السي حاميد اليوسفي - وشم في الذاكرة: كرة القدم

ابتليت كباقي أطفال الحي بكرة القدم. أحببت الكوكب المراكشي، وكان الأطفال ينسجون حولها الأساطير ، فأصبحت أتابع مباريات الفريق عبر الإذاعة أيام الآحاد. بدأ ذلك في نهاية الستينات من القرن الماضي. بعض الأطفال الأكبر سنا مني يحكون بغرابة عن الحارس الأسطورة الملقب ب (المش) أي القط الذي يمنع الكرات كيف ما كان نوعها من الدخول الى الشباك. سمعت منهم أنه تحدى مرة خصومه، فأتوا بمدفع، ووضعوا في فوهته الكرة، وأطلقوها في تجاه المرمى. ارتمى عليها (المش).. منعها من الدخول.. ومن شدة قوة القذف بواسطة المدفع، بقيت الكرة تدور بين يدي الحارس حتى مزقت بطنه، وسقط شهيدا أمام المرمى، و لم تدخل الكرة إلى الشباك. وكنا نسخر أحيانا من الراوي ونقول له:
ـ (أ غنس أ المامون)*
ورغم ذلك لم أتقبل فكرة وفاة الحارس (المش) الذي أحببته في الخيال، ولم يسبق لي رؤيته في الواقع. كنت أتمنى أن تتمزق الكرة، أو تصعد إلى أعلى، ويبقى (المش) على قيد الحياة، ولكن الراوي كان له رأي آخر.
ساعلم فيما بعد بأن الراوي كان يكذب، ويبالغ ليزيد من دهشتنا وحماسنا للاعجاب بالحكاية..
لن أنسى كاس العالم بمكسيكو 1970. لم نكن نملك تلفازا في البيت.
أجهزة التلفاز نادرة، ومرتفعة الثمن في هذه الحقبة. والعديد من المنازل لم تدخلها الكهرباء بعد. كانت السلطات تضع جهاز تلفزيون إما في بيت عون السلطة (المقدم)، أو في مكان عمومي بالحي، يسمح للناس ليلة كل خميس بمتابعة سهرة ام كلثوم.
اجتمعت العائلة بكاملها في بيت كبير العائلة. أخرج عمي التلفاز من الغرفة التي يتناول فيها الطعام، وينام فترة القيلولة، ووضعه وسط الدار في مكان يسمح للجميع بمشاهدته. أزاح عنه الستار الذي يغطي شاشته، وأوصل خيطه بالكهرباء ثم اشعله.
الكبار يفترشون لحافات، ويتكئون على وسائد، أو يضعونها بين ظهرهم وبين الحائط. الصغار يجلسون فوق (الزليج) مباشرة، ويتحدثون بأصوات منخفضة حتى لا ينزعج الكبار. النساء انتهين من تقديم وجبة العشاء، وجمعن الأواني، وجلسن بجانب الرجال يتبادلن الحديث فيما بينهن. فارق التوقيت بيننا وبين المكسيك حوالي ست ساعات. أولى مقابلات الفريق الوطني مع المانيا أكبر الفرق العالمية آنذاك مبرمجة في وقت متأخر من إحدى ليالي شهر يونيو.
لم أنم ليلتها. أول مباراة في كرة القدم سأشاهدها في التلفزيون. كم اهتز البيت فرحا عندما سجل اللاعب حمان البيت الاول في شباك الالمان. وعادت صورة الحارس (المش) مع علال ووقوفه سدا منيعا في وجه مهاجمي الالمان. لم تدم فرحتنا بالانتصار طويلا عاد الالمان من بعيد، وانهوا المباراة في الشوط الثاني بهدفين لواحد. رغم صغر سننا كم استغربنا لهذه التكنولوجيا التي ساعدتنا على الاستمتاع بمباراة جميلة تشد الأنظار، تدور رحاها في بلاد تبعد عنا بآلاف الكيلومترات، ويفصل بيننا وبينها المحيط الأطلسي.
في بداية السبعينيات أصبح جارنا، وصديق الوالد رحمهما الله حارسا لملعب الحارثي. وكان يطلب من الوالد ان يرسلني رفقة ابن عمتي لمتابعة مباراة الكوكب المراكشي يوم الاحد.
كنا نستيقظ باكرا، ونتناول فطورنا، ونأتي إلى بيت سي عبد الرحمان. ورغم ذلك نجد صعوبة في الوصول الى الباب الذي تفصلنا عنه الحواجز والقوات المساعدة والشرطة. وهم يستعدون للإحاطة بالملعب، ومنع كل من لا يتوفر على تذكرة، أو ترخيص من دخوله. الحصول على التذكرة في ذلك الوقت كان بينه وبين المتفرج سبعة نجوم. عليك أن تأخذ الصف، وتنتظر دورك، وكلما اقتربت من الشباك اشتد الزحام. قد تتدخل الشرطة، أو القوات المساعدة لفك هذا الزحام. وفي هذه الحالة ستكون محظوظا اذا لم تعد إلى الحي، وأنت تتألم من تأثير رسم خطوط حمراء أو زرقاء لسوط جلدي على ظهرك أو فخذك.
نقف وننتظر حتى يظهر أحد أبناء سي عبد الرحمان، وهو يهم بدخول البيت، فننادي عليه بأعلى صوتنا .
يأتي إلينا، ويساعدنا على تجاوز الحواجز. ونبقى مختفين داخل البيت حتى يقترب وقت المباراة، وتبدأ مدرجات الملعب في استقبال الجمهور. بعد تناول وجبة الغذاء، نتسلل رفقة أبناء سي عبد الرحمان الى المنصة القريبة من الحديقة الموجودة أمام البيت.
اللاعب الاشهب راس الحربة الذي اشتهر بضرباته الرأسية، كم كان يضحكنا أثناء انتظاره لضربة ركنية، وهو ينزل السروال لخصمه دون أن يراه الحكم، ويقفز بمفرده إلى أعلى لركن الكرة برأسه في الشباك.
بدأ فريق الكوكب المراكشي في هذه الفترة يتقهقر، ويتراجع مستواه عما كان عليه في الستينات عندما فاز بكاس العرش ثلاث مرات متتالية، وكان آنذاك من الفرق المخيفة.
آخر عهد لي بملاعب كرة القدم في أواسط السبعينات، عندما قدمت إلى الشباك لاقتناء تذكرة الدخول إلى الملعب المجاور للملعب الذي كان مخصصا للكرة المستطيلة، ولم أشعر حتى قفزت من مكاني بفعل سوط حزام لأحد أفراد القوات المساعدة، وهو يشتعل في فخدي.
ولولا خروجي من الصف، وتراجعي بسرعة إلى الخلف، لكنت عرضة لضرب جنوني بالسياط.
منذ ذلك الحين، أقسمت على ألا أدخل إلى ملعب لكرة القدم، حتى ولو تم إنزالي بالهيلوكبتر الى المنصة الشرفية.


الهامش :
ـ (أ غنس أ المامون)* : أ غنس بمعنى انحني ـ المامون : اسم أحد لاعبي الكوكب . والعبارة مجاز محلي يدل على أن المتكلم بالغ في تصوير الحادث إلى درجة أنه أصبح أقرب إلى الكذب .


مراكش 11 اكتوبر 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى