يعيش العم سعيد وحيدا في منزله الجاثم هناك عند أطراف القرية، حيث يلوح ،في الأفق، ببنايته السامقة وسط فضاء واسع، بمنأى عن كثافة العمران... عند ٱشتداد الحر، يخرج العم سعيد من غرفته،في كل صباح، ليستريح امام المنزل، تحت شجرة توت كبيرة، وارفة الظل .
يجلس فوق كرسيه الخشبي العتيق محتسيا قهوته في هدوء. يتلقى، في تلك الأثناء، ٱتصالا من ٱبنته صفاء، البعيدة عنه، في إحدى جامعات المدينة :
" ألو، بابا، انت بخير ؟
- لابأس والحمد لله . وأنت؟
- أنا لابأس. إعتن بنفسك !
- إطمئني. الله معنا . أتمنى لك التوفيق يا ٱبنتي ! "
لقد دأب على ذلك الإيقاع اليومي، منذ أن رحلت زوجته وشريكة حياته قبل عشر سنوات، لتتركه سابحا في لجة الوحشة والفراغ..
يعتريه سعال شديد، بين الفينة والأخرى، يضغط على صدره ويكاد أن يقطع أنفاسه. تمضي بضع ثوان، تمر بعدها موجة الكحة العنيفة، فيستريح قليلا، ثم ما يلبث أن يعتدل في جلسته، ويعود لترشف قهوته على مهل..
تسحبه الذكريات فيغوص في بحرها العميق... يقف على أطلال ماضيه الحافل بالعمل الجاد والنشيط في أداء وظيفته الإدارية التي ٱمتصت، من عمره، عقودا من الزمن ... كان مواظبا في شغله، وفي ذات الوقت، كان مهتما بتربية ٱبنته الوحيدة صفاء؛ يتابع بعناية نتائجها المدرسية، لا يتأخر على الإيفاء بتعهداته تجاهها، مغدقا عليها من مهجة قلبه ينابيع المحبة والحنان. دارت الأيام دورتها السريعة، وما لبثت صفاء أن حلقت بعيدا عن الديار، مواصلة دراستها الجامعية العليا، خارج الوطن. هكذا هي صفاء ، طموحة بطبعها، لاتفتأ تطارد أحلامها بإرادة صلبة، وعزم لا يلين . يمر الزمن... يلقي السقم بثقله على جسم العم سعيد، فيضعفه وينهك قواه...
وفي ليلة دهماء، هبت رياحها هوجاء، غاضبة، مولولة تبث أحزانها في كل زاوية ...إنتابت السقيم نوبة سعال حادة لم يستطع الفكاك منها حتى أخمدت أنفاسه...
وتتعاقب أيام يغيب فيها مشهد العم سعيد ، جالسا يحتسي قهوته في ظل شجرة التوت الوارفة، مناجيا وحدته وذكرياته القديمة... ويأتي المساء مجرجرا أذيال حزنه الثقيل في ذلك المكان الذي خلا من الأصوات إلا من نباح كلب متقطع، أجش، يكسر جدار الصمت المستفيض...
الهادي نصيرة | تونس
يجلس فوق كرسيه الخشبي العتيق محتسيا قهوته في هدوء. يتلقى، في تلك الأثناء، ٱتصالا من ٱبنته صفاء، البعيدة عنه، في إحدى جامعات المدينة :
" ألو، بابا، انت بخير ؟
- لابأس والحمد لله . وأنت؟
- أنا لابأس. إعتن بنفسك !
- إطمئني. الله معنا . أتمنى لك التوفيق يا ٱبنتي ! "
لقد دأب على ذلك الإيقاع اليومي، منذ أن رحلت زوجته وشريكة حياته قبل عشر سنوات، لتتركه سابحا في لجة الوحشة والفراغ..
يعتريه سعال شديد، بين الفينة والأخرى، يضغط على صدره ويكاد أن يقطع أنفاسه. تمضي بضع ثوان، تمر بعدها موجة الكحة العنيفة، فيستريح قليلا، ثم ما يلبث أن يعتدل في جلسته، ويعود لترشف قهوته على مهل..
تسحبه الذكريات فيغوص في بحرها العميق... يقف على أطلال ماضيه الحافل بالعمل الجاد والنشيط في أداء وظيفته الإدارية التي ٱمتصت، من عمره، عقودا من الزمن ... كان مواظبا في شغله، وفي ذات الوقت، كان مهتما بتربية ٱبنته الوحيدة صفاء؛ يتابع بعناية نتائجها المدرسية، لا يتأخر على الإيفاء بتعهداته تجاهها، مغدقا عليها من مهجة قلبه ينابيع المحبة والحنان. دارت الأيام دورتها السريعة، وما لبثت صفاء أن حلقت بعيدا عن الديار، مواصلة دراستها الجامعية العليا، خارج الوطن. هكذا هي صفاء ، طموحة بطبعها، لاتفتأ تطارد أحلامها بإرادة صلبة، وعزم لا يلين . يمر الزمن... يلقي السقم بثقله على جسم العم سعيد، فيضعفه وينهك قواه...
وفي ليلة دهماء، هبت رياحها هوجاء، غاضبة، مولولة تبث أحزانها في كل زاوية ...إنتابت السقيم نوبة سعال حادة لم يستطع الفكاك منها حتى أخمدت أنفاسه...
وتتعاقب أيام يغيب فيها مشهد العم سعيد ، جالسا يحتسي قهوته في ظل شجرة التوت الوارفة، مناجيا وحدته وذكرياته القديمة... ويأتي المساء مجرجرا أذيال حزنه الثقيل في ذلك المكان الذي خلا من الأصوات إلا من نباح كلب متقطع، أجش، يكسر جدار الصمت المستفيض...
الهادي نصيرة | تونس