رايفين فرجاني - التراث

في تقسيمي للتراث قرّنت التصنيف بما وضعه علماء الإنسان عن الكليات الخمسة الحاوية والناظمة لمظاهر الحياة الإنسانية؛(الجسد والحضارة واللغة والسلوك والثقافة).

اللغة هي سلوك اضطراري يوحد بين جميع البشر لأنه وسيلتنا الرئيسية للتواصل,وبمقتضى ضرورة الإتصال نميز أن الإنسان كائن عاقل,يلزمه تكوين هذه الأفكار التي يريد أن يعبر عنها من خلال اللغة. ثم هناك السلوك البشري الذي لا ينعزل عن استمرارية مميزة للحياة البشرية,بما فيه من تنوع وقدرة على توليد المزيد من السلوكيات (ومن ذلك السلوك اللغوي والقدرة على تخليق لغات ولهجات جديدة). يمكن النظر إلى الآثار على أنها الصورة الوحيدة الثابتة للتراث. إلا أن التراث,في أصله,يقوم بتثبيت المظاهر البشرية في صور ثابتة. يمكننا تقسيمها إلى مجموعتين كبريتين هما الأفكار والآثار.

بالرغم من أن الرؤية الحديثة للتراث والتراث العربي,تقارب في طرحها تنظيرات فلاسفة الحداث عند الغربلكن بدلا من هدم أو ردم التراث في قطيعة مزيفة له,يتم معالجة مقولاته لإعادة إحياء التراث كلية,واستخدام بعض مقولاته,وترك البعض جامدة كما هي. ونتأمل فنرى أن الحداث ما هو إلا تراث فيما بعد الحداث.

ويلزمنا عند الحديث عن التراث,بشكل منهجي,المرور على الثوابت قبل الوصول إلى المعالجات الحديثة. ونبدأ أولا بالثوابت

ومنها التقسيم الشائع للكليات الخمس (الجسد / الحضارة / اللغة / السلوك / الثقافة),والذي استمدينا منه تقسيم السابق للتراثيات إلى (التصورات / الآثار / النص والصورة / الأعراف / الأفكار),وقد عالجنا هذا التصنيف ثانية فقسمنا التراثيات إلى

1-الأفكار: (التصورات والسلوكيات)

2-الآثار: (الجسد, والمعمار, والنص)

وأنا لم آت بجديد في هذا التقسيم,الذي يتبعه تقريبا أغلب الدارسين والمعنيين بالتراث "إن ثورية الموقف من قضايا الحاضر,تستلزم الانطلاق من هذا الموقف نفسه لرؤية التراث,أي لمعرفته معرفة ثورية,أي لبناء هذه المعرفة على أساس من أيديولوجية القوى الثورية نفسها في الحاضر. أي القوى التي لها علاقة تاريخية موضوعية بالأساس الاجتماعي لإنتاج التراث الفكري في الماضي,نعني بها القوى الاجتماعية السابقة المنتجة للأسس المادية التي انعكست في أشكال الوعي الاجتماعي (الفلسفة,العلم,الأدب,الفن) المكونة لهذا التراث -وهذا لا يعني بالضرورة التطابق كما نفهمه بشكله التقليدي التبعي. إن بناء معرفة التراث على هذا الأساس الأيديولوجي ليس أمرا نفرضه نحن على الواقع قسرا,أو نفترضه بالنظر التجريدي المحض,وإنما هو من طبيعة الواقع نفسه. فإذا نحن استقصينا أشكال معرفة تراثنا الفكري عند كل من حاول النظر فيه: تأريخا,أو تفسيرا,أو دراسة,في مختلف العصور المتأخرة عن عصره,فسنراها أشكالا متعددة: بعضها يتخالف وبعضها يتناقض وبعضها يتشابه. فكيف نفسر هذه الظاهرة؟ كيف تختلف معرفة التراث عند هذا المؤرخ وذاك,أو عند هذا المفسر وذاك,أو عند هذا الباحث وذاك,في حين أن النتاج الفكري التراثي هو هو,كواقع تاريخي له صورته الثابتة,له نصوصه المتجمدة الموروثة للأجيال اللاحقة,ما انكشف منها لنا وما لم ينكشف بعد؟.

لتفسير هذه الظاهرة ينبغي -أول الأمر- أن نلحظ الفارق بين التراث نفسه ومعرفة هذا التراث,أي أن نلحظ أن أمامنا في المسألة شيئين,لا شيئا واحدا. هذا يعني أن معرفة التراث إضافة خارجية ترد إليه من مصادر متعددة. لهذا هي تتعدد وتختلف,وهو واحد لا يتغير. فما دام الواقع المشهود يضع أمامنا أشكالا متعددة مختلفة لهذه المعرفة,فلا بد أن الذين ينتجون هذه الأشكال المعرفية عن التراث يختلفون بشيء ما بعضهم عن بعض".

[31]

حيث تعد الأفكار هي الأصول الذهنية المكونة للآثار قبل تكونها,وبعض الأفكار لازالت حية بشكل نابض,أي متحرك,أي أنها ليست أفكارا مقولبة بقدر ما هي ممارسات يتم فعلها إتباعا أو تعبيرا عن هذه الأفكار. لذا يمكننا مثلا النظر إلى الأعراف بوصفها الآثار السلوكية لبعض الأفكار المهيمنة على شريحة مجتمعية ما.

يمكننا الآن تقسيم الأفكار التراثية إلى ثلاثة مجموعات

1-التصورات: وهي الأفكار النفسية المتولدة تجاه شيء ما,وعادة تكون قرينة بالجسد.

2-الأعراف: وهي الأفكار الإجتماعية المتولدة تجاه سلوك ما. ولا تبتعد كثيرا عن الجسد.

3-الأفكار: وهي الأفكار المولدة لأفكار أخرى,إنها نظمنا المعرفية الراسخة.

بغض النظر عن صوابية كل هذه الأفكار أو خطئها.

ونخصص هذه المقالة للحديث قليلا عن التصورات

التصورات
أحاول هنا أن أطرح رؤية تراثية أوضح فيها العلاقة بين التصورات النفسية (التي لا تخلو من أبعاد إجتماعية وثقافية) للإنسان,وجسد هذا الإنسان.

وأول ما يحضر في الذهن هو الجسد,وبعد الجسد (الذي تظل صوره حاضرة في العديد من التمظهرات نتناولها آتيا) تنبثق عن الذهن تصورات عن النفس بوصفها ذاتا. وفق محددات عديدة لهذه الذات,مثل

-المال

-المستوى الإجتماعي

-التحصيل العلمي

-مفهوم الإنسان (أو الرجل في المجتمع الشرقي)

في الواقع,هناك محددات عديدة هي الفوارق الإجتماعية المختلفة,ومن (أنواع التفرقة) الشائعة نذكر

-الهوية (الذات / الآخر)

-الجندر (الرجل / المرأة)

-العرق (الأوروبي / العربي)

-الجنسية (عربي / أجنبي)

-اللون (الأبيض / الأسود)

-الثقافة (راقية / شعبية)

-العمر (صغير / كبير)

-العقل (التفكير / التدبير)

-المال (غني / فقير)

ولكن الآن لنركز قليلا على تأثير الجسد ودوره في صنع بعض أهم المجموعات من التصورات,فنلحظ أن تصوراتنا في الحياة,ربما لا تخرج في أشد بدائيتها وتقوقعها داخل أطر ضيقة,عن الآتي

-الجسد

-الذات

-الآخر

-المرأة

-الرمز

-المكان

-الموت

[1] الجسد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أول ما يرتبط به الإنسان هو الجسد الذي يشكل المحطة الأولى لحياته (جسد أمه) ويكتنف جميع حواسه,وثاني جسد يرتبط به هو جسده,دون انفصال عن جسد أمه في البداية منذ أن كان في رحمها. [32] ولكن يحدث الإنفصال بشكل تدريجي,ويجد الطفل في جسده بدائل عن أغراضه من جسد أمه. فيلقم إصبعه بعد أن حرم من ثدي أمه. إصبعه هو أقرب شيء إليه بعد مفارقة الحلمة.

وتعد المخيلة واحدة من أوائل العمليات العقلية التي يمرّ بها الطفل,المخيلة هي المنطقة التي تنشط فيها عمليات الإحساس,والتذكر,والتخيل,والتصور. الإحساس هو إستقبال المحسوسات عبر الحواس إلى الذهن. ومنها الصور التي يألفها الطفل أو يتعرف إليها مع الأصوات. (حيث تكون الصور والأصوات من أقوى المؤثرات الخارجية بعد ملامسة الجسد). ثم التذوق فالرائحة. بعد إلتقاط الصور,يتفعل نشاط الذاكرة,فيتعرف على وجوه ألفها بالفعل. والتخيل هو تنشيط صور مشوهة عن شيء يجهله (لهذا ربما يخاف الطفل من الظلام). ومن التخيل يأتي التصور,الذي قد يكون تخيلا مشابه للتذكر مسترجعا صورا من الماضي. أو تصورا لشيء محتمل أو مرتقب مخلقا صورا من المستقبل.

التصور هو استحضار صورة للعقل دون مرئاه للعين[33]

ولكن الجسد يظل حاضرا بشكل دائم أمام البصر والبصيرة. لهذا تعد المكتشفات الجنسية من أوائل مكتسبات الطفل في رحلته نحو التعلم فيما حوله. لقد أكد فرويد أن مص الإصبع أو عبث الطفل بعضوه الحساس ما هي إلا أنشطة جنسية مبكرة.

تستمر التصورات النفسية للإنسان الفرد تتطور مع اختلاطها بالعديد من الشوائب الإجتماعية مكونة مفاهيمه الشخصية عن طبيعة (الإنسان السوي وغير السوي).

[2] الذات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من ضمن مهملات الإنترنت,حيث العديد من النصوص والأفكار والأشياء بلا اسم أو مالك أو مصدر,قابلتني صورة بصيغة (JPG) تحمل هذا النص كأنه منشور فيسبوكي:-

"أما وقد هدأت العاصفة قليلا -هو هنا يتحدث عن موجة إعلامية ما (تريند Trend) علق هو بدوره على أحداثها- فالشواذ ليسوا فقط هؤلاء المتبجحين الذين رفعوا أعلامهم في حفل غنائي وأساءوا إلى كل الذين حضروا وجعلوها حفلة للشواذ وليست للغناء!,لكن الشاب الجالس ببرود واضعا السماعات في أذنيه ويترك سيدة عجوزا تتكئ على حديدة المترو لتسند ظهرها المتعب (شاذ),وذاك الذي يتحرش بفتاة بكلمة أو همسة أو حتى نظرة (شاذ), وسائق الميكروباص الذي يتفحص البنات بنظراته ويؤذيهن بمفرداته (شاذ),ونحن إن رأينا وسمعنا كل هذا ولم ننطق ولم نعترض ونحاول التصحيح (شواذ),وإن أجبرنا السائقون على الاستماع لخطبة دينية أو قداس كنسي فنحن كذلك".

مفهوم الذات يتداخل مع مفهوم آخر هو (الإنسان).

ينظر أيضا بقيته في (نص غير مكتمل), أو ربما عنوان آخر.

[HR][/HR]
[31]النزعات المادية في الفلسفة العربية / حسين مروة / الفارابي,ص 20-21.
[32]فكرة ارتباط الذهن بالجسد (الذات أو الأم) هي فكرة يؤيدها كبار الفلاسفة أمثال فرويد ومن قبله توماس هوبز. ولا يوجد ما يدحضها في العصر الحديث.
[33]انظر مقالة في تعريف التصور الذهني.
http://educapsy.com/etudes/conception-mental-205

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى