عبد علي حسن - الأنسنة في الشعر التعالق المجازي بين الذات والموضوع.. ديوان (اغاني الصموت) انموذجا

منذ زمن ليس بالقصير ربما يمتد الىٰ أزمان تضرب في عمق التاريخ البشري والإنسان يحاول أن يجعل العلاقة بينه وبين الموجودات الأخرى التي تشاركه الحياة من نبات وحيوان وجماد وأخرى معنوية وحتىٰ رموزه الدينية التي اتخذت توصيف الٱلهة في الاحقاب الوثنية والأسطورية حاول أن يجعل تلك العلاقة نموذجية ترتقي الىٰ مستوىٰ محو الحدود لتغدو ذاته هي ذات تلك الموجودات ، يجري كل ذلك عبر تحريك المشترك بينها وبين ذاته وفق علائق مجازية تكسبها حياة تقترن بحياة الإنسان ، فكانت الأنسنة التي امتدت صلاتها وٱفاقها الفكرية والعلمية إلى شتىٰ مناشط الإنسان ، ومنها الأدب شعراً ونثرا .
والأنسنة تعني وفق المفاهيم الشائعة لغة واصطلاحا البحث عن صفات الإنسان في الكائن المغاير له فيزيولوجيا ، سواء كان ملموساً والحيوان والنبات والجماد أو غيبياً كالمفاهيم والأشياء المجردة ، وبالتالي هي كل من يخلع عليه صفة بشرية ، أو يمثله في صورة بشرية ، بما في ذلك إسناد الفعل البشري له ، عبر تقنية المجاز التي عرفت بها لغة العرب ، ويمكن تقصي ذلك في اداب وادي الرافدين وشعر ماقبل الاسلام وفي القرٱن الكريم وقصص الحيوان التي شكّلت الموروث السردي والشعري العربي .
أن هذه الصلة بين الإنسان وسائر الموجودات تشكّلُ تعالقاً مجازياً بين الذات الإنسانية والموضوع الذي يتشكّلُ من المحيط الحافّ بالإنسان وفعله وتفكيره ، وهنا تتجلىٰ رغبة الإنسان في أن تشاركه الأشياء في تكوين منظوماته الجمالية والفكرية وموقفه منها ، ومن خلال هذا التعالق المجازي الذي يقدم فيه النص الشعري نفسه على أنه نص شمولي يخرج من منطقة اللحظة الشعرية المقترنة بزمان ومكان معينين إلى فضاء لازمكاني أوسع ليصل إلى التعبير عن مكنونات الذات الشعرية مستعيراً المفاهيم القارّة للأشياء الحافّة به فيؤنسنها لتتوحظ تلك المفاهيم التي يقوم النص بتحريكها عبر التقويل والتفعيل للصفات الإنسانية واسباغها على تلك الأشياء ، وسيتبدىٰ ذلك في تحليلنا لبعض من نصوص الكتاب الشعري (اغاني الصموت) اصدار دار الصواف للطباعة والنشر/2018 للشاعر ولاء الصواف الذي سبق وأن أصدر ديوانه الأول (كاميكاز) 2000 ، و(كفن شهريار) 2007 و(كلب ينبح فوق الغيم) 2022 إذ تضمن كتابه الشعري موضوع البحث موضوعة الأنسنة في العديد من نصوص المجموعة التي اخترنا منها ثلاثة نصوص لتكون عينة لمعالجته موضوعة العلاقة بين ذاته الشاعرة ومايحيط به من نبات أو حيوان أو جماد أو مفاهيم مجردة لتدخل في تعالق أسهمت تقنية المجاز البلاغي في تخليق وحدة وجودية بين الذاتي والموضوعي تجلّت فيها البنية الشعرية على نحو مؤثر وجمالي فضلاً عن تحقيقها الابعاد الفكرية التي تنفرد بها الذات الشاعرة عبر توسّلها بالموجودات الموضوعية لتتحدث وتفعل في فضاء شعري يتجاوز المحسوس والملموس الىٰ ماهو ابعد من الحقائق الفيزيقية المنظورة وصولاً وضع المتلقي في دائرة تأويلية تنتج فيها نصوص المتلقي .
ففي نص ( ارجوحتي ) نقرأ مايلي :-
( منذُ خمسينَ قطافاً أو يزيد ..
أهزّها مرةً ...
وصوتُ الحربِ يهزّها ثانيةً
تأخُذني للغيمِ
وتُعيدُني الىٰ الأرضِ الحرام ...
النص ص 7 )
في النص السالف تشكّلُ الأرجوحة بنية مركزية ذات دلالة تشير الىٰ قوّة إرادتها مقابل الإرادة المسلوبة للذات الشاعرة ، ولتأكيد هذه السلطة والإرادة فإن النص يسندُ إلىٰ الإرجوحة فعل (الأخذ) و(الإعادة) وهذين الفعلين يشيران الىٰ حركة الصعود والنزول المعهودة في الأرجوحة ، إلّا أن الذات الشاعرة تسند فعلاً واعياً ينسجم وتجربة الحرب التي تخوضها الذات ، فتبدو عملية الأخذ فعلاً مقصوداً وكذلك عملية الإعادة ، وكأن الأرجوحة بهذين الفعلين انسان ما أو شخصاً يمارس التلاعب بإرادة الذات المسلوبة التي لا تملك إلّا الإذعان لهذا التلاعب الذي يغريه بالنجاة تارة حين يأخذه للغيم بعيدا عن فواعل التهديد الوجودي ويعيده تارة أخرى في أتون الحرب وفي الأرض الحرام تحديدا وهي منطقة قلّما ينجو أحد فيها ، فقد أسند النص هذين الفعلين الانسانيين إلى الجماد وهو الأرجوحة ، كما أن النص يسند فعل الهزّ إلى موجود معنوي وهو ( صوت الحرب) الذي يهزّ الأرجوحة ثانيةً بالتناوب مع الذات الشاعرة ، وفي كلا الاسنادين يظهر المجاز كفعل بلاغي اتحدت فيه الذات مع الموجودات الموضوعية لتعميق الأسىٰ في ماتعانيه الذات وهي تخوضُ حرباً أياً كان نوعها ، وهنا يكتسب النص شموليته وخروجه عن دائرة الزمكان ، إذ أن أنسنة الأرجوحة وصوت الحرب قد أسهمت في تحقيق علاقة وجودية أسفرت عن الإحاطة بتجربة المعاناة من المواجهة والتحدي غير المتكافيء بين الذات والٱخر .
وفي نص (هل تكتم السر ؟) ص23 تؤثثُ الموجودات الحيوانية والنباتية المؤنسنة الفضاء الشعري للنص ، إذ تتركُ الذات الشاعرة سائر الموجودات النصيّة تمارس فعلها المؤنسن في تحريك فواعل البنىٰ الشعرية التي كوّنتها داخل دائرة المعنىٰ الذي أراد النص تثبيته ، فمنذ السطر الأول للنص يُسندُ فعل القول للطير الذي ينقلُ القول للغيم الذي بدوره ينقله للذات الشاعرة التي بدورها تحفظ القول وتكتمه ولم تقله حتىٰ لنبي مفترض يتنقل في ارض السواد دون أن نعرف كنه ذلك القول الذي احتكم لموجهات عنوان النص وبانّ هنالك سرّ ينبغي كتمانه :
( ماقاله الطير للغيم ...ماقاله الغيم لي
ومالك اقله لنبيًّ بظفيرة حمراء يجوب السواد ..)
وهكذا يبدأ النص بترسيم علاقات مجازية بين الموجودات الطير / الغيم ، لتخلق بنية السرّ الذي تواتر بين الطير -- الغيم -- الذات الشاعرة ، ويستمرُّ النصّ في أنسنة موجودات أخرىٰ ذات صلة بالفضاء الذي تأسّس في السطور الاولىٰ ، فيلجأ النص الىٰ رسم مشهد روحاني يستمد عناصره من المخيال الديني :--
( هنا ...
رائحةُ البخورِ تمزّقُ وحدةَ الريح
تعلو النذورُ ...ويهبطُ اليمام )
فيسند النص فعل التمزيق لرائحة البخور التي تبدد وتفرّقُ الريح بفعل العلو لتصل الىٰ اليمام الذي يشعر بالأمان فيهبط إلى الأرض بسلام ، وتستمر الذات الشاعرة في إشراك عدد ٱخر من الموجودات الموضوعية ليدخل في علائق مجازية عبر انسنتها ، ففي السطور القادمة يسند النص النخلة وهو واحد من الرموز الراكزة في الذاكرة الجمعية والدينية لما تشكّله من مصدر غذائي أساسي في بلاد وادي الرافدين فيسند إليها فعل لبس لامة الحرب لتسهم في الحرب الدائرة ضد قوىٰ غير منظورة على مستوىٰ سردية النص :--
( ونخلتُنا البتولُ
تبدو من بعيد كطفلةٍ تلبس لامة الحرب
وتمسكُ بيدها عشبة الخلود
أو كزهرةٍ في زيّ محاربٍ
انتهىٰ عصرُ فتوّتِها ليمارسَ عليها الموت طقوسَ التّجلي )
كما وتشركُ الذات الشاعرة موجودا نباتياً ٱخر وهو (الزهرة) ليسندَ لها لبس زي الحرب ، إلّا أنها لاتقوى علىٰ فعل الحرب لشيخوختها لتتعالق مع الموت في طقس صوفي ، ويدخل النص في علاقة تناصيّة مع القرٱن الكريم وتحديدا مع الٱية 261 من سورة البقرة ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كلّ حبة مئة سنبلة ...) فالزهرة قضت نحبها وهي تدافع عن فعل الخير الذي كان يقوم به ابُ الذات الشاعرة :-
( قضت وهي تذود
عن شرف سبع سنبلات خضرٍ
هنَّ كلُّ ما رٱه أبي )
ففي النص السالف (هل تكتم السر؟) تعالقات الذات الشاعرة مع ثلاثة أنواع من الموجودات تعالقاً مجازياً ، إذ أسند الأفعال والاقوال الإنسانية إلى الحيوان والنبات والغيم ، لتسهم كلّ هذه الموجودات الموضوعية عبر الأنسنة في الحرب ضد قوىٰ شريرة لم يشأ النص الإخبار عنها تحديدا ليمارس النص فعله وتأثيره الشمولي .
وفي النص الثالث (متّهمٌ بالهديل) ص46 تتعالق الذات مع الموجودات تعالقاً يمنح تلك الموجودات طاقة شعرية تسفر عن تخليق المعاني المتجاوزة للحس المنظور صوب بنائية شعرية تفصح عن المضمر حين تكتسب تلك الموجودات الصفات الإنسانية قولاً أو فعلاً وحتىٰ مشاعراً ، وبدءاً من العنوان (متّهم بالهديل) الذي يشير الىٰ تعالق معكوس بين الذات والحمام عبر إسناد فعل الهديل إلى الذات الانسانية ، واكتساب صفة الحمام الصوتية (الهديل) ليبوح ماشاء له البوح للتعبير عن حالة الأسىٰ التي انتظمت كل مساحة النص ، ويمكن حصر الموجودات المؤنسنة التي أسند إليها النص أفعالاً ومشاعراً إنسانية و تعالقات مجازياً مع الذات الشاعرة في الٱتي : كالأزقة/ العباءات/ الماء/ الكف /الحروب ، إذ أسهمت أنسنة الموجودات الٱنفة الذكر في تفعيل علاقة الذات مع الموضوع تفاعلاً مكّنَ النص من تخليق بُنىٰ متعددة شكّلت بمجموعها رؤية النص لما يجري في باطن الواقع / المضمر ، فإسناد (الدفء) لتشعر به الأزقة إشارة الىٰ براءة وأصالة الأزقة التي استشعرتها الذات الشاعرة كأساس ومرجع لبناء الشخصية منذ الطفولة ، كما أن إسناد مشاعر الٱحساس بالخجل من الفقر للعباءات السود واكتسابها اللون الأحمر لأنها أصبحت باليةً وقديمة ، وكذلك إسناد فعل المرور ونثر القتلىٰ علىٰ عتبات البيوت للحروب ووفق سياقات مجازية قد اكسبت تلك الصور الشعرية قيمة بلاغية مؤثرة وتعالقت مع الذات الشاعرة لتحقيق طبيعة الصلة القائمة بين الإنسان وهذه الموجودات المؤثرة في تفاصيل حياته :-
( لذكرى الأزقة الدافئة ..
للعباءات السود المحمرة خجلاً ...
للحروب التي مرت من هنا
ونثرا قتلاها على عتبات البيوت ... )
كما أن إسناد فعل الإستيقاظ للماء إشارة إلى بنية الجدب واليباس الحياتي ، وتأخر استيقاظه وظهور التحول بسبب من أن الكف التي تنز بالماء لاتزال نائمة في كربلاء في إشارة الىٰ معاناة الإمام الحسين عليه السلام وٱل بيته من شدة العطش :--
( متىٰ يستيقظ الماء ؟؟
ربما بعد حين
لأنّ الكفّ التي تنز عطشاً
للٱن تنام في كربلاء )
لقد تمكن النص عبر أنسنة الموجودات الموضوعية التي أشرنا إليها من تحقيق شمولية الوضع الإنساني المزري والمتعطش دوما إلى حياة أُخرى بديلاً لهذا الجدب والتصحّر الحياتي . إذ أن الموجودات التي اختارتها الذات الشاعرة وعبر انسنتها هي موجودات ذات صلة وثيقة بالذات التي تحولت إلى توق انساني شامل للنضال ضد عوامل القهر لإقامة حياة إيجابية وإنسانية .
من خلال ماتقدم من بحث في العلاقة بين الذات الشاعرة والموجودات الموضوعية عبر خاصيّة الأنسنة في نصوص ديوان (اغاني الصموت) للشاعر العراقي ولاء الصواف ، إذ لم يتوقف البحث عند تأشير مواطن الأنسنة في النصوص وانما تجاوز ذلك الىٰ جوهر السؤال النقدي وهو الكيفية التي تم فيها ذلك التعالق وأثر المجاز في هذه العلاقة وهو ما اكسب النصوص شعريتها ؟ وكذلك نوعية الموجودات ومناسبتها لتحقيق المجاز في تلك العلاقة ، إذ تمكنت النصوص من الوصول إلى تخليق الفضاء الشعري الذي تحركت فيه تلك الموجودات من نبات أو حيوان أو جماد أو أشياء معنوية تجاوزت الحس والمنظور واكتسابها الفعل والقول الإنساني عبر ٱلية المجاز لتسهم وعبر العلاقة مع الذات الشاعرة في تحقيق رسالة النصوص أولاً ولإلفات النظر إلى أهمية هذه الموجودات المجاورة لوجود الانسان علىٰ هذه البسيطة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى