الهادي نصيرة - انتظار..

يمتطي وحيد ورفاقه ظهر سفينة صغيرة، تواجه أمواجا كالجبال، في رحلة إلى (لامبادوزا)، ولا أحد منهم يعلم المصير الذي ستؤول إليه تلك المغامرة..
اِستدان وحيد مبلغا كي يدفع أجر تلك الرحلة، وأصر على تنفيذ مخططه، وكان في اعتقاده أن هجرته تلك ستنقله من بؤرة البؤس، إلى ضفاف السعادة والنعيم..
يلاحقه صوت أمه : " آه يا وحيد يا ابني الغالي ! ها أنت تركب مغامرتك إلى ماوراء البحر، لتتركني هنا، في ركني القصي، تدهسني العزلة، ويحاصرني الضجر ! ..
ماذا عساي أقول ؟ كم هو صعب هذا الفراق ! وكم هو مرير هذا الواقع الذي نحياه ! لكنني لا أستطيع منعك من مطاردة حلمك البعيد ..اِمض يا بني، إلى حيث مضى من قبلك الحالمون من الشباب ! أتمنى أن يتحقق لك كلّ ما تصبو إليه..."
ثم تضيف بصوت متهدج تخنقه العبرات :
" لا تنس إخباري بوصولك لأطمئن عليك ! سأنتظر مكالمتك على أحرّ من الجمر ..."
"إنتظار" أرملة قست عليها الحياة، بعد موت زوجها، كافحت كفاحا مريرا، علّمت ابنها الوحيد، ومهّدت له طريق النجاح، لنيل شهادة جامعية عليا، لكن بقاءه معطّلا لسنوات،
أرّقها، وعمّق حيرتها...
وصل وحيد إلى إيطاليا، ولم ينس إبلاغ أمه بذلك...
اِنقضت سنة بأكملها، بذل جهدا في البحث عن عمل، لكنه فشل في ذلك...
لم يتردد في مخاطبتها، ذات يوم، طالبا منها المساعدة :
" أمي الغالية، أدرك جيدا أنه ليس باستطاعتك أن توفري لي المال الذي أحتاجه ، فأنت أحوج مني لذلك. لكن الظروف قست علي، ولم أجد أحدا غيرك، لأشكوه متاعب الدنيا !"
ردّت على الفور : " إطمئن يا عزيزي! سأتدبر أمري، وسأوافيك بالمبلغ الذي تطلبه !"
مضى وقت، وبقيت "إنتظار" على اتصال بوحيد، لا تتردد في مدّه بما يحتاجه من مصاريف مادية.. وفي كل مرة، يحاول جرّها للحديث في موضوع مصدر ذلك المال الذي بحوزتها، تنبري تحدثه عن سعادتها الكبيرة بالتواصل معه، وعن أنه يكفيها سماع صوته لتنام فرحة، قريرة العين .
أخيرا ، اِبتسم له الحظ، وعثر على شغل .. سيحصل على المال، وسيعود إلى بلده، ليفرح قلب أمه بعد طول انتظار..
قبيل إقلاع الطائرة بقليل، في صبيحة ذلك اليوم، تلقى وحيد إشعارا بوفاة من ظلت في انتظاره ..كان وقع الخبر قاسيا ومؤلما جدا..
بعد أن انتهت مراسم دفنها، وانفضّ المعزّون، جلس في منزل عمه، صامتا، ينظر في الوجوه من حوله، تتجاذبه أسئلة حائرة..
أبلغوه أنها باعت منزلها، وكل ما تملك، وأن لا أحد يعلم أين أنفقت كل تلك الأموال، التي حصلت عليها، لتقضي آخر أيامها ، تصارع المرض، شريدة، بلا مأوى، تتقاذفها الشوارع المظلمة..
" آه، يا أمي الحبيبة ! كيف استطعت أن تتحملي كل هذا العناء ؟ "
ثم ما لبث أن انهار باكيا، وانهمرت دموعه حرقة، وحسرة على من رحلت بلا عودة، بعد أن أفنت العمر، عطاء، وتضحية، ولم تكن تطلب من الدنيا غير سعادة وحيدها..


الهادي نصيرة | تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى