المقاهي د. علي زين العابدين الحسيني - مقهى العيسوي بدمياط

لا يستطيع المثقف أن يعيش منعزلًا عن الناس، فكلّ من كان في دائرة الإبداع لا بدّ وأن يتصل بالناس اتصالًا مباشراً أو غير مباشر، ويختلف هذا الاتصال من شخص إلى شخص على أن كثيراً من أرباب العلم لا يصفو لهم الذهن إلا بالعزلة عن المجتمعات العامة والخاصة. لكن يأتي أمر مهم وهو مِن أين يحصل المبدع على أفكاره، إذ العزلة التامة تفوت عليه الارتباط المباشر بحيوات الناس وأخبارهم، وهو في حاجة إليهم ليستقي منهم أدبه وإبداعه، وإلّا خرج أدبه بعيداً عن روح عصره فكأنما يخاطب أناساً لا يعيشون معه ولا يفكرون مثل تفكيره أو قريباً منه.
وقد يرفض كثيرون فكرة الالتحاق بالندوات الثقافية لأسباب ظاهرة لدى الجميع فيلجأ نفرٌ منهم حينئذٍ إلى فكرة المقاهي الثقافية، وهي قائمة منذ عهد طويل، ليست حديثة عهد بالنشاط الثقافي، فهي تحوي الملامح المجتمعية العامة.
وإنّه لمن الشائق حقاً أن تنزل في مكان ما أو تجلس في مقهى ما فيقال لك إن هذا المقهى يجلس فيه الكثير من الشخصيات الثقافية الكبيرة؛ لأن ذلك يبعث إلى النفس جلالًا خاصاً هو جلال المعرفة والأدب، وهذه العظمة لبعض الأماكن هي جزء يسير من جلال تلك الشخصيات الفريدة.
وفي الآونة الأخيرة لفت نظري نشاط الكاتب القدير والقاص معلم الأجيال الأستاذ سمير الفيل من أدباء مدينة دمياط وصاحب عشرات الكتب القصصية، أقرّ أولًا أنه ليس لي معه علاقة تربطني، فلا أذكر أني قد التقيت به، وهذا ما أتأسف عليه كثيراً وإن كنت نزلت دمياط كثيراً خصوصاً عند زياراتي المتكررة لبركة دمياط وسيد علمائها سيدي "محمد سعد بدران القاوقجي".
أقول إن علاقتي بالأستاذ "سمير الفيل" لا تتعدى أن تكون قراءة محب لكتبه وإنتاجه المعرفي وصداقة على صفحات [الفيس بوك] وأنا أرفض المسمى الأخير وأود أن يغير الفيس بوك من سياسته، فيميز الطالب المحب عن الأستاذ الطلعة.
وقد لاحظت كما لاحظ غيري ترداد اسم "مقهى العيسوي" بصفة دورية على صفحته، وفي المقهى نشاط ملحوظ لاجتماع أهل الأدب والفكر، يتبادلون الأحاديث الثقافية، ويعقدون المشاريع العلمية، ويتصل فيه أدباء المدن بأدباء دمياط، ومنهم الأستاذ الكبير فكري داود صاحب الروايات والمجموعات القصصية الذي عرف في كتاباته بحرصه على الهوية المصرية، ورصد التحولات المتعددة في قطاع الريف.
وفي بعض الجلسات تقدم الأوجه الشابة، فيفتح لهم الأستاذ "سمير" صدره، ويبذل غاية جهده في نفعهم، ففي صباح يوم الجمعة 7 يوليو 2023م التقى بالشاب القاص "محمد الغريب" من أهالي المنصورة، وفي بعضها يستمع إلى إنجازات الشباب وإبداعاتهم، فيشجع الحضور، ويبصرهم بمواطن الحسن والضعف في كتابتهم، وقد يهدي نسخاً من أحدث إصداراته؛ فكتب على صفحته: "على مقهى العيسوي ومعي خمس نسخ من ذئاب مارقة".
يقضي الأستاذ "سمير الفيل" وقته في هذا المقهى ينشد الراحة والأمان النفسي، ويعيش في هدوء الكبار ووقارهم، يجدد شبابه بجميل الذكريات مع عارفي فضله، ويشارك بأفكاره في نقاشات ثقافية متعددة، وعلى الرغم من شيخوخته لا يزال في إنتاجه ونقاشه شاباً في ربيع العمر، مبدعاً لم يجف له قلم، يتخذ من واقعه وبيئته مادة ثرية يخدم بها أدبه، ويتعرض في قصصه بتحليل قضايا المجتمع ومشاكله، وبطلعته وأناقته ونظراته الذكية يخطف انتباه جالسيه!
وفي صباح يوم 2 يوليو زارهم الأستاذ "شريف صالح" Sherif Saleh الكاتب والصحفي الشهير، وعن هذا اللقاء كتب لي مشكوراً: "تعودت لقاء مبدعي دمياط على مقهى العيسوي؛ لأنه مقابل قصر الثقافة مباشرة وقريب من قلب المدينة القديمة، وعلى رأس هؤلاء أديبنا الكبير سمير الفيل أحد أكثر الأسماء نشاطاً، وآخر لقاء جمعنا كان بحضور الكاتب صلاح مصباح والروائي فكري داود.
التقينا على المقهى لترتيب مناقشة مجموعتي "مدن تأكل نفسها" في مختبر السرديات، وبعدها أخذنا جولة لزيارة مسجد "عمرو بن العاص" الذي يعدّ ثاني مسجد بني في مصر بعد مسجد القاهرة الذي يحمل نفس الاسم".
وقد يزورهم في المقهى مَن انقطع عنهم لسنوات، فالمكان حينئذٍ ملتقى اجتماعي كبير، كتب الأستاذ سمير الفيل بتاريخ 13 أغسطس 2023: "منذ حوالي 20 عامًا اكتشفت عبد الوهاب الشربيني، وتحمست لكتاباته القصصية، كتبت كلمة الغلاف الخلفي، واخترت معه العنوان "إنسان عادي" وقد صدرت المجموعة عن فرع ثقافة دمياط، ولاقت استحسانا بالغاً، بعد تعرضه لمشكلات نفسية، واجتماعية انقطع تماما عن الكتابة، وإن كان يزورنا في المقهى من وقت إلى آخر".
لقد استمدّ "مقهى العيسوي" قيمته وجلاله هذه الأيام من جلسات الأستاذ الكبير "سمير الفيل" ورفاقه، ومن حديثهم المتكرر عن الأدب وأربابه، وهنا لا بد من الاعتراف أن الأماكن قد تتحول إلى الخلود بفضل الأشخاص، ومهما كان المكان ضئيلًا فإنه بفضل الكبار سيبعث إلى النفوس آثاراً خاصة يكون بها في قائمة الأماكن التي ترتبط بها أحداث جميلة، وكم تمنيت أن تسجل وقائع تلك الجلسات في كتاب خاص يستفيد منه الناشئة ومحبو هذه الأماكن.
أنا من المهتمين بالمقاهي الثقافية والأماكن القديمة، وعادة عند زيارتي لأيّ مدينة أو دولة أسأل أهلها عن أبرز تلك المقاهي وأشهر روادها من جيل المثقفين، وكم كتبتُ عن كبار السن المحافظين على الجلوس فيها كثيراً من الروايات اللطيفة عن أعلام تلك المدن؛ بحيث لو جمعت تلك الأخبار والأحداث النادرة لخرجت في مؤلف كبير يحتوي على كثير من النفائس.
إنّ للمقاهي الثقافية دوراً كبيراً في إحياء الثقافة في القرن الماضي، فكان يرتادها كبار المثقفين والشعراء والأدباء من مختلف الاتجاهات، ويكاد يكون في كل محافظة أو مدينة كبيرة مقهى ثقافي يلتف حوله مثقفو هذه المدينة، وآخر من عرفتهم ممن كان حريصاً على معرفة أخبار هذا المقاهي وتتبع أخبارها وروادها أستاذي الأكبر العميد "محمد رجب البيومي" وكان يطلب من غيره أن يحرص على تدوين ذكرياتها، فلا مانع لديه وهو العالم العميد الأزهري أن ينزل للجلوس على هذه المقاهي التراثية ذات الصبغة المعرفية.
لا مانع لدى أستاذنا الأكبر #محمد_رجب_البيومي أن ينزل ساحات الأدباء؛ كالمقاهي الثقافية المعروفة في هذا الوقت، ويحاور روادها، ويكتب عنهم الفرائد والدرر، وللكبار مقاه في حيواتهم تعرف بهم، فللزيات بالمنصورة مقهى، وللرافعي بطنطا مقهى، ولأحمد محرم بدمنهور مقهى، هذا بخلاف مقاهي العاصمة المشهورة؛ كمقهى نوبار، ودار الكتب، والإنجلو، وغيرها.
وكان أستاذنا "البيومي" يتساءل عن رواد هذه الأماكن، ويطلب من المعتنين سؤال الأحياء في هذه الأماكن الذين يحتفظون بذاكرة قوية عن الأحداث التي كانت تدور في هذه المقاهي؛ لأن عادة الأدباء أنهم يحتاطون في حديثهم في الندوات العامة، وأما في المقاهي فإنهم يتكلمون في النقد الجريء، ولذا تأتي أهمية تدوين أخبار المقاهي وروادها من وجهة نظره، وقد اعترف بنفسه أنّه قد تضاءلت مكانة المقاهي الثقافية فيما بعد، لكنّه كان يفد إلى بعضها؛ كمقهى الفيشاوي بالقاهرة حتى يتذكر الماضي، ويوازن بين عهدين.
"مقهى العيسوي" ملتقى أدبي لكبار أدباء دمياط لم ينل حظه من مؤرخي ثقافة العهد المعاصر، ولم يظفر بما يستأهله من عناية بمجالسه وأخبار مثقفيه، وهو الأمر الذي أرجو تداركه سريعاً من أستاذنا الكبير سمير الفيل ورفاقه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى