إبراهيم أحمد - الكلب ما يزال ينتظر، وصاحبته ما تزال تنتظر، وأنا أنتظر، وحبيبتي التي لا تدري إنني أحبها، تبدو متمهلة

كنت أقترب من باب المحل الكبير، حين انتهت المرأة الطويلة الممتلئة من إيقاف كلبها عنده، ولوحت له مشجعة، بينما ربض هو مشرئباً مستندا على مؤخرته محدقاً بي باستنكار وتحفز؛ ما جعلني أرتد إلى الوراء وأعود القهقرى لأجلس على مقعد طويل على مسافة منه، متحاشياً المرور بجانبه ودخول المحل! أنا منذ طفولتي أخاف الكلاب، حين عظني كلب مسعور ونقلوني إلى المستوصف الصغير، أعطوني حقنة في ظهري، ليس هي وحدها التي أخافتني، بل ما كنت أسمعه حولي من أنني قد أصاب بجنون وسعار يجعلني أعض الناس كالكلب، وربما افترسهم!

لذلك بقيت أتحاشى الكلاب وأخشى إغضابهم، زادني خوفاً أن هذا الكلب أسود ضخم وبأنياب بارزة، وإنه يرمقني بعينين حمراوين، وشدقين مفتوحين يمرر عليهما لسانا طويلاً، كأنه صار يتشهى لحمي!

قلت لأنتظر حتى تخرج المرأة، كنت من مكاني أستطيع أن أراها من خلف الزجاج، انعطفت إلي قسم الزهور القريب، لكنها توقفت تنتظر أيضاً، كانت البائعة تعد طوقاً كبيراً من الزهور، لا أدري إن كان لجنازة أم لعرس! فالأزهار كما نعرف تستدعى دون استئذانها للأفراح والأحزان. صرت أنا انتظر الكلب أن يذهب، والكلب ينتظر المرأة أن تأتي، والمرأة تنتظر البائعة أن تنتهي من أزهار الأحزان أو الأفراح، ما هذه الورطة؟ لو كان ما جئت من أجله في محل آخر لما جلست هنا أنتظر أمام هذا الكلب. جئت لأمر لا يعرفه ولا يقدره أحد سواي، ولا وجود له مطلقاً في أي مكان آخر سوى في هذا المحل، لا أبداً، هذا الأمر الذي جئت من أجله، لا وجود له سوى هنا، لكن يا لسوء حظي، الكلب الضخم على الباب، صاحبته ما تزال تنتظر هناك، والبائعة منشغلة بإعداد الإكليل الذي لا أعرف أهو لجنازة أم لعرس، وقت عمل المحل يوشك أن ينتهي، لم تتبق سوى دقائق، ويقف الحارس، لا يسمح بدخول أحد، يسمح فقط بخروج الزبائن،والبائعة مازالت منشغلة. لو كان ما أريده في محل أخر هل سأبقى أجلس ذليلاً منكمشا أمام كلب؟ لماذا مازلت أسمي تلك الفتاة الأجمل من كل ما حولها من زهور مجرد بائعة؟ لم لا أقول الحقيقة؟ أنها حبيبة روحي، هي الزهرة الوحيدة التي نبتت في قلبي بعد أن أضحى رماداً، ولا أمل لي مطلقا بها، لكنها حبيبتي دون أن تدري، وكيف اجعلها تدري وأنا قد جاوزت السبعين، وهي في الثلاثين أو أكثر قليلا، وهي بهذا الجمال القاهر؟ كل أسبوع بمثل هذا اليوم أمر عليها أشتري منها زهرة واحدة بيضاء واحدة، وألقى عليها نظرة؛ أعيش عليها أسبوعي كله بأحلام شبابي المدمر في بلدي القديم،دون أن أنطق ولا حتى كلمة واحدة، دون أن أجرأ على إهدائها الوردة رغم أن الفكرة راودتني الليالي كلها! نظرة قصيرة تمنحني أملا في هذه الدنيا الفانية، تعطي جسدي طاقة البقاء في جليد وظلام هذا البلد الغريب! ولكن اليوم يقف هذا الكلب الأسود الفظيع عند الباب. الكلب ما يزال ينتظر، وصاحبته ما تزال تنتظر ،وأنا أنتظر ، وحبيبتي التي لا تدري إنني أحبها، تبدو متمهلة متأنية في عمل الإكليل ليذهب إلى جنازة أو عرس! بقيت دقائق ويقفل الباب، سأبقى أنتظر رغم أن البرد صار يخترق عظامي، من يدري؟ قد يحدث الكثير في دقيقة واحدة!
أعلى