافية السائدة في كل منطقة هي التي حددت شكل الرقصة في كل واحدة منها.
ذلك أن منطقة الحياينة مثلا هي منطقة سهلية. مساحتها مكشوفة. والمتحرك فيها في لحظة حرب يحتاج إلى سرعة للتنقل من منطقة لأخرى، إما فرارا من عدو، اومباغتته ومحاصرته. وبالتالي كان الاعتماد على الخيول هو الحل الامثل من أجل تحقيق ذلك.
على العكس من ذلك فمنطقة اجبالة هي منطقة جبلية. وعرة المسالك. لا تصلح فيها الخيول كوسيلة للتحرك. بل أن التموقع الجيد للمقاتل. واستغلال الحواجز. والقدرة على مباغتة العدو هو الأسلوب الأنسب كتقنية للقتال.
ما يلاحظ في رقصة البارود الجبلية أنها تبدأ بتنسق مسبق. إذ ان مقدم الفرسان يعمل بتنسيق مع المقاتلين للتجمع خارج القرية التي سيتم فيها الرقص. بحيث أن الجزء الذي يعتبر رئيسيا في الرقصة( العرض) ما هو سوى مجرد مرحلة لتحضير سابق و آخر لاحق.
يتجمع المقاتلون خارج القرية اذا، و يتم تنظيم صفوفهم وينطلقون مصطفين اتجاه الساحة التي سيتم فيها الاستعراض ( تجسيد أطوار معركة). وهم بذلك الشكل ، يبدون كقافلة عسكرية منطلقة اتجاه رقعة المعركة. وفي طريقهم تلك، يشرع المقاتلون في إطلاق البارود فرادي او مثنى. وتلك العملية يمكن تسميتها في اللغة العسكرية الحالية "بالمناورة العسكرية". وهي تهدف إلى التأكد من فعالية السلاح، و في الوقت نفسه نوعا من التدريب لرفع كفاءة المقاتل في الحرب. وهي أيضا بمثابة دعوة لعامة الناس من اجل حضور الرقصة.
يصل المقاتلون إلى ساحة الاستعراض. و يشكلون حلقة مغلقة يتوسطها "المقدم" او المايسترو الذي يشرف على تنظيم الرقصة. و المقدم يتمركز في وسط الحلقة ويتولى اعطاء الإشارات للمقاتلين. وهو بهذا الشكل يبدو مجسدا ل "القيادة الميدانية" التي ستشرف على إدارة العمليات العسكرية.
كل حرب كيفما كانت، لا بد لها من مراحل محددة. من بينها الإعداد النفسي الجيد للمقاتل. فالمقاتل لا بد أن تكون معنوياته مرتفعة. و مؤمنا بجدوى الحرب التي سيخوضها للحد الذي يكون مستعدا للاستشهاد من اجل تحقيق غاياتها.
ولتحقيق هذه الغاية يبدأ "عياع" وهي مقاطع أو مواويل تحتوي مضامين ومثل نبيلة تتغنى بالامجاد الغابرة، و التمسك بالعزة والكرامة، و استرخاص الحياة إن كانت خالية من الكبرياء والأنفة.. ويتناوب المقاتلون على ترديد مقاطع ذات مضامين متنوعة، إلا أنها تصب في مصب واحد، هي رفع معنويات المقاتل وجعله في مستوى الإقدام على التضحية من أجل تحقيق النصر.
حين يشعر المايسترو أن العامل المعنوي للمقاتلين قد بلغ المستوى المطلوب، ينتقل للمرحلة المتقدمة. فترتفع صيحته تشق العنان و"وا هيا لولاد"
هذه الصيحة يقابلها في اللغة العسكرية الحديثة إعلان "حالة الاستنفار" او التعبئة الشاملة. وهذه الصيحة تكون مقرونة بحركات معينة. بالأصابع تكون على الزناد. وهو ينقل بخفة يديه الممسكة على السلاح من الجهة اليسرى إلى الجهة اليمنى. بينما تكون عينه مركزة على الامام وفيها الكثير من الشراسة و الاستعداد للانقضاض..
التوقف عند هذه اللقطة يشخص وضعا هاما. فالمقاتل بتلك الحركة يجسد أنه وراء حاجز ما. قد يكون صخرة. او خندقا او اي شئ اخر. بينما عيناه المركزة على الأمام، تشخص أنها رصدت العدو وترقب تحركاته بتركيز بليغ. وبهذا الشكل يفهم المتتبع ان المقاتل هو في وضع ملتصق بالأرض. مختف كليا بحيث لا يدرك العدو وجوده. بينما العدو متقدم ومتحرك. ووضع كهذا لا يتحقق إلا في حرب العصابات التي ابتدعها عبدالكريم الخطابي في حرب الريف. وحين تنطلق الاشارة، يصوب المقاتلون بنادقهم. و يعملون كل ما في وسعهم على أن يخرجوا الطلقة في نفس الوقت. و إذا حدث ان تأخر أحدهم في إطلاق طلقته، تنطلق صيحات الآحتجاج من قبل الجمهور " خسرها"
قد لا يدرك البعض سر ذلك الامتعاض و الاحتجاج. و قد يفسره البعض على أنه تكسير لإيقاع الرقصة. غير ان فهم الوضع بشكل جيد يظهر السبب.
كان يفترض مثلا أن كل مقاتل يجب ان يفاجئ هدفه المجسد في مقاتل من صف العدو. وبحيث لا يترك له اي فرصة من اجل أخذ احتياطاته. وهذا سر الاصرار على ان تلتقط المسامع جميع الطلقات في الوقت نفسه. وبذلك الشكل يكون كل مقاتل قد نجح في تسديده. الا ان ذلك الذي تاخر في طلقته، يكون قد افلت من كان يفترض ان يكون ضحيته. ولذلك سمع الضحية المفترض طلقات الاخرين، فعمل على الاختباء. وحين اطلق المقاتل المتأخر طلقته لم تصبه. وبذلك لم تحسم المعركة .
ما علاقة رقصة البارود بالعيطة الجبلية؟ ولماذا تبدو أشعارها بعيدة عن ما يمكن اعتباره وحدة القصيدة؟
بالعودة إلى العيطة سيلاحظ المتتبع توالي الامكنة والوقائع بطريقة ليس فيها رابط و لا انسجام سوى كون أن جميع الاماكن تقع داخل المجال الجغرافي لمنطقة اجبالة ، من تخوم تازة إلى المحيط الاطلسي. ومن البحر الأبيض المتوسط إلى سهل الغرب و حوض ورغة. بينما على مستوى المضمون هناك تأريخ للبطولة وتأصيل الهوية ونقش الذاكرة.
رقصة البارود لا تنتهي بانتهاء الغرض الذي جسد وقائع معركة قتالية. بل ان "البواردية" كانوا ينتقلون من مكان العرض حيث رقصوا نهارا، إلى مكان فسيح نصبت فيه خيمة كبيرة، و هناك يقضون ليلتهم في جو احتفالي بهيج مجسدين شطرا آخر من المعركة، تعوض فيه البندقية بالكلمة والأدوات الفنية ، مؤكدين بذلك على أن المعركة ذات الف وجه ترتبط فيه البندقية بالكلمة العاشقة للحرية واهمية الفن وسموه وهو يتمم ما بدأته البندقية.
يبدا الحفل بإنشاد العيطة مرددين كل ما كتب في هذا السجل الضخم و المتربط بالمعارك السابقة التي دارت هنا وهناك من أرض أجبالة.
يفترض في حفل كهذا أن يعمد المحتفون إلى تأريخ وقائع المعركة التي خاضوها اليوم و يضيفونها إلى سجل البطولات الكبير . وأنه في المعركة القادمة أينما جرت سيتم ترديد ما نسجوه اليوم قبل أن ينضاف للسجل المفتوح على الايام والوقائع مقاطع البطولات القادمة اينما جرت من ارض اجبالة.
هكذا نستطيع ان نفهم لماذا يتخذ منشدو العيطة نفس لباس "البواردية. الجلباب. و العمامة الصفراء. و الكتف المكشوف أضافة الى الجراب الذي تخزن فيه الذخيرة.

عبدالله البقالي






1.jpg










تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى