د. أحمد الحطاب - مَن يُحارِب ويُبِيدُ أهلَ غزة؟

الجواب على هذا السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة، لا يحتاج إلى تفكير. بل لا يحتاج إلى بحث أو إلى تضلُّعٍ سياسي.

مَن يُحارب ويُبيد أهلَ غزة، ليست إسرائيل وحدها. غزة تواجه، في الحقيقة، العالمَ بأسرِه. كيف ذلك؟

على ساحة المعركة، إنها، فعلا، تواجه إسرائيل. لكنها، في نفس الوقت، تواجه العالمَ الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة. تواجِه العالمَ الغربي الذي يَدعَم، بدون أدنى شرطٍ، إسرائيل سياسياً وعسكريا. والدليل على وجود الدعم العسكري اللامشروط، أن الولايات المتحدة، بمجرَّد ما اندلع هجوم حماس على إسرائيل يوم 7 اكتوبر المنصرم، بعثت إلى جوار غزة حاملتين للطائرات مجهزة بأسلحة دمار، ومستعدة للتَّدخُّل، في حالة اتِّساعِ رُقعة الحرب بين حماس وإسرائيل.

وهنا، لا بدَّ من توضيح أعتبِره، أنا شخصيا، من الاهمِّية بمكان. إسرائيل تحاربُ الفلسطينيين، بينما الفلسطينيون يقاومون إسرائيل. ولا داعيَ للقول أن الفرقَ شاسعٌ بين الحرب والمقاومة. الحرب، غالبا ما تكون انتقامية. وكونُها انتقامية، فالبلد المُحارِب، أي إسرائيل، لا يتراءى له في الأفق إلا النصر. ولهذا، فاستعمال كل أنواع أسلحة الدمار مباح، وإن أتت هذه الأسلحةُ على الأخضر واليابس. أما المقاومة، فهي، أولا وقبل كل شيءٍ، نابِعةٌ من عدالة قضيةٍ، أي نابعة من الحق. والمقاومة أسلحتُها متواضعة بالمقارنة مع أسلحة العدو الإسرائيلي. ولهذا، فإلى جانب الأسلحة المتواضعة، هناك الحيلة والذكاء اللذان هما عنصران أساسيان في تنظيم المقاومة. فإن كان لإسرائيل ذكاءٌ، فلِلمُقاومة ذكاءٌ ونصف كما يقول المَثَل الفرنسي à malin, malin et demi.

أما الدليل على وجود الدعمُ السياسي من طرف الدول الغربية، هو أن هذه الدول متَّفقة، تمام الاتفاق، على أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن النفس. بينما الفلسطينيون، عندما يدافعون على عدالة قضيتهم، في غالب الأحيان، تُصنَّف عملياتُهم كعمليات إرهابية. وهذا هو ما حدث ويحدث حيث نفس الدول الغربية تعتبر حماس منظمةً إرهابية. وتصنيف حماس على قائمة المنظمات الإرهابية لا يُغيِّر، ولو بقِيد أنملة، عدالةَ القضية الفلسطينية ولن يغيِّرَ عدالة هذه القضية. إنه، بكل بساطة، تصنيفٌ غير عادلٍ، والعالم كله يعرف أنه نابعٌ من سياسة الكِيل بمكيالين. وحتى إن اعترض، من حينٍ لآخر، البعضُ من الدول الغربية على قتل المدنيين من طرف إسرائيل، فإن هذه الدول، كلها بدون استثناء، لا يُزعجُها القضاءُ على حماس واستئصالِها من الوجود. بل إن العالمَ الغربي قادرٌ على أن يفرضَ وقفَ إطلاق النار على إسرائيل، لكنه لم يفعل. بل إن ألمانيا ترفض رفضا قاطعا وقفَ إطلاق النار هذا واستمرار الحرب على غزة إلى حين القضاء على حماس. لماذا؟

لأن القضية الفلسطينية فكرٌ ومقاومة. وهذا الفكر وهذه المقاومة ينتقلان من جيلٍ لآخر. بل إنهما مترسِّخان في وِجدانِ الفلسطينيين، وبالتالى، لن تستطيعَ أيةُ قوةٍ من إزاحتهما من هذا الوِجدان. وحتى، وهذا، بكل تأكيدٍ، من باب المستحيلات، إن تمكَّنت إسرائيل من القضاء على حماس، فكل فلسطينيٍّ هو، في حد ذاتِه، حماس. فكيف لإسرائيل التي لم تستطعْ أن تقضِيَ، منذ أكثر من 75 سنة، على حماسٍ واحدٍ، أن تقضيَ على "حماسات"؟

وخارج الدعم اللامشروط لدول العالم الغربي، فإن غزة تواجه كذلك صَمتَ ما تبقى من دول العالم التي أبانت عن سكوتٍ مُريبٍ أمامَ جرائم إسرائيل، على الأقل، خلال الأسبوعين الأول والثاني من اعتداء هذه الأخيرة على غزة. لهذا، فحماس تتواجه ميدانيا مع إسرائيل وسياسيا مع صمتِ العالم بدُولِه ومؤسساته ومنظماته السياسية. فماذا يعني هذا الصَّمتُ الرَّهيبُ أمامَ جرائم الإبادة الوحشية التي ترتكبُها إسرائيل في حق المدنيين الغزَّاويين؟

أولا، ماذا كان على الدول التي التزمت الصَّمتَ أن تفعل؟ أضعف الإيمان، كان عليها أن تندٍِدَ بجرائمَ إسرائيل وتستنكرَها. لكنها لم تفعل. لماذا؟

لأن هذا الصَّمتَ له مبرِّرٌ واحدٌ لا ثانيَ له. مبرِّرٌ يمكن تفسيرُه من خلال المصالح. فكل دولة لها مصالحٌ تريد، بالطَّبع، الحِفاظَ عليها. فالتزام الصَّمتَ، غالبا ما تتبناه الدول الضعيفة. وضُعفُ هذه الدول يمكن تفسيرُه من خلال فقدان هذه الأخيرة لكل مقوِّمات القوة على المستوى الاقتصادي على الخصوص وعلى المستوى السياسي، الاجتماعي، التَّعليمي، العسكري، العلمي، التكنولوجي…

ومثل هذه الدول لا تأثيرَ لها على مُجريات الأمور على المستويين الجيو سياسي والجيو استراتيجي. وبالتالي، فإن صوتَها غير مسموع. وحتى إن تجرَّأت على كسرِ الصَّمتِ، فإنها تكتفي بالتَّنديد. والتَّنديدُ لا توليه إسرائيل وحلفاءُها الغربيون أي اهتمام ما دام لا تأثيرَ له على مواقف الدول الغربية التي تسيطر على الأمم المتحدة وعلى مجلس الأمن.

ومَن يسيطِر على الأمم المتحدة، وخصوصا، مجلس الأمن، يسيطر على العالم بأسره. ومن بين الدول المسيطرة على مجلس الأمن، ثلاثة دول غربية (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة وفرنسا)، التي هي، في نفس الوقت، دول قوية على جميع المستويات. أما العضوان الآخران في مجلس الأمن، أي الصين وروسيا، فمصالحُهما الاقتصادية تأتي فوق كل اعتبار. وإضافةً إلى السيطرة على الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فالدول الغربية الثلاث توجد بها لوبيات يهودية، إسرائيلية قوية سياسيا، ماليا، اقتصاديا وثقافيا. وغالبا ما تؤثِّر هذه اللوبيات على قرارات ومواقف هذه الدول الثلاث.

وبالتالي، اجتمعت الجامعة العربية أو منظمة التَّعاون الإسلامي أو هما معا أو لم يجتمعا، فالقرارات، وخصوصا قرار وقف إطلاق النار، تُتَّخَذُ خارجَ نطاقهما. فكل بيانٍ صادرٍ عن هاتين الهيئتين لن يُغيِّرَ في الواقع شيئا لأن العالمَين العربي والإسلامي فاقدين للقوة كما سبق تفسيرُها أعلاه. في هذا العالم، إما أن تكونَ قويا، فيُحسب لك ألف حساب ويُسمعُ لصوتك. وإما أن تكونَ ضعيفا، فكأنك غير موجود.

وأخيراً، سأُعيدُ الجوابَ عن السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة : "مَن يُحارِب ويُبِيدُ أهلَ غزة"؟ مَن يُحارب ويُبيد أهلَ غزة هم، بالطبع، ميدانيا، إسرائيل، وعن بُعدٍ، الدول الغربية، وبالأخص، الدول القوية منها، وكذلك صَمْتُ باقي دول العالم!!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى