د. أحمد الحطاب - عالمٌ ظلامُه حالكٌ

عندما نطَّلع على تاريخ البشرية في مختلف بقاعِ الأرض، نجد أن هذا التاريخ فيه فترات مشرِقة وفيه فترات اعتدنا على أن ننعتَها ب"الفترات المظلِمة" أو ب"العصور المُظلِمة". وهذا النَّعت، أي "مظلمة"، كان يُطلق على الفترات الموسومة بالجهل ignorance وسوء الأخلاق immoralité والظلم injustice وطغيان الأقوياء على الضعفاء tyrannie والأغنياء على الفقراء féodalisme وانتشار العبودية esclavagisme واستغلال البشر استغلالا مُهٍينا exploitation indigne des humains…

وهذه الفترات أو العصور المُظلمة كثيرة على امتداد تاريخ البشرية. والبعض منها وَرَدَ ذكرُها في القرآن الكريم، منها الفترات أو العصور التي عاشت فيها الأقوام الغابرة كقوم نوح وقوم لوط وعاد وقوم ثمود وقوم تُبَّع والرَّس وأصحاب الأيكة وقوم فرعون… مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا (الفرقان، 37 و 38) أو مصداقا لقوله عزَّ وجلَّ : "وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (ق، 12، 13 و14).

وكل هذه الأقوام كانت معروفةً بالشِّرك بالله، من خلال عبادة الأصنام أوبعضَ الظواهر الطبيعية كالبرق والقمر والشمس…، إضافةً إلى تصرفاتِ مخالِفة للأخلاق والعقل. كما كانت هذه الأقوامُ تؤمن بالخرافات والأساطير وتتقاتل وتتناحر فيما بينها، أحيانا على أبسط الأشياء…

لكن عصورَ الظلام التي رسَّختها المدرسةُ في ذاكرتنا، من خلال دروس التاريخ التي تلقيناها في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي، هي عصر الجاهلية époque antéislamique ou ère préislamique، قبل مجيء الأسلام، والعصور الوسطى moyen âge التي كانت تُغطي فتراتٍ من تاريخ القارة الأوروبية، والتي بدأت من القرن الخامس ميلادي إلى نهاية القرن الخامس عشر. في نفس الفترة، وبالضبط، من القرن الثامن إلى القرن الرابع عشر، كان العالمُ العربي الإسلامي مشرقاً ومزدهراً سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا، علميا، تقنيا…

بعد هذه المقدمة القصيرة، ما أريد ان أبيِّنَه هو أن الغرضَ من هذه المقالة ليس المقارنة بين ما كانت عليه أوروبا في القرون الوسطى وبين ما كان عليه العالمُ العربي الإسلامي في نفس الفترة. لا، ليس هذا هو هدفُ هذه المقالة. هذفُها هو تمريرُ عالمنا المعاصر من مصفاة الإنسانية وقِيمِها.

وبالطبع، إن القِيمَ الإنسانيةَ، التي يعود تطبيقُها على أرض الواقع بالنفع على البلاد والعباد، كثيرة ومتنوِّعة. لكن، بالنسبة لهذه المقالة، سأكتفي بالقِيم التي تصب في تيسير تساكن البشر، جماعاتٍ وبلداناً، في مختلف بِقاع الأرض. من بين هذه القيم، أخص بالذكر الاحترام respect، القبول acceptation، الاعتراف reconnaissance، الاعتبار considération، الاستماع écoute، الانفتاح ouverture، التعاون entraide، الصدق honnêteté، العدل justice، التقاسم partage، التضامن solidarité، الأخوة fraternité، تعاطف empathie…

الإنسان، من طبعه ومن فِطرته، كائن حي اجتماعي. والدليل على ذلك أن هذا الكائنَ الحيَّ، بعد وِلادته لا يمكن، على الأطلاق، أن يعيشَ منعزلا عن أمه. إنه في حاجةٍ لهذه الأم في كل شيءٍ : في التغذية، في العطف، في الحنان، في الدفء، في الاطمئنان، في الأمن والأمان، في تعلُّم الكلام، في تنمية الحواس… إن حاجةَ هذا الكائن الحي لأمٍّ، هي، في الحقيقة، عبارة عن بدءِ العيش في الحياة الاجتماعية.

والحياة الاجتماعية تتجسد على أرض الواقع على شكل مجتمعات أو بلدان منظَّمَة. وأول وآخِر ما يجعل هذه المجتمعات والبلدانَ منظَّمَة هو ارتكاز تساكن أو تعايش أفرادها (سكانها) على القيم المشار إليها أعلاه مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات، 13). إن أحسن ما ورد في هذه الآية من كلمات، هي كلمة "لِتَعَارَفُوا". هذه الكلمة تشير إلى كل مُقوِّمات الحياة الاحتماغية. وعلى رأس هذه المُقوِّمات، القيم الإنسانية المشار إليها أعلاه. وقولُه سبحانه وتعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ…" يعني أن كلامَه موجَّه للبشرية جمعاء، بغض النظر عن كل الاعتبارات كيفما كانت.

السؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو : "هل فعلا مجتمعات وبلدان العصر الحاضر لا يزال تساكنُها أو تعايُشُها مرتكزا على القيم المشار إليها أعلاه ومُستجيبا لما جاء في الآية رقم 13 من سورة الحجرات"؟

للجواب على هذا السؤال، يكفي أن نُلقِيَ نظرةً على ما يجري في الواقع المُعاش أو أن نقرأَ صُحُفا أو أن نشاهدَ ونسمعَ نشراتِ الأخبار عبر محطات الراديو والتِّلفزيون المنتشِرة في أرجاء المعمور، أو أن نطَّلِعَ على تقارير المنظمات المنبثقة عن هيئة الأمم المتَّحدة أو المنظمات الإنسانية التي تُعنى بالشؤون الاجتماعية، الاقتصادية، البيئية، الصحية، العلمية، التِّكنولوجية، الديمغرافية…، لنلاحِظَ أن العالمَ المعاصرَ يسير، بخطى ثابتة، نحو مرحلةٍ من تاريخ البشرية يحفُّها، شيئا فشيئا، ظلامٌ شديد الحلوكة، كما كان الشأنُ بالنسبة للعصور الغابرة. والمقصود هنا ب"ظلام شديد الحلوكة" هو رجوع البشرية إلى العهود المظلِمة التي غابت فيها القيمُ الإنسانية التي يتأسَّسُ عليها تساكنُ وتعايشُ البشر، مع فرقٍ شاسعٍ بين هذه العصور الغابرة والعصر الراهن. فما هو هذا الفرقُ؟

الفرق يكمن في كون بَشَرِ العصور الغابرة كانوا جاهلين، أي كانت كل تصرُّفاتهم ناتِجة عن موروث ثقافي انتقل من جيلٍ لآخر، علما أنهم كانوا متشبِّثين بهذا الموروث رغم ما بعث اللهُ لهم من أنبياء ورُسُل لم يمتثلوا لِما أتوهم به من خيرٍ. أما العصرُ الراهن الذي يسير بشرُه، من جديد، نحو فترة ظلامية حالِكة، فلا عذرَ لهم.

لا عذرَ لهم لعدَّة أسباب، منها :

1.رغم انتهاء الرسائل السماوية مع آخرِ الأنبياء والرُّسُل، محمد (ص)، في القرن السابع ميلادي، فإن البشريةََ، منذ ذلك التاريخ، شنَّت، بالتَّدريج، حربا واسعةً على الجهل وعلى كل ما يترتَّب عنه من تصرفات مخالِفة للأخلاق والقِيم الإنسانية السامية التي نصَّت عليها الديانات السماوية الثلاثة وعلى رأسِها الإسلام. وهذا يعني أن البشريةَ، بصفةٍ عامة، دخلت فترةً من تاريخها تتَّسِم بوعيٍ يزداد حجما واتِّساعا.

2.وقد بلغ هذا الوعيُ مستوى مهما عبر الأسفار والملاحة والتَّبادلات التجارية والتَّصاهر والحملات الاستطلاعية والاستكشافية والغزوات…، عبر اقتسام الثقافات والعادات والطقوس الاجتماعية، الدينية وغيرها…

3.أما بلوغُ الوعيِ أوجَه، فقد تحقَّقَ حينما أنشأ الإنسانُ المدرسةَ كمكانٍ للتعليم والتَّعلُّم، وحينما أنشأ الإنسانُ ونوَّع وسائلَ الاتصال والتواصل، من تنوُّعٍ في وسائل النقل وفي وسائل الإعلام المكتوبة، المسموعة والمرئية… الكل مكلَّلٌ، حاليا، بوسائل التواصل الاجتماعي، العنكبوتية (الإلكترونية) المتنوِّعة شكلا ومضمونا.

4.وما زاد ويزيد في وعي البشرية حجما واتساعا، هو أن أممَ بلدان العالم (وخصوصا العالم الغربي)، بعد ما خلَّفته الحربان العالميتان من مآسي وأحزان، اتَّحدَت هذه الأممُ وأنشأت هيئةَ الأمم المتحدة Organisation des Nations-Unies المُؤطَّرة بميثاق الأمم المتَّحدة Charte des Nations-Unies الذي ينصُّ على كل القيم الضرورية للحِفاظ على السلم والأمن على مستوى العالم برمَّته…

إذن وكما سبق الذكرُ، وفيما يتعلَّق بمستوى وعيِِ البشر، إن هؤلاء البشرَ المنتمين للعصر الراهن لا يمكن، على الإطلاق، أن يقولوا إن سببَ أو أسبابَ تصرفاتهم المخالِفة للقيم الأنسانية المشار إليها أعلاه، راجعٌ/راجعةٌ لعدم وَعْيِهْم بأمور دنياهم! قد يكون هنا وهناك أشخاصٌ أو جماعات بشرية غير دَارِين بأمور دنياهم. هذا صحيح! لكن يجب أن لا ننسى أن بلدانَ العالم كلها أو جلها، انخرطت، بكيفيةٍ أو أخرى، في ما يُسمَّى الديمقراطية التمثيلية démocratie repésentative، أي اختارت، عن طريق الانتخابات، مَن ينوب عنها في تدبير شؤونها بمختلف أنواعها. وبالتالي، فإن مسئوليةَ الانحراف عن القيم الإنسانية يتحمَّلُها، بالدَّرجة الأولى، حكَّامُ هذه البلدان! وهنا بيتُ القصيد!!!

هنا بيتُ القصيد لأن حُكَّام العالم، بصفتِهم نواب عن شعوبِهم في تدبير شؤون هذه الشعوب، هم المسئولون عن ما يجري حاليا في هذا العالم من انحرافٍ عن القيم الإنسانية التي تؤطِّر وتُيسِّر تساكنَ وتعايشَ الأمم. وهنا، يجب أن نفرِّقَ بين حكََّام البلدان القوية وحكَّام البلدان الضعيفة. والبلدان القوية تستمد قوَّتَها من تطوُّرها اجتماعيا، ثقافيا، تعليميا، اقتصاديا، عسكريا (وخصوصا، امتلاك أسلِحة الردع armes de dissuasion)، تكنولوجِياً، علميا، صناعيا، زراعيا… أما البلدان الضعيفة، فإنها تفتقد، كليا أو جزئيا لكل الأمور التي تتفوَّق فيها البلدان القوية. إذا فقدت هذه الأمور كليا، فهي بلدان متخلِّفة pays sous-développés. وإذا فقدتها جزئيا، فهي إما سائرة في طريق النمو pays en voie de développement، وإما بلدان صاعدة pays émergents. وكيفما كان الحالُ، فإن حكَّامَ البلدانَ القوية هم الذين يُسيِّرون العالم، بحُكم هيمنة بلدانِهم على جميع مكوِّنات التَّطور والتَّقدُّم بجميع تجلياتهما، وعلى رأس هذه الهيمنة، الهيمنة الاقتصادية. بينما البلدان الضعيفة، سواءً كانت سائرة في طريق النمو أو صاعِدة، فهي مُجبرةٌ، بطريقة أو أخرى، على السَّبحِ في فلك البلدان القوية.

وحكَّامُ البلدان القوية لم يعد يهمُّهم لا مستقبل البشرية، ولا القيم الإنسانية، ولا تساكنُ أو تعايشُ الأمم، ولا الأمم المتحدة وميثاقها، ولا حقوق الإنسان، ولا السلم والأمن داخلَ وبين الأمم، ولا مجلس الأمن، ولا المنظمات الإنسانية والحقوقية، ولا صُراخ واحتجاج العقلاء والمفكرين والفلاسِفة والمُتديِّنين وغير المتديِّنين، ولا جمعيات المجتمع المدني، ولا تغيُّر المناخ، ولا تدهور المنظومات البيئية، ولا انتشار الحروب، ولا انتشار الفقر والجوع والأمية، ولا…

بينما كثيرٌ من حكام البلدان الضعيفة يكادون بفكِّرون فقط في بقائهم في السلطة. وهو الشيء الذي ينعكس سلبا على تأخُّر بلدانهم عن ركبِ التَّقدُّم الذي لا ينتظر أحَداً!

حكَّام العالم الأقوياء، لهم لغةٌ واحدةٌ مختزلةٌ في سيطرتِهم على المالية finance والاقتصاد économie على مستوى باقي بلدان العالم hégémonie financière et économique sur le reste du monde. ومَن لهم مالية واقتصاد قويان، لهم كذلك قوة سياسية، عسكرية، جيو سياسية وجيو استراتيجية. وهم كذلك المُسيطِرون على الأمم المتَّحدة، وتفريبا، على كل المؤسسات المنبثقة عنها. وهم كذلك المُسيطرون على البنك الدولي banque mondiale وعلى صندوق النقد الدولي fonds monétaire international…

إن عالمًنا اليوم عالم مادي بامتياز matérialiste par excellence كما أراد له حكامُ البلدان القوية، عن قصدٍ، أن يكون. عِلما أن الأفضلية في هذا العالم للقويِّ ولا مكانَ فيه للضعفاء. حكَّام البلدان القوية يسحقون، بقوَّتِهم المالية، الاقتصادية، التِّكنولوجية، العسكرية… الآخرين كلما شعروا بخطرٍ يهدِّد مضالحَهم. وأفصَحُ وأوضح مثالٍ يمكن سياقُه، في هذا الصدد، هو ما يجري حاليا في فلسطين، وبالضبط، ما يجري في عزَّة. القوي يسحق الضعيف أمام أنظار باقي بلدان العالم التي ليست قادِرة على تحريك ساكنٍ
.
حكَّامُ البلدان القوية أرادوا أن تكونَ موازينُ القِيم الإنسانية مقلوبةً، فقلبوها. وأرادوا أن يُقاسَ كل شيءٍ بالمال والقوة، فكان لهم ذلك. وأرادوا أن يستضعِفوا الضعفاء، فاستضعفوهم. وأرادوا أن تقلِّدَهم البلدان الضعيفة ثقافيا، فحصلوا على ذلك، وارادوا … كل القيم المشار إليها أعلاه من احترام وقبول واعتراف واعتبار واستماع وانفتاح وتعاون وصدق وعدل وتقاسم وتضامن وأخوة وتعاطف… أصبحت في خبر كان. كل شيءٍ يُمكِّنهم من بسط سيطرتَهم على العالم، مُباحٌ ولو أدى إلى الدمار والهلاك… وحتى إلى القضاء على جماعاتٍ بشريةٍ بأكملها… وإلى تغيُّر المناخ وإلى إضعاف الطبيعة… بل إلى إضعاف الجنس البشري نفسِه…

ما يفرضُه عليَّ ختمُ هذه المقالة، هو أن أقولَ : إن البشريةَ الحالية راجعة، لا محالة، إلى العصور المُظلِمة، كما كان الشان في الماضي الغابر. لكنها راجِعة عن وعيٍ وعن سابق معرفة وبعقولٍ تميِّز بين الحق والباطل وبين الطيب والخبيث وبين الخير والشر. حكَّام البلدان القوية اختاروا رجوعاً إراديا ما دام يحقِّق لهم ما خطَّطوا له من مآرب… ولا يهمُّهم إن تحقَّق لهم ذلك على حساب الآخرين. الكرة الأرضية سخَّرها اللهُ للبشرية جمعاء وأمر عبادَه أن يعمِّروها إعمارا بما يُرضيه من حقٍّ وعدل وإنصاف واستقامة وصدق… لكن هذا الكوكب الأرضي سقط بين أيادي ماكرة لا ترى في إعمار الأرض إلا ما يُسهٍّل سيطرتَها على الآخرين بعنفٍ مالي، اقتصادي، تكنولوجي، علمي، عسكري…
فكيف سيكون حالُ العالم عندما تصبح، مستقبلا، البلدانُ القويةُ مسيطِرةً سيطرةً مطلقةً على الذكاء الاصطناعي؟؟؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى