الهادي نصيرة - لقاء الوداع الأخير..

كنت أنتظر نتائج امتحانات اختتام الدراسة بمدرسة تأهيل المعلمين، التي لم تعد تفصلنا عن موعدها غير أيام قلائل، حين اختطف الموت، أخي "مهذب"، في حادث شغل قاتل، أليم، وهو لايزال في سن الثامنة عشر من عمره..
بعد أسبوع من حصول تلك الفاجعة، تلقيت خبر نجاحي، في ذلك الجو الذي خيمت عليه مشاعر الحزن، والشجن، وتوشحت أيامه، ولياليه بلون السواد، أسى وحسرة على فقد عزيز ، سرقه الموت في عز شبابه..
وقفت على قبره، أتلو سورة الفاتحة، ترحما على روحه، ثم غادرت ، دامع العينين، مستذكرا أياما، وأعواما، عفا عنها الزمن، وطواها الأمس البعيد..
تراءت لي تلك العهود التي جمعتنا، ونحن لا نزال أطفالا.. كان يصغرني بثلاث سنوات.. ترعرعنا معا، ومضت بنا أيام العمر سراعا، لنكبر معا..
وظللنا طوال طفولتنا، متلازمين دائما، لا نفترق أبدا..
وغالبا ما كنا نتخاصم لأتفه الأسباب، غير أن خصامنا، ذاك، لا يعدو أن يكون زوبعة في فنجان، وما تلبث مياه محبتنا لبعضنا، أن تستعيد مجاريها..
عشنا زمنا لم نكن نحمل فيه هما ولا غما، ولا يعرف القلق، ولا الملل إلى قلوبنا سبيلا..
نقضي أيام العطل المدرسية، معا، ولا ننفصل إلا إذا غشي أعيننا ظلام الليل، وأوى كل منا إلى فراشه..
وحين يأتي الربيع، ننطلق من البيت، صباحا، لتستقبلنا الحقول ضاحكة، باسطة لنا ذراعيها، كالأم تفتح أحضانها لأبنائها، ناثرة لنا عبير أزهارها، وشذى ورودها، وأشجارها،
فنمرح في أرجائها ما شئنا أن نمرح، وتنهل قلوبنا من الغبطة ما شاءت أن تنهل، وقد انبسطت أمام أعيننا السهول الشاسعة، وبدا زرعها الأخضر متماوجا، تداعبه النسائم الرقيقة، المنعشة، متماهيا مع ابتسامات الطفولة المتألقة، المرتسمة على محيانا..
وحين ينال منا التعب، نرتاح تحت ظلال الشجر، ويأخذنا الشرود ، ونمضي بأحلامنا، وآمالنا، وأمانينا الجميلة، إلى الأفق البعيد..
ونظل هكذا بين أحضان الطبيعة إلى أن يداهمنا الغروب..
انقضت تلك الأيام الجميلة بأوقاتها الممتعة، وعفويتها، وبراءتها، وشقاوتها، وانقضت معها أعذب مساحات زمنية للحلم، والفرح ، والصفاء، والنقاء..
وتتعاقب السنوات..وذات مساء، قبل ذلك الحدث الأليم بأسبوع ، كنت غارقا في المراجعة، إستعدادا لامتحانات آخر السنة، حين تلقيت زيارة أخي "مهذب" الذي كان مقيما بصفاقس، من أجل العمل ..
(( __ مرحبا بك أخي ...كيف خطر لك القيام بهاته الزيارة؟ يا لها من مفاجأة سارة !
__أعلم أنك مرهق بالمراجعة، هذه الأيام، ففكرت أن أزورك لأطمئن عليك..
__أسعدني قدومك ..مازال في عمر المراجعة يومان، وتنتهي الإمتحانات...
__ إذن، سيكون موعدنا يوم السبت القادم، إن شاء الله، لنعود معا إلى البلدة..
سلم علي، ودعا لي بالنجاح، ثم ما لبث أن ودعني منشرحا، مبتهجا، ومؤكدا على الموعد المتفق عليه للعودة إلى الموطن..
افترقنا، يومذاك، ولم نكن ندرك ، أننا نلتقي للمرة الأخيرة .



الهادي نصيرة | تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى