د. محمد عبدالله القواسمة - القوة المنفلتة. القتل من أجل القتل‏ د محمد عبدالله القواسمة‎

يلاحظ أن إسرائيل، لم تعد تلك التي خبرنا جرائمها طوال الخمسة والسبعين عامًا الماضية بعد الذي حدث لها في السابع من أكتوبر 2023م، من خسائر في الأرواح والمعدات، وما جر ذلك من انحطاط سمعتها، وضياع هيبتها العسكرية، وانهيار معنويات جيشها، أمام فئة قليلة من المقاتلين لا يملكون سوى الإيمان بالله والإرادة القوية، والأسلحة المصنوع معظمها محليًّا.

لم تعد إسرائيل تستخدم قوتها العسكرية المدمرة من أجل هدف إجرامي معين، مثل الاستيلاء على الأرض، أو تهجير الفلسطينيين إلى خارج وطنهم، أو إخضاع الناس الذين وقع عليهم الاحتلال، كما فعلت عامي 1948م و1967م.

لم تعد إسرائيل في استخدام قوتها تركز على شيء؛ غدت قوة عابثة، منفلته، عمياء، فاقدة السيطرة على أعصابها، تدمر القرى والمدن والمخيمات من أجل التدمير ذاته. لقد انتقل إلى جنودها ما أصيب به قادتها من الاعتلال النفسي أو الاجتماعي Psychopathy فصاروا يضربون في كل اتجاه، لا هدف لهم سوى إطلاق النار، وإشعال الحرائق في كل مكان، فلم يسلم منهم الحجر والبشر والشجر. حتى إنهم أطلقوا النار على رفاقهم، وقتلوا بعضهم بعضًا، تحت مسمى نيران صديقة.

ما يثير الاندهاش أن إسرائيل صاحبة القوة المنفلتة هذه عانى صانعوها الأوائل من العذاب والقهر، والتمييز العرقي، والحرق في أفران الغاز النازية، وأنها ما زالت، كما تدعي، غارقة في الحزن لما حلّ بأهلها في معسكرات الاعتقال في أوشفيتز وغيره. والسؤال هنا كيف تمارس المجازر وتعيد محرقتها على الفلسطينيين في قطاع غزة؟ إن ما تفعله إسرائيل في هذه المحرقة الجديدة يجعل كثيرين يشككون بمحرقة اليهود النازية، أو يشككون في الصهاينة الموجودين في فلسطين بأنهم ليسوا من نسل أولئك الذين عانوا من الاضطهاد النازي؛ فمن يجرب الحرق لا يجربه على الآخرين ويكره أن يصاب غيره به، ومن يفعل ذلك يكن ميت الضمير فاقد الإنسانية.

إن المحرقة اليهودية غدت باهتة ضئيلة مقابل المحرقة الفلسطينية المعاصرة. إنها نسخة معدلة من الهولوكوست النازية، وهي متفوقة عليها، بل على غيرها من المحرقات. فما معنى أن يقصف بالفسفور الأبيض مرضى الكلى ومرضى السرطان أو الأطفال الخدج في مستشفيات القطاع؟ ما معنى أن تغير الطائرات على المساجد والمخابز وسيارات الإسعاف، وتدمر المنازل على رؤوس ساكنيها؟ ما معنى قطع الماء والكهرباء والطعام عن مليوني نسمة بعد حصار طويل مؤلم؟ إنها الداعشية بعينها، أو البربرية ذاتها.

لم تخرج إسرائيل عن تاريخها الجرمي المزيف، الذي ورد في "سفر يشوع" في العهد القديم في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر قبل الميلاد. فقد أوصاهم يوشع بن نون بأن يدمروا كل شيء في مدينة أريحا الكنعانية، فقتلوا بعد هدم أسوارها الرجال والنساء والأطفال والبقر والثيران والحمير.

لا عجب أن تفعل إسرائيل بقطاع غزة والضفة الغربية ما فعله يوشع بأريحا، وأن تنطلق الفتاوى وتصريحات القادة العسكريين بممارسة القتل والإبادة والإهانة لكل ما هو فلسطيني وعربي. فيصرح الزعيم الروحي لجماعة غوش أمونيم الحاخام تسفي يهودا كوك بأن" الجيش الإسرائيلي كله مقدس لأنه يمثل حكم شعب الله في أرضه" كما يورد إسرائيل شاحاك في كتابه " تاريخ اليهود" الذي نشرته عام 1973 قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي، ووزعته على جنودها في الضفة الغربية ما قاله الكاهن الرئيسي لتلك القيادة: ينبغي عدم الثقة بالعربي في أي ظرف من الظروف، وفي الحرب يُسمح لقواتنا بأن تهاجم العدو بل إنها مأمورة بالهالاخاه (الشريعة اليهودية) بقتل حتى المدنيين الأبرياء.

وفي بداية معركة طوفان الأقصى، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أنه أمر بفرض حصار كامل على قطاع غزة، فلا كهرباء ولا ماء، ولا طعام، ولا دواء. "نحن نقاتل الحيوانات البشرية ونتصرف وفقا لذلك"

لعل مأزق إسرائيل في استخدام قوتها يتمثل في عدم فهمها للآخر الذي تقاتله. فمن تقاتله إنسان له تاريخ وحضارة، إنسان احتلت أرضه وشرد واضطهد على مدى سنوات طويلة. إنه إنسان له الحق في الحياة الحرة الكريمة، وهو يقاتل من أجل ذلك كله: الوجود والأرض والتاريخ والحضارة.

آن لقوة إسرائيل المنفلتة والعابثة أن تتوقف، وأن يقف في مواجهتها وصدها ليس الشعب الفلسطيني فحسب، بل الشعوب الحرة كلها، والناس الأحرار في مختلف أنحاء العالم؛ لأنها قوة لا تضر بالشعب الفلسطيني وحده بل بالشعوب الأخرى، بما تسنّه من قواعد لقتل الضمير الإنساني، ولما تمهد له من حروب لا تنتهي إلا بحرب عالمية ثالثة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى