المستشار بهاء المري - «يوميات قاض13» قصة قصيرة

كانت الريحُ تَهبُّ صَرصَرًا عاتية، والسماءُ مُثقلةٌ بسُحُب سَوداءَ مُتكاثفة حَجَبَت الشمس عن البزوغ، ولَسْعةُ بَردٍ قارسة تلفحُ الوجوه؛ فتُلجئ الناس إلى التواري من الطريق.

لم يَمنعهُ هذا الجو العاصف المُكفَهرّ عن الذهاب إلى جهة عمله في اليوم التالي مباشرة للإفراج عنه، وما أن وطئَت قدماه باب المبنى، حتى قصَدَ ذلك المكتب الذي جمعهما قُرابة عام قبل سَجنه، لم يجدها هناك، كلُّ ما قالوه عنها إنها استقالت.

وَلَّى وجهه شَطرَ مَسكنها غير مُكترثٍ بهذا الزمهرير، المكان شِبه قرية ساحلية أقيمَت قُرب شاطئ البحر خلف منطقة شعبية غرب المدينة الساحلية الكبيرة.

سار يَسْترق الخُطى عَبْر شارع طويل تحُّفه أشجار كثيفة ترنَّحت فروعها وتَلاطمت أوراقها، فكانت ستارًا كئيبًا يزيدُ من الإحساس بالوحشة.

وقف على بُعدِ أمتار من منزل بَسيطٍ ضُربَ من حوله سور من الطوب الحَجري، الذي يُميِّز بنايات هذا المكان، لم تُخطئهُ عيناه، كم تَردَّد عليه قبل ثلاث سنين خلال خِطبتهِ لها، وكان له فيه ذكريات جميلة.

راح يتطلع إليه بقلب مَلهوفٍ كمَن يتطلع إلى قشَّةٍ في البحر ليَتعلق بها، مُعتقدًا أنَّ فيها نجاته، وراح يَسَحَبُ أنفاسًا عميقة من هواء البحر النقي ليَطردَ به هواء الزنزانة الكريه، الذي لم تزل آثاره عالقة في صدره.

دارَت برأسه ذكريات هذا البَيت، الذي قَضى فيه ساعات هنيئة، وطنَّت في رأسه آخر عبارة سمَعها منها وهُم يَقتادونه إلى السجن يوم النطق بالحكم: "سأنتظركَ حتى تعود".

شَردَ بذهنهِ خلال وقفته يُحدِّث نفسه من جديد: من المؤكد أنها الآن في انتظاري، سيَشعرُ قلبها أنني جئتُ، ستُطِل حالًا من النافذة، أو ربما تكون واقفة خَلف الباب، ستتلقفني بين أحضانها وتغمُرني بوابلٍ من القُبلات، سيقفز قلبها من بين ضلوعها فرَحًا، ستُذهَلُ من المفاجأة، وربما تَسقط من هولها مَغشيًا عليها. صحيحٌ أنها في السنتين الأخيرتين من سِجني لم تَعُد تَزُرني، ولكن من المؤكد أن عذرا قد منعها.

كانت حديثة عهد بالعمل حين التحَقَت به، جمعهما مكتب واحد وسرعان ما مالَ كلاهما للآخر فخَطبها.

خدَعها أحدهم وقدَّم لها بيانات على خلاف الحقيقة لتَستخرج بها شهادة، ساعَدَها وحرَّر بخط يده الشهادة التي حمَلَت من بعد توقيعها بصفتها الموظف المختص.

أُجريَتْ تحقيقات كانت ستطالها، تخيَّلها مُكبلة بالأغلال نزيلة السجن فلم يَقبَل الصورة، لم يقوَ على تَرْكها لتَلقى هذا المصير.



اعترفَ أنه الذي زَوَّر الشهادة ودسَّها بين أوراقها ليَستحصلَ خلسة على توقيعها، لامَت نفسها حينها، ولكنها ثَمَّنَت تَضحيته ووعدته بالانتظار، وعند اقتياده للسِجن عاهدته بذلك الوعد من جديد.

وبينما خَيالات صُورة استقبالها له تَرتَسمُ أمام ناظريه، فإذا بباب السور يَنفتح، تَهلَّل وجهه، فرحَ فرحةً عارمة، إنها هي، بجمالها وحُسن طَلعتها، لم تَتغيَّر عما كانت عليه منذ ثلاث سنين، ولكن مَن هذا الطفل الذي تحمله؟ ومن هذا الرجل الذي يتْبعها؟

سارت عدَّة خطوات، فوجِئَت به وجهًا لوجه، ارتَعَدَ جسدها، اضطربَت ملامحها، أخذت تُحملقُ فيه وضَربَات قلبها تكاد أن تُسمَع.

جرى صَوْبها، أصبح على بُعد متر واحد منها، قبْل أن ينطق بحرف، كان الرجل قد أصبح إلى جوارها، أشارت إليه وقالت بصوتٍ مُرتعش: زوجي، والتفتت إلى زوجها تقول: "كان زميلي سابقا".

عاد المَطرُ يَهطل بشراسة، زمْجرَت الريح وأخذَت تُصفِّر، استدار لا يدري هل يَسير إلى الخَلف، أم في اتجاه آخر، أطْلق العَنان لساقيه وطفِقَ راجعًا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى