د. أحمد الحطاب - إن كانت هذه هي الأمم المتَّحدة، فمن الأحسن أن لا تكون!

أول الاعتبارات التي ينصُّ عليه ميثاقُ الأمم المتَّحدة في ديباجتِه هي الآتية :

"نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف،

وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقَدْره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية،

وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي،

وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح.

وفي سبيل هذه الغايات، اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار ،

وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي،

وأن نكفل بقبولنا مبادئ معيّنة ورسم الخطط اللازمة لها ألاّ تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة،

وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها"

قبل الدخول في تحليل هذا الجزء من ديباجة ميثاق الأمم المتَّحِدة، قد يكون من المفيد توضيحُ ما المقصود من كلمة "ميثاق" و"أمَم"؟

نستعمل كلمةَ "ميثاق" عندما يتعاهد شخصان أو أكثر أو عدة أطرافٌ للاتفاق على القيام بعملٍ مشتركٍ يرتكز على احترام مبادئ وقِيم معينة، هي الأخرى مشتركة. من بين هذه المبادئ والقيم، نجد التَّعايش أو التَّساكن في بُقعة من بِقع الأرض أو في الأرض بمَّتِها.

أما كلمة "أمم"، فهي جَمعُ أمة. واستعمالُ كلمة "أمم" عوض بلدان أو دُوَل له دلالة مرتبطة بمفهوم الأخلاق. بلد له دلالة جغرافية بينما دُوَل لها دلالة سياسية. فما هو المقصود من "ميثاق الأمم المتَّحِدة؟"

"ميثاق الأمم المتَّحِدة؟" عبارة عن وثيقة ثضمُّ كلَّ ما تم الاتفاق عليه، بين الأمم، من أسس ورؤى ومبادئ وقِيم يرتكز عليها تعايش وتساكن الأمم فوق الأرض. والأمم، عبر الزمان والمكان، تربط بينها علاقاتٌ تقوم على استحضار كل ما تم الاتفاق عليه من أسُس ورؤى ومبادئ وقِيم.

ونُعِثت وتُنعَث الأممُ ب"المتَّحِدة" لأنها أجمَعَت وعزمت على أن تكونَ وفيَّة، في علاقاتها المتبادلة، للأسس والرؤى والمبادئ والقيم التي تمَّ الاتفاق عليها.

بعد هذا التوضيح الذي أظن أنه ضروري، بإمكاننا أن ننتقلَ إلى تحليل الجزء المشار إليه أعلاه من ديباجة ميثاق الأمم المتَّحدة.

أول ما جاء في هذه الديباجة، هو العمل على "إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب" نظرا لِما خلفتاه الحربان العالميتان، الأولى والثانية، من أحزانٍ "يعجز عنها الوصفُ". والملاحَظُ، في الديباجة، أنها توضِّح أن هاتين الحربين جلبتا للإتسانية أحزانا كبيرة. واستعمال كلمة "إنسانية" في الميثاق، يُراد منه الإنسانية جمعاء، أي البشر كلُّهم، بغض النظرعن الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهؤلاء البشر وعن انتمائهم العِرقي. كما جاء، في نفس الجزء من هذه الديباجة أن الأممَ المتَّحِدة تعطي أهمِّيةً كبيرة، ليس فقط للمساواة بين الأفراد ولكرامة عيشهم ولكن، كذلك، للمساواة بين الأمم، كبيرها وصغيرها. إضافةً إلى تحقيق العدالة والتسامح وحسن التعايش والحِفاظ على السلم وعدم استعمال القوة إلا عند الضرورة أو عندما تُمَسُّ المصالح المشتركة، وأن تتعاون الأممُ لضمان النهوض بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية لجميع الشعوب.

وفي هذا الصدد، صرَّح رئيسُ الولايات المتحدة، آنذاك هارِّي ترومان Harry Truman، الذي كان حاضراً في اجتماع سان فرانسيسكو سنة 1945، الاجتماع الذي قاد إلى تأسيس الأمم المتحدة، صرَّح للحضور قائلا :

"ميثاق الأمم المتحدة، الذي وضعتم عليه توقيعَكم، يشكِّل أساساً صلبا سيُمكِّننا من تشييد عالمٍ أفضل… وبفضل هذا الميثاق، يمكن للعالم أن يبدأ في تصوُّر اللحظة التي ستمكِّن الكائنات البشرية les êtres humains من التَّمتُّع بحياة لائقة كأفرادٍ أحرار".

ما يُستشفُّ من هذا التحليل، هو أن دولَ العالم استخلصت درسا ثمينا من الحربين العالميتين، الأولى والثانية. والدرس المستخلص هو أن لا تتكرَّرَ هذه الحروب بالنسبة للأجيال المقبلة. وحتى لا تتكرَّرَ هذه الحروب، يجب أن يسودَ بين أمَمِ العالم جو من التعايش والتفاهم والتَّسامُح والتعاون…

وباختصار، كل القيم الإنسانية السامية مُشارٌ لها في ميثاق الأمم المتحدة، وخصوصا، في ديباجته وفي المادتين الأولى والثانية من الفصل المخصص لأهداف ومبادئ هذه المنظمة.

كلنا نعرف أن الهدفَ الرئيسي الذي أُنشِئت من أجله هيئة الأمم المتحدة، هو الحفاظ على السلم والأمن عبر ربوع العالم. لكن ما قد يجهلُه أو يتجاهلُه البعض، هو أن كل عملٍ تقوم به هذه الهيئة يجب أن يرتكزَ على مبادئ معينة، يأتي على رأسها مبدأ المساواة السياسية بين الأعضاء، أي بين الدول.

قبل أن أطرحَ سؤالا حول فعالية هيئة الأمم المتحدة، هناك توضيحات تستحق أن يُشارَ إليها.

1.الجمعية العامة assemblée générale للأمم المتَّحدة تضم كل الدول الأعضاء وتُصدر قرارات لكنها، من الناحية القانونية، غير مُلزِمة للدول الأعضاء.

2.مجلس الأمن الذي يتشكَّل من 15 عضوا، من بينهم خمسة أعضاء دائمون هم : الولايات المتحدة، الصين، روسيا (بعد انهيار الاتحاد السوفيتي)، المملكة المتحدة (بريطانيا العظمى) وفرنسا. كل واحد من هؤلاء الأعضاء الدائمين له الحق، من خلال الفيتو le veto، في إسقاط قرارٍ صادرٍ عن مجلس الأمن، علما أن القرارات résolutions الصادرة عن هذا الأخير إلزامية بالنسبة للدول الأعضاء.

السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "هل فعلا هيئة الأمم المتحدة نجحت في أداء مهامها، وبالأخص، هل حافظت على السلم والأمن في العالم، كما نص على ذلك ميثاقُها، وهل تعاملت مع الدول الأعضاء على قدم المساواة؟"

الجواب على الشق الأول من السؤال واضح للعيان. فيما يتعلَّق بالحِفاظ على السلم والأمن ومنع الحروب، لم تنجح هيئة الأمم المتَّحدة في أداء مهامها. لماذا؟ لأن هناك تناقضا صارخا بين الجمعية العامة ومجلس الأمن. الجمعية العامة التي تضم أكثر من 190 دولة لا وزنَ لها أمام مجلس الأمن. وحتى مجلس الأمن تتحكَّم فيه الدول الخمسة الدائمة العضوية. وما يزيد في الطين بلةً، هو أن الأعضاء الخمسة الدائمين يتمتّع كل واحد منهم بحق الفيتو، وبالتالي، فالقرارات التي تكتسي أهمِّيةً بالغةً بالنسبة للعالم، غالبا ما يتمُّ إسقاطُها من هذا الطرف أو ذاك. فلماذا لم تنجح هيئةُ الأمم المتحدة في أداء مهامها؟ الأسباب كثيرة. من بينها، أخص بالذكر :

1.لما تم إنشاءُ هيئة الأمم المتحدة سنة 1945، تم إنشاءُها على المقاس لتخدمَ مصالحَ العالم الغربي المنتصر في الحرب العالمية الثانية. وهذا شيءٌ يتناقض مع ما جاء، بالأخص، في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة من قيم ومبادئ إنسانية سامية ومن اعتراف بأهمية حقوق الإنسان.

2.بغض النظرعن ما تقوم به الأمم المتحدة في الجانب الإنساني والاجتماعي، ليس من المبالغ فيه إذا قلنا إن هيئة الأمم المتحدة تكاد تكون مُختَزَلَةً في مجلس الأمن، أي أن الأعضاءَ الدائمين هم مَن يَتَّخذ القرارات التي توجِّه العالمَ على المستويين الجيوسياسي والجيواستراتيجي!

3.إذا حصل اتفاقٌ بين القوتين العظميين، أي الولايات المتَّحدة والاتحاد السوفيتي فيما يخص مواجهة النازية، le nazisme إبان الحرب العالمية الثانية، فإن قوَّتَيهِما تقومان، من الناحية النظرية والعملية، على إيديولوجياتٍين متناقضتين يصعب التَّقاربُ بينهما.

4.نتيجةً لتناقض هاتين الإيديولوجياتين، فإن القوتين العظميين دخلتا في حربٍ باردةٍ guerre froide كلها تهديداتٌ وتهديداتٌ مضادة أدت، أحيانا، إلى تحريك الأساطيل الحربية. لكن دون مواجهات ميدانية خوفا من اللجوء إلى السلاح النووي المدمر. وبدأت هذه الحرب الباردة في التراجع مع سقوط جدار برلين chute du mur de Berlin، وعرفت نهايتَها سنة 1991 مع انهيار الاتحاد السوفيتي effondrement de l'Union Soviétique. مَن قال ويقول إن وجودَ الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، آنذاك، في مجلس الأمن، سيخدم مصالحَ العالم، فهو واهِمٌ ويسبح في عالم المثالية monde idéal. كل قوة حملت معها إلى مجلس الأمن إيديولوجيتَها ومصالحَها، وبالتالي، إن تغيَّرت المواقع، فالسياسات لم تتغيَّرْ!

ما يُستنتَجُ من هذه التوضيحات، هو أن مجلسَ الأمن، عوض أن يحافظَ على سلم وأمن العالم ويحميه من الحروب، فإنه، في الكثير من الأحيان، يكون سببا في زعزعة استقرار بعض مناطق هذا العالم ويتسبَّب في نشوب حروب داخلها. لماذا؟ لأن مجلسَ الأمن نفسَه، عبارة عن مكان تتواجه فيه إيديولوجيات متناقضة لقِوَى تتناحر جيوسياسيا وجيواستراتيجيا. كل قوة تريد أن تبسطَ سيطرتَها على العالم انطلاقا من مجلس الأمن. يُضافُ إلى هذا كله أن تصرُّفات الأعضاء الدائمين في محلس الأمن، داخلَ الأمم المتحدة، مخالِفة لتلك التي يقومون بها خارجَ الامم المتحدة، إن لم تكن، أحيانا، متناقِضة! فهل يُعقل أن أعضاءً مثل هؤلاء سيحلُّون مشاكلَ العالم السياسية؟

العقل ومُرادِفه المنطق يقولان : أعضاءُ مجلس الأمن يجب أن يكونوا محايدين سياسيا! فهل يُعقل أن ننتظِرَ من هذا النوع من الأعضاء أن يحُلُّوا مشاكلَ العالم وخلفياتُهم الفكرية تُملي عليهم عكسَ ما هم موجودون من أجله في هذا المجلس؟ وعكسَ ما يبيِّنه بوضوح ميثاق الامم المتَّحدة!

والآن، حان الوقتُ للإجابة عن الشق الثاني من السؤال المطروح أعلاه : "وهل تعاملت (الأممُ المتحدة) مع الدول الأعضاء على قدم المساواة؟

الجواب على هذا الشق من السؤال لا يحتاج إلى تفكير والتَّمعُّن فيه. انطلاقا مما سبق، من الجانب السياسي، لا يمكن أن يكونَ الجوابُ على هذا الشق من السؤال إلا لا، ثم لا، ولا شيءَ غير لا! وخبر مثالٍ يمكن الاستشهادُ به، في هذا الصدد، هو تعامل مجلس الأمن مع إسرائيل. لماذا هذا التَّعامل؟ لأن إسرائيل تلعب دورَ " مسمار جحا" في الشرق الأوسط! بمعنى أن وجودَها في قلب العالم العربي يخدم مصالحَ العالم الغربي. فكم هي كثيرةٌ القرارات الصادرة عن مجلس الأمن ولم تستجب لها إسرائيل إلا نادرا. بل لم يتَّخذ ضدها أي إجراءٍ! بينما دولٌ أخرى يُفرَض عليها حصارٌ سياسي واقتصادي رهيب (إيران كمثال)!

ما أودُّ أن أختمَ به هذه المقالة، هو أن الأممَ المتحدة، إن نجحت شيئما ما في مهامها الاجتماعية، الثقافية والبيئية، فإنها، في مجال السياسة، فشلت فشلا ذريعا. كل ما تقوم به، في هذا المجال، بعيدٌ كل البعد عن ما ينصُّ عليه ميثاقُها المبني على المساواة بين الدول. بل ما تقوم به الأمم المتحدة، وخصوصا مجلسُ الأمن، مخالفٌ لشعار هذه الهيئة والذي هو : "السلام، الكرامة والمساواة على كوكب ينعم بالصحة"! غابَ السلام واختفت الكرامة وتنكَّرَ الجميع للمساواة فوق كوكب أُصيبَ بمرضٍ اسمه تغيُّرُ المناخ. وتغيُّرُ المناخ مُسبِّبُوه الرئيسيون هم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن! مَن يخرِّبُ العالمَ، هل بإمكانه إصلاحُه؟!!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى