د. أحمد الحطاب - فلسطين والكيلُ بمِكيالَين

غريبٌ أمرُ هذا العالم! الإنسانية وقِيمُها لم تعد فيهما ذرةٌ من الإنسانية. اختفى العدلُ ورفيقُه الإنصافُ. واعتلى هرمَ الإنسانيةِ الظلمُ والكراهية. كل القيم الإنسانية السامية، الحامِلة للأخلاق النبيلة، دُفِنَت في مقبرة النسيان وتم اختزالُها في قيمة أو مبدأ واحد أوحد : البقاء للأقوياء، كما قال ذلك، في القرن السابع عشر، Jean de La Fontaine : "حجَّة القوي هي دائما العليا" la raison du plus fort est toujours la meilleure.

البقاء للأقوياء، أي، بالتَّدقيق، للعالم الغربي وعلى رأسِه الولايات المتَّحدة. العالم الغربي الذي فرض نفسَه على باقي العالم بقوَّتِه المعرفية، التَّعليمية، العلمية، التكنولوجية، الاقتصادية، العسكرية…

لكن الأقوياء الذين يتشبَّهون، شيئا ما، بفرعون الذي قال عنه سبحانه وتعالى في سورة النازعات: فَحَشَرَ فَنَادَىٰ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (النازعات، 23 و 24)، أي جمع قومَه وقال لهم أنا ربُّكم الأعلى في تحدٍّ واضح لوحدانيتِه جلَّ جلالُه.

لكن أقوياء هذا العصر، خلافا لفرعون الذي كان لا يُخفي شِركَه بالله، يعاملون باقي العالم بوجهين أو، بعبارة أخرى، يكيلون بمكيالين.

وجهٌ كله قيمٌ إنسانية سامية مستندةٌ إلى مواثيق دولية، هي الأخرى، إنسانية. وجهٌ يستعملونه لتخدير العقول وتنوِيمها وتهدئتِها وجعلِها تثِق في حسن النوايا. وجهٌ يتشدَّقون به في المنابر الدولية، الخاصة والعامة، وفي الخطب الأممية وفي الدساتير وفي التَّقارير المصاغة من طرف المؤسسات والهيئات الأممية الإنسانية.

وجه آخر يكشِف عنه هؤلاء الأقوياء كلما شعروا أن ضرراً مُحدِق بمصالحِهم الجيوسياسية والجيوستراتيجية. حينها، يختفي وجهُ الإنسانية، بل يتمُّ تجاهُلُه تجاهلاً صارِخا أو، كما نقول في لهجتِنا الدارجة : "عْلَا عَيْنْكْ يا بنعدِّي"، أبى مَن أبى وكره مَن كره. حينها، تكون السيادةُ لِلُغة القوة والقوة فقط وحصريا. قوةٌ يُرادُ من ورائها تخويف الطرف الآخر وجعله يحسب ألفَ حساب لأقواله وأفعاله. هذه هي حقيقة العالم الغربي ذي الوجهين المتناقضين.

عالمٌ غربي منافق، جائر وغير عادل. همُّه الوحيد هو بسط سيطرتِه على باقي العالم. عالمٌ غربي يريد أن يقودَ العالمَ إرضاءً لمصالحِه. ولا يهمُّه أن يكونَ منافقا، ظالِما وغيرَ عادلٍ، ما داما هذان الظلمُ والنفاقُ يحققون مطامحَه الجيوسياسية والجيوستراتيجية. عالمٌ غربي لم يتخلَّص بعد من نظرتِه الفوقية الاستعمارية.

لو كان العالم الغربي عادلا ومنصِفا، لَما انتهت الحروب منذ زمان، ولَما اشتكى العالمُ اليوم من تغيُّر المناخ، ولَما تحقَّقت الأهداف السبعة عشر للتنمية المستدامة les 17 objectifs du développement durable، ولَما زُرِعَتْ إسرائيل في قلب العالم العربي ولما نفَّدت هذه الأخيرة قرارات مجلس الأمن، ولَما قُضِيَ على الفقر، ولَما…

والعالمُ الغربي لن يكون أبدا عادلا ومنصفا ما دام له وجهان : وجهٌ أول يميل إلى الحق والعدل و وجهٌ ثاني يحدف الوجه الأول بمجرد تضرُّرِ مصالحِه.

لوكان العالم الغربي عادلا ومنصفا، لَما اعتبر ما تقوم به إسرائيل من قتل ونهب واستيطان وتعسُّف واعتداء على الأبرياء وهدمٍ للبيوت واقتحامٍ للمسجد الأقصى…، حلالاً، وما تقوم به حماس والفلسطينيون حراما.

لوكان العالم الغربي عادلا ومنصِفا، فهل كان سيقف إلى جانب إسرائيل بدون قيدٍ أو شرطٍ أو هل ستحظى هذه الأخيرة بالدعم اللامشروط لهذا العالم؟

ثم لماذا اعتبر العالمُ الغربي هجومَ روسيا على أوكرانيا عملاً غير قانوني وغير أخلاقي بينما هجومُ إسرائيل على الضفة الغربية وعلى غزة وعلى الفلسطينيين، داخل وخارجَ فلسطين، دفاعاً عن النفس، وفي أحسن الحالات، يحوم حوله الصمتُ؟

ولماذا قنوات الإعلام الغربي، بدون استثناء، وقفت، إلى حدِّ الآن، إلى جانب إسرائيل وأدانَت ما قامت به حماس؟ ولماذا لم تُدِنْ هذه القنوات، في الماضي، اعتداءَ إسرائيل على المدنيين العُزَّل أثناءَ الانتفاضات؟ ولماذا سارعت هذه القنوات بإدارة ما قامت به حماس؟ يا للغرابة ويا للعجب! ما هو مُحلًّلٌ على إسرائيل، مُحرَّم على حماس!

ولماذا تسابقت دولُ العالم الغربي لإدانة هجوم روسيا على أوكرانيا ولم ولا تُحرِّك ساكنا إزاء جرائم إسرائيل. وإن أدانت، تكون الإدانةُ مخفوفةً بالتَّحفُّظ وكثيرٍ من الاحتياط؟

ولماذا يُغرق العالمُ الغربي إسرائيل بالأسلِحة المدمِّرة ويُتيح لها الفرصة لتُنتِجها في مصانِعها بينما تُتَّهم، بهتانا وظُلما، بلدان عربية وإسلامية بتوفُّرها على نفس الأسلحة؟

إن كان العالم الغربي عادلا ومُنصفا، لماذا لا يُوقِفُ هجومَ إسرائيل (وهو قادرٌ على ذلك) وإبادتِها للفلسطنيين المَدَنيين في غزة؟ أو لماذا لم يلجأ العالمُ الغربي لوجهه الأول، المرتبط بالحق والعدل، للوقوف وقفةً صارمةً ضد إبادة إسرائيل للمدنيين في غزة؟

إن كان عادلاً ومُنصِفاً، فلماذا لم يُقرِن العالمُ الغربي وجهَه الأول بتفوُّقَه في شتى المجالات لتقوية قدرات باقي العالم؟

العالمُ الغربي لن يكونَ عادلا ومنصِفا ما دام يرى باقي العالم بمنظار مصالحِه الجيوسياسية والجيوستراتيجية. حينها، يصبح باقي العالم هذا حديقةً خلفِيةً يسيِّرها كما يريد وحسب ما تُمليه عليه مصالحُه بشتى أنواعِها.

اللهم إذا حدثت معجزة في قلب العالم العربي الإسلامي، وهو الشيءّ الذي يتطلَّب زعزعةَ الطبقة السياسية والمهيمنة على السلطة، رأساً على عقبٍ.

العالم الغربي سيبقى هكذا ممارِسا للكيل بمكيالين ما دام لم يجد أمامَه عالما عربيا وإسلاميا قويا بتضامُنِه وبشعوبٍِ مُحصَّنةٍ اجتماعيا، اقتصاديا وثقافيا. عالمٌ عربي وإسلامي يحتل الصدارة في التًّصنيفات العالمية، وخصوصا، في مجالات الصحة والتربية والتَّعليم والإنتاج العلمي والتكنولوجي والاقتصادي. عالمٌ له مكانتُه الجيوسياسية والجيوستراتيجية. عالمٌ قد يدفع إسرائيل إلى الاختفاء من تلقاء نفسها أو، على الأقل، تبنِّي مواقف تستدعي منها التفكيرَ جيدا في مبادئ حسن الجوار والتَّساكن والتَّعايش.

إننا نعيش في عالم الأقوياء! إما أن نتقوَّى مثلهم أو أكثر، وإما، لا قدَّرَ اللهُ، أن نرضخَ لأمر الواقع كما هو الشأن حاليا. وعندما أقول "نتقوَّى"، فالأمر لا يتعلَّق فقط بالقوة العسكرية. بل يتعلَّق الأمرُ بالقوة بمعناها الواسع، بالأخص، في مجال الاقتصاد.

وخير مثالٍ يمكن سياقُه في هذا الصدد، هو الصراع القائم بين الولايات المتَّحدة والصين. إنه صراعٌ اقتصادي بامتياز! والاقتصاد هو الذي أدى إلى خلق مجموعة السبعة G7 ثم مجموعة الثمانية G8 ثم مجموعة العشرين G20 وكذلك مجموعة ال"بريكس" BRICS.

ياعرب ويا مسلمين! كفى من هدر الزمان السياسي! وكفى من الاصطفاف في خنادق التَّبعية! العرب والمسلمون بشرٌ! والعالم الغربي بشرٌ! لهم عقول ولنا عقول! فلنٌحسِنْ استعمالَها بإرادة قوية كما فعلوا ويفعلون!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى