الدكتور زياد العوف - فلسفة الموت عند أحمد أمين

- توطِئةٌ لا بُدَّ منها:
لا ريب في أنّ الحرب الضروس التي تدور رحاها الآن في غزّة العزّة بين المقاومة الفلسطينية الباسلة وقوات الكيان الصهيونيّ المجرِم توجبُ تسليط الضوء على معنى "الشهادة" ومغزاها.
قد يكون الموت هو الحقيقة الكبرى الوحيدة المؤكَّدة في حياة البشر، على أنّ هذه النهاية المحتومة لا تكتسب الدلالات نفسها لدى كلّ منّا؛ إذ إنّ مفارقة الحياة على فراش الشيخوخة أو المرض تُفارِق في كثير من جوانبها مجابهة الموت ونيل الشهادة في ساحات القتال؛ في الحالة الأولى يستسلم المرء إلى مصيره المحتوم استسلامَ العاجز الذي وصل إلى النهاية الطبيعية لحياته على هذه الأرض، في حين يندفع المجاهد إلى ساحة المعركة وهو يضعُ الموت نُصْبَ عينيه في سبيل تحقيق ما يصبو إليه.
وهو ما عبّر عنه شاعر فلسطين الشهيد عبد الرحيم محمود (١٩١٣-١٩٤٨م) حيث يقول:
-سأحملُ روحي على راحتي
وأُلقي بها في مهاوي الردى
-ونفسُ الشريفِ لها غايتانِ
ورودُ المنايا ونَيلُ المُنى
- لعَمرُك إنّي أرى مصرعي
ولكنْ أغُذُّ إليه الخطى
-أرى مصرعي دونَ حقّي السليبِ
ودونَ بلادي هو المُبتَغى
الأديب والمؤرِّخ والمفكِّر والكاتب أحمد أمين(١٨٨٦-١٩٥٤م) واحد من أعلام الثقافة العربية في القرن العشرين . ولِد في مدينة القاهرة وبها نشأ وتعلّم ومارس عدداً من المهن والنشاطات العلمية والثقافية في أكثر من مجال؛ حيث بدأ حياته العملية قاضياً إثرَ تخرّجه في " مدرسة القضاء الشرعي" عام (١٩١١م)، ثمّ أسّس وأشرف على( لجنة التأليف والترجمة والنشر) عام( ١٩١٤م) وهي التي عُنيتْ بإصدار الكتب الأصيلة والمترجمة في شتّى فروع الثقافة والمعرفة ، في مسعى جاد ومدروس لنشر العلم والمعرفة وللتواصل الفعّال مع الحضارات والثقافات الأخرى ، فنشرتْ ما يربو على مئتي كتاب في شتّى المجالات ، كما عمل أستاذاً في كلّية الآداب ، فعميداً لها في الفترة بين عامَي ١٩٢٦ و ١٩٣٩م ، وهو العام الذي استقال فيه من هذا المنصب إثر خلافه مع المسؤولين عن الجامعة والتعليم آنذاك حول بعض القضايا الإدارية والتنظيمية .
ثمّ مالبث أنْ أصدر مجلّة( الثقافة) الأسبوعية عام(١٩٣٩م) فكانت صفحاتها ملتقى لرجال الفكر والقلم البارزين ، ناهيك عن مقاله الأسبوعي القيِّم الذي كان يزوّد به المجلّة.هذا، وقد واظب على إصدارها حتى قبيل وفاته عام( ١٩٥٣م).
وقد كان لأحمد أمين فضل السَّبق في الاهتمام بنشر الثقافة وتثقيف الجمهور عندما أُسنِدتْ إليه مهام (الإدارة الثقافية) في وزارة المعارف عام( ١٩٤٦م) فعمل على إنشاء المراكز الثقافية التي تطوّرت فيما بعد إلى ما يُعرَف بقصور الثقافة.
ولعلّ تراث أحمد أمين الأهم يتمثّل في مؤلّفاته القيّمة والمتنوّعة التي أتحف بها المكتبة العربية ، فكانتْ- ولا تزال- مصدراً مهمّاً للثقافة والعلم والمعرفة ، ويظهر في كلّ هذه المؤلَّفات حرص الكاتب على دقّة التعبير وعمق التحليل مع سهولة الألفاظ ووضوح الأفكار ؛ إذ كان معنيّاً بإبلاغ المعرفة لا باستعراضها.
وحسبنا أن نشير هنا إلى بعض هذه الكتب :
١- الموسوعة الإسلامية عن الحياة العقلية في الإسلام ، وتتضمّن:
- فجر الإسلام.
- ضحى الإسلام ،في ثلاثة أجزاء.
- ظهر الإسلام ، في أربعة أجزاء.
٢- النقد الأدبيّ ، في جزأين.
٣-زعماء الإصلاح في العصر الحديث.
٤- كتاب الأخلاق.
٥- الشرق والغرب.
٦- حياتي.
٧- فيض الخاطر ، في عشرة أجزاء.
على أنّ الكتاب الأخير( فيض الخاطر) يمثّل في مقالاته المتنوّعة والغنيّة، التي ظهر معظمها في مجلّة( الثقافة) ، شخصية الكاتب الإنسانية والثقافية خير تمثيل ، وذلك بما تتحلّى به من حبّ للعلم ، وإخلاص في العمل ، واستقلال في الرأي ، مع وسطية واعتدال ، وتواضع ودماثة خلق .
رحم الله أحمد أمين فقد كان بحقّ أستاذاً للجيل وملهِماً لطلاب العلم والمعرفة على مرّ الأيام.
هذا وقد وقع اختياري على سطور مختارة من مقاله القيِّم الذي يحمل عنوان" الموت والحياة" الوارد في الجزء الأول من كتابه( فيض الخاطر).
جاء في المقال:
" أبتْ عليَّ نفسي أنْ تكتب اليوم إلّا في الموت. وهل نتاج الكاتب إلّا قطعة من نفسه؟.... .......
وقد كرهتُ للقرّاء عنوان الموت، فأضفتُ إلى الموت الحياة. ولست أدري لمَ يلطِّف ذكرُ الحياة الموتَ، ولا يلطِّف ذكرُ الموت الحياةَ!
دعا إلى هذا أنّي فُجِعتُ هذه الأيام بموت أصدقاء كأنّهم كانوا على ميعاد، وكأنّ لموت الأصدقاء أيضاً موسماً كسائر المواسم وإنْ لمْ يُحدَّد زمنهُ ويُعرَف مداه.
تنفكُّ تسمعُ ما حييتَ( م)
بهالكٍ حتى تكونهْ
والمرء قد يرجو الحياة( م)
مؤمِّلاً والموتُ دونهْ
ولكنْ ما الجزع من الموت وقد طال عهدنا به وعرَفه بنو آدم منذ عرفوا الحياة؟ ولمَ لمْ يألفوه كما ألفوا كثيراً من المرِّ حتّى اعتادوه؟ وليس الموت في ذاته مرّاً ولا أليماً وكما قال أحد الرواقيين:"إنَ الموت هو وحده المصيبة التي لا تمسُّنا، ففي حياتنا لا موت، وإذا جاء الموتُ فلا حياة". وقد نظم المتنبي هذا المعنى فقال:
والأسى قبلَ فُرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراقِ
ولكنْ أعظمَ الناسُ شأنَ الموتِ لما أحاط به من ظروف، ومااتّصل به من خيالات، وأُثير حوله من رعب- بالغ بعض رجال الدين في تفظيع الموت، وهوّلوا من شأنه تهويلاً تنخلع له القلوب، وتقشعرُّ منه الجلود، لأنهم رأوا في ذلك درساً قاسياً يردع المجرم عن إجرامه، ويزعُ الآثم عن إثمه؛ ولكنْ أخشى أنْ يكونوا قد أفرطوا إفراطاً شلَّ النفس وأشاع فيها اليأس-........
............ ثمّ ما هذه الأخلاق التي هي أشبه ما تكون بأخلاق العبيد!
لا نُدعَى للخير إلّا بالعصا، ولا تُطلَب منّا الفضيلة إلّا بالسياط!- أليس خيراً من ذلك أن يحدونا إلى الخير الحبُّ، لا أنْ يسوقنا إليه الرعبُ!
............. ...... ..
...... ........ .....
ثمّ كان من الأدباء ما كان من رجال الدين:.... .......... ....
يعجبون كيف كان الموت وكيف نزل، ويُلهبون عواطف الناس، ويثيرون أشجانهم..... ......
ثمّ أخطأ الناس في القياس، فظنّوا أنّ النفس تألم في الحياة الأخرى بما تألمُ به في الحياة الدنيا؛ ظنّوا أنّ القبر يُوحش بعزلته كما يستوحش الحيُّ من عزلته، وأنّ القبر يُرعب بضيقه وظلمته، كما يتبرّم الحيُّ بضيق المكان وظلمته، وأنّ الميّت يألم من البرد القارس كما نألم، ويضجر من الحرّ القاسي كما نضجر، وغاب عنهم إدراك الفرق بين الحياتين، والاختلاف الواسع بين الطبيعتين:
إذا افترقتْ أجزاء جسمي لمْ أُبَلْ
حلول الرزايا في مصيف ولا مشتى
إنّ تفظيع الموت يدعو إلى نوع من الحياة لا هو حياة ولا هو موت.
ولعلّ كثيراً من رذائل الشرق سببه مااعتاده قادتهم من تهويل الموت وتفظيع شأنه........ .....
... ....... .....
لقد جلَّ خطْبُ الحياة إنْ كان كلّما مات قريب أو صديق ذابت النفس حسَرات، وأظلمتْ في وجوهنا الدنيا وتطرّق إلينا اليأس.
لا.لا. اعملْ لدنياك كأنّكَ تعيش أبداً، وتبّاً لهؤلاء الذين يخلعون قلوبنا بالموت فنكون طُعمةً لمَن يحبون الحياة.
ولنبدأ دعوة جديدة قوامها العمل للحياة " ولا بأس بالموت إذا الموت نزَل" .**


*- دكتور زياد العوف، الأدب العربيّ الحديث- قراءة جديدة، مؤسّسة يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠٢٠م، ص ص٧٥-٨٠
**- أحمد أمين، فيض الخاطر، ج١، مكتبة النهضة المصرية،القاهرة،١٩٥٣م، ص ص٨٧-٩٠

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى