محمود سلطان - "المسكوت عنه" في العدوان "الأمريكي الغربي" على "غزة"

الحروب الصليبية في الشرق الأوسط (سلسلة الحملات العسكرية) التي شنتها المسيحية الكاثوليكية بهدف إستعادة الأراضي المقدسة ومدينة أورشاليم (القدس) من سيطرة المسلمين في منطقة شرق المتوسط، كانت آخر الحروب التي اتخذت من الدين مظلة تبريرية و"مبررا أخلاقيا" للتوسع على حساب الشعوب الآخرى.

بعد عصر التنوير/عصر المنطق (القرن التاسع عشر ) والتي ترتب عليه انخفاض الأمية والتمهيد للثورة الفرنسية والأمريكية وحركات التحرر في أمريكا اللاتنية، تراجع دور الدين في التوظيف السياسي والحشد العسكري،

في النصف الأخير من القرن الـ 19، شج "تشارلز داروين" شرخا في الفكر الغربي على اتساعه وتنوعه، عندما نشر كتابيه أصل الأنواع Origin of species عام 1859 و نسب الإنسان Descent of Man عام 1871. إذ بعد وقت قصير من صدورهما، تم توظيفهما كبديل لـ"الدين" في توفير المبرر "العلمي" و"الأخلاقي" للاستعمار الجديد ووريثته الناهضة الولايات المتحدة الأمريكية.

ووظف "هربرت سبنسر" (صاحب مقولة البقاء للأصلح)، و"كارل بيسون"، مصطلح الانتخاب الطبيعي في تبرير تفوق مجموعة معينة من الناس على غيرها (التفوق العرقي) تحت اسم "الداروينية الاجتماعية". وبحلول عام 1880، باتت المبرر الجديد للغزو الإمبراطوري في جميع أنحاء العالم، وشرعنة التقسيم الطبقي والتنظير له (الفقراء والضعفاء غير صالحين للبقاء) ودعم الاعتقاد بالتفوق الثقافي والبيولوجي والأنجلوسكسوني أو الآري (العرق الأبيض الغرب أوروبي). فاعطت "الداروينية/الاجتماعية" هذا العرق المبرر "الأخلاقي" للقيام بالمجازر واستغلال الأعراق الاخرى (العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال) وذلك تحت مسمى النظرية التطورية العلمية (الداروينية).

لذا يحتل كتاب داروين (1809ـ1882)عن أصل الأنواع منزلة ربما تكون أكثر قداسة عند جماعات المصالح "اللوبي" في العالم الغربي المسيحي، من الكتاب المقدس ذاته!

الولايات المتحدة الأمريكية "الرسمية" ـ على سبيل المثال ـ ترفض بشكل قاطع أية نظرية تنتهك حرمة "النشوء والإرتقاء" كما وضعها داروين، كان آخرها إجهاض طلب تدريس نظرية "التصميم الذكي" جنباً إلى جنب مع "أصل الأحياء" في المدارس الأمريكية، ولو من باب "حرية التعبير"!

وفي عام 2004 صادرت فرنسا العلمانية، "أطلس الخلق"، الذي ينقض نظرية داروين. ودول الاتحاد الأوروبي ـ على وجه الإجمال ـ تفرض حماية صارمة على النظرية، ولا تقبل المسَّ بمضمونها أو التشكيك بصحتها!

كان غريباً إلى حد الدهشة، أن يتشدد الغرب المسيحي "الرسمي" في التمسك بالتفسير الحرفي للداروينية، على الرغم من أنها لا تزال عند حدود "النظرية" التي لم ترق إلى درجة "الحقيقة" العلمية!

إن هدم هذه النظرية، يعني تقويض الأساس الأخلاقي والتسويغ "العلمي" الذي قامت عليه الحضارة الغربية، سواء على صعيد تطورها وحراكها الداخلي، أو على صعيد نظرتها وفهمها للعالم من حولها.

فالداروينية هي التي سوّغت "تميّز" العنصر الغربي واستعلائه على الآخر على أساس أنه الأفضل، ووفّرت له "الغطاء الأخلاقي"، لاستعمار مناطق شاسعة من العالم واستنزاف موارده، على أساس أن القانون الحاكم المطلق للعالم، يقوم على "الانتقاء الطبيعي": الفرز الطبقي والاجتماعي و العرقي والسلالي، وأن الطبيعة تتجه نحو تنظيف المجتمع من الفقراء والضعفاء وتخليص العالم منهم، لإيجاد مكان للأقوياء فقط.

بل يمكننا القول إن الغرب المعاصر بكل تجلّياته السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية، هو في واقع الحال صناعة داروينية محضة، بمعنى أنها وليدة منطق القوة والصراع والبقاء للأصلح والأقوى، حتى في التفاصيل "الأنيقة" التي تتخفى خلف أكثر شعاراتها نعومة وجاذبية.

فحرية التعبير ـ على سبيل المثال ـ سواء على مستوى "المعنى" أو على مستوى "التوظيف"، لا يحددهما توافق وطني محايد، ولكن المحصلة النهائية لعملية فرز القوى المالية والاجتماعية والدينية والسياسية في المجتمع؛ إذ تفرز معها معنى خاصاً لحرية التعبير يعبر عن مصالح القوى المنتصرة، و تمكنها "شرعية الانتصار" من السيطرة على حدود وأسقف هذه الحرية.

كل ما تقدم هو في تقديري استهلال، أو مدخل لفهم موقف الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب على غزة : إن انتصار المقاومة أو العرب عموما (الضعفاء وذوات البشرة السمراء أو السوداء)، هو خط أحمر أمريكي غربي، لأنه في التفاصيل البعيدة عن الفحص المباشر، ينقض نظرية داروين "التفوق العرقي الغربي" ويهدم الأسس الأخلاقية التي تبرر لهذا الغرب "استعباده للعالم"
م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى