د. أحمد الحطاب - المنظومة التَّربوية والاقتصاد

عندما نقول إنه من واجب المدرسة أن تكوِّن مواطنين قادرين على الاندماج بسهولة في المجتمع، في عالم الشغل، في الحياة العملية، الخ.، هذا يعني أنها من خلال هؤلاء المواطنين، ستساهم في التنمية الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية للبلاد. وبعبارة أخرى، يجب القول أن التعليم يجب أن يُربطَ بكيفية وثيقة بالتنمية بصفة عامة وبالتنمية الاقتصادية والتكنوبوجية بصفة خاصة.

فكلما حاولت الاسترتيجيات الحكومية في مجال التنمية أن تحسِّن مردوديةَ المنظومات التربوية، كلما كانت لهذه المنظومات مسؤولية في تكوين مواطنين قادرين على المساهمة في الإنتاج وفي خلق الثروات وفي تحسين المستوى الفكري والمادي (رفاهية) للمواطنين. وفي هذا الصدد، قد بيَّنَت الدراسات أنه كلما رفعت المنظومات التًَّربوية مستوى تكوين مواطنين قادرين على المساهمة في الإنتاج وفي خلق الثروات، كلما ارتفعت حظوظ هؤلاء المواطنين للحصول على رواتب محترمة في سوق الشغل.

وهذا يعني أن المنظومات التربوية، نظرا لضخامة الأموال التي تمتصها، من المفترض أن تُعتبر هذه المنظومات منشآت ترتفع منتجاتها إلى مستوى هذا الامتصاص. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن الدراسات التي يقوم بها، مثلا، البنك الدولي أو منظمة التَّعاون والتنمية الاقتصادية OCDE، بيَّنت أن الغالبية العظمى من الدول تخصِّص ما يُناهز 20% من ميزانياتها السنوية لقطاع التَّربية والتَّكوين. وقد تصل هذه النسبةُ إلى 25% بالنسبة للمغرب.

ورغم الاهتمام الذي توليه سياسات التنمية لاشتغال fonctionnement ونجاح بعض المنظومات التربوية، وبالأخص، السياسات التربوية في البلدان السائرة في طريق النمو أو تلك التي تطمح أن تصبحَ بلدانا صاعدة pays émergents، فإن منتجاتِها ومردوديتَها تبقيان دون انتظارات الحكومات والمجتمع والمستفيدين من خدماتها. ولاعتبارات عديدة، إن المنظومة التربوية المغربية لا تُستَثنى من هذا الوضع.

ولا داعي للقول أن التعليم والتربية والتَّكوين يُعتبرون، بالنسبة لبلادنا، كخدماتَ موجَّهة للاستهلاك. لكنهما، من الناحية الاقتصادية، من المفترض، أن لا يكونا فقط موادَ استهلاك غير نافعة لأن حجم المال الذي تضخه الدولة في المنظومة التربوية (تكوين، رواتب، معدات تعليمية، بنيات تحتية، تسيير، صيانة، الخ.)، هو بمثابة استثمار يُنتَظَرُ أن يكونَ له تأثيرٌ إيجابي على تنمية البلاد وعلى تقدُّمها. استثمارٌ يهدف إلى إفراز نتائج قياسية من حيث تكوين الرأسمال البشري على المستويين الكمي والكيفي. صحيح أن الاستثمار في مجال التربية يتطلب وقتا طويلا ليفصحَ عن نتائجه. ومع ذلك، ومنذ عقود، والمنظومة التربوية تفرز نتائج دون ما كان يُنتظر نظريا من هذا الاستثمار.

أين توجد إذن مكامن الاختلال؟ هل هي راجعة إلى :

1.عدم تلاءم الحاجيات والتمويل؟
2.التنزيل غير الملائم للسياسات التربوية وترجمتها إلى خطط عمل؟
3.التطبيق غير المتقن لخطط العمل على أرض الواقع؟
4.ضعف في المهنية professionnalisme الخاصة بالتدبير المالي؟
5.البيروقراطية وتمركز القرارات؟
6.ضعف الإحاطة بعلاقات الثالوث تعليم-تربية-إنتاج؟
7.ضعف أو عدم التجديد والابتكار على جميع مستويات المنظومة التربوية؟ إذا كان الأمر هكذا، فكيفما كان التَّمويل، لا يمكن أن يكون استعمالُه وتعبئتُه ناجعين في محيط متجمِّد بالرتابة والبيروقراطية والتمركز وغياب المهنية؟
8.هيئة تدريس تكوينُها متجاوز وبعيد كل البعد عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي؟
9.هيئة تدريسٍ مهمَّشة اجتماعيا، وبالأخص، ماديا؟
10.التغيير المتسارع لمتطلبات سوق الشغل؟
11.ممارسة تربوية متصلَّبة sclérosée لا تُتيح أيةَ فرصة للتَّحرر والتَّفتح الفكريين؟…

فعلا، إن الاقتصاد له تأثير كبير على التعليم من خلال الاهتمام الذي توليه له مخططات التنمية. وبالمقابل، على التعليم والتربية أن يوليا أهميةً كبرى للتكوين الفكري والمهني للمتعلمين، وذلك من خلال ما يُعدَّانه لهم من برامج تعليمية وتربوية جيدة. فعندما يغادر المتعلمون المدرسةَ، يكون همُّهم الرئيسي هو العثور على شغل يتناسب مع تكوينهم. لكن المفاجأة هي أن سوق الشغل لها متطلبات وشروط غالبا ما لا توفِّرها الشواهد التي حصلوا عليها بعد نهاية دراساتهم. وهذا راجع، بالتأكيد، إلى عدم ملاءمة التكوين الذي توفِّره المدرسة مع خصوصيات سوق الشغل، الشيء الذي يساهم في تعميق الهوة التي تفصل هذه المدرسة والمجتمع.
فالمنظومة التربوية، نظرا لجموديتها immobilisme وخمولها léthargie، تجد نفسَها عاجزةً على مواكبة التطور الاقتصادي علما أن البلدان النامية تعلق عليها آمالا كبيرة من أجل :

1.محاربة الأمية،
2.تنمية التفتح الفكري،
3.توعية المواطنين بمسئولياتهم المدنية والاجتماعية،
4.تكوين يد عاملة عالية الجودة،
5.التصدي للرهان التكنولوجي الذي له علاقة بمختلف مظاهر الحياة اليومية…

انطلاقا من هذه الاعتبارات، يتَّضح أن التَّعليمَ والتربيةَ والتكوينَ والتنمية عوامل أساسية ضرورية لتقدم وتطور مجتمع ما، علما أنه ليس هناك تنمية بدون تعليم وتربية وتكوين. وبالمقابل، فإن هذه العناصر الثلاثة الأخيرة لا يمكن أن تلعب دورها إلا إذا أعطتها استراتيجيات التنمية اهتماما كبيرا.

إن المنظومة التربوية، نظرا لالتهامها قدرا كبيرا من الأموال، لا يجب أن تُعتَبر خدماتُها حصريا كمادة للاستهلاك و وسيلة للتمدرس، أي معدة لاستقبال وامتصاص أكبر عدد من الأطفال الذين بلغوا سن الدخول إلى المدرسة. يجب أن تتجاوز المنظومة التَّربوية هذه المرحلةَ ذات الطابع الكمي لتنتقل إلى مستوى أعلى يتسم بجودة التعليم والتربية والتكوين.

عكس ذلك، ستبقى المنظومة التربوية هُوَّةً ماليةً un gouffre financier تُثقِل ميزانية الدولة budget de l'État ودافعي الضرائب les contribuables. الاقتصاد الوطني في حاجةٍ إلى منظومة تربوية قوية وعالية المردودية في وقت يَعرفُ فيه هذا الاقتصادُ انطلاقَ استراتيجيات تنموية ضخمة وطموحة (صناعة، طيران، سيارات، سياحة، فلاحة، صيد بحري، صناعة تقليدية، طاقات متجددة شمسية وريحية، الهيدروجين الأخضر، نقل بري سككي بحري، لوجيستيك، رياضة، ترحيل الخدمات offshoring، موانىء، الخ.) تحتاجُ و ستحتاج إلى يد عاملة عالية التأهيل.

مما لا شك فيه أن المغربَ، كسائر بلدان العالم، يطمح إلى تغيير وضعه الاقتصادي من حسنٍ إلى أحسن. وبعبارة أخرى، يريد أن ينتقلَ من وضعِه كبلد سائر في طريق النمو pays en voie de développement إلى بلد صاعد pays émergent ولِمَا لا، بعد عقود قليلة، إلى بلد نامي pays développé.

وحتى تستطيع البلادُ من تحقيق هذا الطموح، يجب أن يتذكَّرَ السياسيون أن المنظومة التَّربوية هي من صُنع المجتمع وتعمل بداخلِه ومن أجله. وبعبارة أخرى، المنظومة التَّربوية هي الأداة التي تُساهم، بواسطة خِرٍّجيها أو الرأسمال البشري، في تجديد المجتمع. والشُّغلُ هو الركيزة الأساسية في هذا التَّجديد. لهذا، فمن الضروري ربطُ علاقات متبادلة بين المنظومة التَّربوية وعالم الشغل أو عالم المقاولات أو ما يُصطلح عليه ب"منظومة الإنتاج" système productif". وهذا يعني أن المعارف التي يتلقَّاها المتعلِمون داخل المدرسة يجب أن تتلاءمَ مع الطريقة التي يتم، من خلالها، تنظيمُ الشغل داخلَ منظومة الإنتاج. وهنا، يجب أن لا ننسى أن هذه الأخيرة تُساهم، هي الأخرى، في تجديد المجتمع، من خلال ما تُوفِّره من مناصب شغلٍ و من إنتاجٍ للثروات.

لكن العلاقات المشار إليها أعلاه بين المنظومة التَّربوية ومنظومة الإنتاج تكاد تكون منعدمةً لأسباب عديدة.

من بين هذه الأسباب، أذكر ،أولا، الفصل بين التَّكوين المهني والتَّعليم العام على المستوى السياسي/الحكومي، علما أن هذا التَّكوين هو الذي تعتمد عليه منظومة الإنتاج لممارسة أنشطتها المختلفة. ثانيا، منظومتنا التَّربوية تولي اهتماما بالِغا للتَّعليم العام enseignement général على حساب التَّكوين المهني. ثالثا، التَّكوين المهني لا يحظى بتقديرٍ داخلَ المجتمع لأنه ضحية لأحكامٍ مسبقة préjugés تجعل منه عنصرا لا يلجأ له إلا الفاشلون من المتعلمين في دراستِهم، وبالتالي، فإن المتفوِّقين من هؤلاء المتعلِّمين يفضِّلون اختيارَ مسالكَ أخرى. رابعا، حتى التَّكوين المهني نفسُه لا يسايِر عن كتبٍ التَّطوُّر التَّكنولوجي المتسارع الذي يحدث في العالم، وبالتالي، فإن خريجيه يجدون صعوبةً في التَّأقلم مع هذا التَّطوُّر عندما يلتحقون بمقاولات منظومة الإنتاج. خامسا، منظومتنا التّربوية منعزلة عن المجتمع، فما بالك أن تستجيبَ لمتطلبات الاقتصاد، ومن خلالِه، لمتطلَّبات منظومة الإنتاج؟

ما أختم به هذه المقالة، هو أن المنظومة التَّربوية يجب أن تكونَ لها علاقة وطيدة بالاقتصاد. فهذا الاقتصاد هو الذي يُوفِّرُ لها الموارد المالية التي تحتاجها من أجل القيام بمهامها. بينما المنظومة التَّربوية هي المصدر الأساسي لتزويد منظومة الإنتاج بالرأسمال البشري التي هي في حاجة إليه. هذه العلاقة شيءٌ مفروغٌ منه. فهي ضرورية لأية تنميةٍ ولأي تقدُّمٍ ولأي ازدهار. وإذا فشلت منظومتنا التَّربوية في تلقين متعلِّمي التعليم الأساسي مبادىءَ القراءة والكتابة ومبادىءَ الرياضيات والعلوم، فكيف لها أن تخدمَ اقتصادَ البلاد؟

وهذا الفشل بيَّنته الدراسات التي تقوم بها، على الخصوص، منظمة التَّعاون والتنمية الاقتصادية OCDE، من خلال برنامج تتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA. وهذه المنظمة تقوم بتقييم هذه المكتسبات كل 3 سنوات. ونتائج آخر دراسة برسم سنة 2018، تم نشرُها مؤخرا. وضعُ المتعلِّمين زاد سوءً فيما يخصُّ فهمً النصوص باللغتين العربية والفرنسية وفيما يخصُّ المكتسبات المبدئية في مجالي الرياضيات والعلوم. المغرب يوجد في آخر التصنيف الذي شمل 81 بلدا، علما أنه تقهقر بتسع مرتبات في أسفل هذا التَّصنيف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى