محمود سلطان - الحرب على غزة: مثقفون من "حظيرة" إلى "حظيرة"

أول من أبدع ـ بشكل رسمي ـ فكرة "تدجين المثقفين"، وإحالتهم إلى أدوات تبرير للسياسات الرسمية للدولة، كان وزير الثقافة الأسبق د. فاروق حسني ( 1987 ـ 2011) والذي قالها صراحة:" لقد أدخلت المثقفين الحظيرة"!.
والحظيرة ـ هنا ـ مصطلح دقيق، وشديد الدلالة والمغزى: فهو من جهة، تعبير مهذب عن كلمة "الزريبة" وفي القاموس فإن الحظيرة تعني :" مَوْضِع يُحيط به سِياج من خَشَب أو أَغْصان تأْوي إليه الماشية.. "حَظيرةُ غَنَم".
وفاروق حسني المثقف والفنان، استخدم المصطلح، بدقة شديدة، لأنه لن يقبل بدخول "الزريبة" إلا كل من يقبل "العلف" و"التسمين" بالمال السياسي الموجه.. نظير توظيفة وربطه في ساقية أجندة السلطة، يدور معها حيث دارت تروسُها.
يقول فاروق حسني في إشارة إلى هدفه في "عسكرة المثقفين" وإلغاء الإختلاف ووضع معايير جديدة في وزن العمل الإبداعي: "إن ما نواجهه لا تكفى معه قصائد حماسية محفزة، ولا كتابات مرتفعة الصوت.. وإنما ضرورة وحدة الشعب مع نظام الحكم من أجل تخطى العقبات التى تتطلب من الجميع التكاتـف والعمل فى شكل متناسق لا يشذ عن منظومته أحد" وهي السياسة التي لخصها حسني بصراحة جارحة " لقد أدخلت المثقفين حظيرة وزارة الثقافة"!
كانت القاهرة ـ حتى ذلك الحين ـ عاصمة الثقافة والتأثير التي من شأنها "ترفع من تشاء وتحط من تريد"! بيد أنها ـ فيما يبدو ـ كانت خبرتها "مُلهمة" أغرت عواصم الهامش التي انتقلت إليها ـ بعد انهيار الربيع العربي ـ مراكز التأثير وصناعة النجوم، والتي فازت بها، في سياق وثيق الصلة، بما حدث في القاهرة مع وصول الإخوان إلى السلطة، وشهور العنف التي تلت سقوطهم في أقل من عام.
إذ تحولت الثقافة ـ في وعي عواصم الهامش بالخليج ـ إلى "استثمار أمني"، وإدخال المثقفين إلى "الديب فيريزر" وليس إلى الحظيرة.. حيث تعمدت صناعة نخب لا تبرر سياسات ما بعد انهيار الربيع العربي وحسب وتدافع عنه، وإنما بلغت حد "الإخصاء" بالمعني الحقيقي والحرفي لا المجازي للمثقفين المتطلعين إلى حامل الشيكات الخليجي على وجه التحديد، والذي اعتقد مثقفون بأنه يمنحهم "شهادة ضمان" بالحماية وهم على بعد آلاف الكيلومترات من تلك العواصم، حتى تبدد القلق لدى البعض منهم، واتسم بالجرأة والتباهي بأنه تلقى تكريما خاصا من "جهات أمنية " خليجية، ويكتب ذلك على صفحته في الإعلام الاجتماعي، بالتزامن مع ترقيه إلى مناصب إعلامية رفيعة وسخية، دون أن يسأل أحد: لِمَ تكرمه جهة أمنية أجنبية؟!
وفي منحى آخر، انعطف شعراء مصريون نحو كتابة قصائد باللهجة المحلية الخليجية، بل بلغ التسول ببعضهم أن يصرح بلا أدنى شعور بالخجل، إنه يهدي هذه القصيدة أو تلك لفلان أو فلانة، ممن بيدهم فتح "طاقة القدر" في الخليج، لكل مبدع متسول.
أثناء العدوان الوحشي والهمجي الأمريكي ـ الإسرائيلي على غزة بعد حرب 7 أكتوبر 2023، لم يصدر من هذه النخبة المسمنة في حضانات النفط التطبيعي أية إدانة ولو خجولة للعدوان، وإنما تعمدوا الكتابة في موضعات تبدو كأنهم "من بنها" كما يقول المصريون.
في السياق قرأت ـ منذ أيام ـ لشخصية متنفذة في الخليج على المستوى الإعلامي والثقافي تغريدة تقول: "أدباء مرشحون لجوائز ثقافية، حذفوا كل تغريداتهم السابقة المناهضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، بناء على طلب إدارة هذه الجوائز..!"
والحال أن صدام حسين ـ من قبل ـ شرع في التغرير بالمثقفين وإحالة الصحفي المصري ـ تحديدا ـ إلى صحفي "مرتشي" غير أن مبارك ادرك خطورة الظاهرة وتدخل في تسييلها (من الإسالة) كما كشف إبراهيم نافع ذلك بنفسه في حوار مع لـ"ميس الحديدي" في برنامج من "قلب مصر" على قناة النيل يوم 17/مايو/2010 (منشور في اليوم السابع يوم 18 مايو/2010).
حين قال: الرئيس الراحل صدام حسين أرسل له 200 سيارة ذهبت جميعها للأهرام ودفعت المؤسسة قيمة جماركها كاملة... وكذلك ما أطلق عليه آنذاك "قوائم صدام /بونات النفط"
كما ذهب إلى ذات المنحى الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، ففي حين رفض الروائي الإسباني " خوان جويتسولو" جائزة القذافي لـ"حقوق الإنسان" ـ التي كانت قيمتها آنذاك ـ 150 ألف يورو ـ وذلك لما وصفه بـ "سلطوية " النظام الليبي.. فقد قبلها الدكتور جابر عصفور، في احتفالية "رسمية" صاخبة!
وفي 1/مارس/2011 قال في حوار له مع "اليوم السابع" أنه لن يرد قيمة جائزة القذافى، مضيفاً : تصريحاتى السابقة تم إساءة تفسيرها، وتحريفها، وما قلته إننى أتبرأ من اسم جائزة القذافى، لأنه رجل سفاح يقتل شعبه، أما قيمة الجائزة فهى منحة الشعب الليبى لى، ولن أردها، فكيف أردها؟ ولمن؟ والشعب الليبى غنى بثرواته"
ويوم 24/11/2023 قرأت تغريدة أخرى كتبتها المبدعة الخليجية "سعدية مفرح" قالت فيها: "موقف لافت حدث لي أمس بمعرض الكتاب؛ رآني من بعيد كاتب أعرفه ويعرفني منذ سنين طويلة كأخ وزميل وبيننا علاقة وثيقة على صعيد الكتب والأدب. أشاح بوجهه وكأنه لا يعرفني، أو لا يريد أن أراه!
لا بأس.. ولكلٍ منا ظروفه بالتأكيد. لكنه أرسل لي رسالة بالخاص بعدها، يسلم ويقول؛ اعذريني.. سلامي عليك علناً مع موقفك الحاد ضد التطبيع يحرجني في بلدي! أخاف أحد يصورنا" !!
ليس بوسع منصف إلا القطع بأن "الإنعام الرسمي" على المثقفين في صورة "جوائز" ظاهرة مقلقة إلى حد كبير، إذ تظل ـ شئنا أم أبينا ـ من قبيل الاختراق المالي الرسمي لأوساط النخبة وصناع الرأي ولا تخلو من شبهة "شراء الذمم" والتواطؤ مع السياسات العامة للسلطات في الدول المانحة لها.
يبقى أن أختتم وأشير ـ هنا ـ إلى ما قاله هيكل عقب خروجه من الأهرام في فبراير عام 1974 حين سأله صديق له: هل تشعر بالحزن لفقدك هذا المنصب الكبير والقريب من دائرة النفوذ والسلطة؟! فرد عليه هيكل بقوله "تستطيع السلطة أن تمنحك مكانًا ولكنها لا تستطيع أن تمنحك مكانة" وأردف قائلاً: "والفرق بين المكان والمكانة إن المكان بطبيعته مؤقت، كما أن الذي يمنحك المكان يستطيع أن يسترده منك في أية لحظة.. أما المكانة فأنت الذي تصنعها لنفسك في قلوب وفي ذاكرة الناس من خلال تقديرهم واحترامهم لعملك أو لموقفك في الحياة. فالمكان إذن زائل وأما المكانة فلا تزول".


نقلا عن موقع "ذات مصر"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى