د. علي زين العابدين الحسيني - المدقريّ... ليالي القاهرة

في بداية طفولتي كنت قرير النفس بأعمال الحقول، أنتقل بينها في فسحة من العيش وسرور للنفس، ولا يذهب هذا السرور إلا ما كان من سفري إلى القاهرة بين حين لآخر لزيارة أقارب والدتي، لقد قضيت موهناً من عمري أقيم فيها على فترات متقطعة، وأعظم ما فيها تلك الأحياء القديمة المرتبطة بالتاريخ الحضاريّ والثقافيّ، وكان من حسن حظي أني سكنت حي "السيدة زينب" عند خالتي بالقرب من "المسجد الزينبي"، هذا الحي النوراني الذي يعجز القلم عن وصف ما فيه من مشاهد، وكنت محظوظاً أكثر لأن سكنها كان على بعد خطوات من "دار الهلال" العريقة التي تكاد تكون بكتبها ومجلاتها الأساس الأول الذي شكل وعيي الثقافي، حتى ذكر لي صديق ذات يوم أنّي أمتلك فرعاً آخر للهلال في بيتي من كثرة منشوراتهم في مكتبتي، لا يمكن أن أنسى ذلك العمل اليومي الذي كنت أمارسه وأنا في أول المرحلة الإعدادية؛ إذ كنت أتوقف كثيراً أمام مكتبة "دار الهلال" وأنظر بسعادة إلى الكتب المرصوصة بعضها فوق بعض، وأحفظ عناوينها وأسماء مؤلفيها، تلك الكتب الناطقة برقي الأفكار، الأمر الذي شجعني فيما بعد على دخولها وشراء ما يناسبني منها بمساعدة بائعيها، وكان بائعو الكتب وقتئذٍ يحملون من الثقافة ومعرفة الكتب الأشياء الكثيرة، وفي أول محاولة لشراء بعض "الكتيبات" حملق البائع في دهشة، ثم اتجه نحو رف واختار بعض الكتب التي تناسب عمري، وبفضله ترددت عليها بصفة مستمرة، لقد عشقتُ القاهرة بحواريها القديمة وشوارعها الجميلة؛ خصوصاً ما ارتبط منها بالأماكن الأثرية والمساجد القديمة، ونعم الذكرى لياليها، وأزعم أن أيامها شكلت وجداني ومشاعري، واصطدمتُ فيها بحقائق الحياة بشكل مباشر، وقد ترسخت لياليها في قاع الذات لتمثل قوى دافقة للنجاح والثقة بالهوية المصرية، ولا أنسى أن أقول: إن الأساس الأول في تربية النشء الجديد على القراءة إنّما هو "النموذج القدوة" فالسلوك الصحيح لجعل الطلبة قارئين هو وجود الشخصيات التي تقرأ أمامهم، أقول ذلك لأنّي أدمنتُ القراءة وقتئذٍ خصوصاً قراءة الصحف والمجلات المتداولة آنذاك، كنت أرى زوج خالتي -وكان من رجال التربية والتعليم المشهورين بالحي الزينبي- حريصاً على القراءة اليومية، لا زلت أبحث عن سر حرصه على الطبعة الأولى من الصحف القومية دون غيرها من الطبعات، وأذكر أنني إذ أحضرت الطبعة الثانية انزعج انزعاجاً شديداً، كانت الطبعة الأول تنزل قبل الساعة الواحدة صباحاً، وقد استقر عمله في الإجازات الصيفية أن يحرص على شرائها وقراءتها يومياً في هذا الوقت، ومن ثمّ يأتي دوري في القراءة، هذا ما جعلني أتقرب إليه وأستفيد منه، وتوصلت بواسطته أن القراءة ألذ عمل يقوم به الشخص خلال ساعات الليل والنهار، فبَكّرَت عليّ الجدية منذ ذلك العهد، في حين كان بنو جيلي -ومنهم أبناؤه- غارقين في الألعاب التي لا تستهويني، وكان من عادتهم الأسبوعية أن يمارسوا مع أصدقاء الحي وجيران العمارة لعبة كرة القدم في الشارع ليلًا، لعلهم كانوا ينتظرون خلو الشوارع من المارة والسيارات، فكان أحب الوقت إلي أن أشاهد هذه الأماكن الجميلة القريبة؛ إذ كانوا يلعبون في الشوارع المجاورة لقبر الزعيم "سعد زغلول" وبعض الوزارات المجاورة قديماً، أنفق في ذلك ساعات، حتى إذ سئمت وقفت معهم وهم يلعبون، وقد أشاركهم أحياناً، وفي كثير من أيام "القاهرة" كانت تأخذني عادة والدي المحببة له إذا نزل إليها من الجلوس في "المسجد الزينبي" فأجلس في المسجد أستمع إلى قرائه وعلمائه، وأشعر أنها تلجئني إلى الله، وإني لأسير في هذه الشوارع بعد كل هذه السنين لذكرى الماضي فيزيد حزني ويكثر ألمي، إنه مرض الحنين الذي يصيبنا جميعاً دون أن تكون لدينا الرغبة في الشفاء منه، على أن أصعب شيء يمكن تحمله هو تجاهل الذكريات، ومع هذا الحب القاهري كان يغمرني عشق آخر لتلك الحياة الفسيحة المليئة بالراحة والطمأنينة والأماكن الواسعة، فسرعان ما تذكرني حياة القاهرة المزدحمة حياة الريف الرتيبة، فلا أطيق الإقامة فيها إلا أياماً معدودات في كل سفرة، أحاول الرجوع سريعاً إلى مسقط رأسي، وكأنّ منادياً ينادي، هذه المشاعر الغريبة المضطربة، حب الأماكن الأثرية والحارات القديمة في القاهرة والتعلق بالحقول والمزارع وحياة الريف عجزتُ أن أفسرها أو أن ينتصر شعور على شعور، وكما كنت في حاجة إلى القرية كنت في شوق إلى القاهرة وأحيائها ومكتباتها وأساتذتها، لم تستطع حاجة إحداهما أن تنتصر على الأخرى، لا تفتر في القرية علاقتي بالقراءة، ولا تضعف همتي في تحصيل الثقافة، لأنّي أجد نوعاً آخر من الإبداع، وهو كثرة الخيال في الأماكن الواسعة، وتتيح لك حياة القرويين استغلال الأوقات والتنقل بين الأماكن لاستخراج كثير من درر المجتمع والاستماع إلى الحكائين، وهم في القرية أكثر عدداً، فكان أحب شيء إليّ أن أسمع حديث الرجال إلى والدي، وحديث النساء إلى والدتي، ومن هنا احترفت حسن الاستماع، وقل أن تجد أحداً فيها إلا ويمتلك مخزوناً من القصص والحكايات الغريبة والأخبار النادرة مما أتكئ عليه في كتاباتي، ولا يمكن بأي حال أن يجد الشخص ذلك في حياة المدينة التي لا تلبي خيالاتي، ولئن كانت القاهرة مزدحمة بالناس والتفاصيل الكثيرة فإن القرى مزدحمة بالأفكار والرؤى والقصص، ولذا عبرت عن كلتا الحالتين بـــ" المدقريّ" إيماناً بدورهما في حياتي الممزوجة بالأحداث والأفكار، ثمّ تغير الحال أكثر فساقني القضاء المحتوم إلى عمل عام خارج البلد، وتبينت لي صور جديدة أعمق من ازدحام البشر والأفكار، صور أخلاق لم أعهدها!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى