أدب السجون محمد تركي الربيعو - السجين ٥١٦: تحقيق نص قديم من ذاكرة السجون العربية

عند الحديث عن مذكرات السجون السياسية العربية، غالبا ما يذهب بنا الكلام إلى فترة السبعينيات والثمانينيات، التي عرفت فيها بلدان شرق المتوسط، وفق تعبير عبد الرحمن منيف، تجارب وحشية وغير معقولة. والمؤلم في هذا الشأن، أنّ موجة العنف في السجون السياسية العربية لم تتوقف، بل غدونا في العقد الأخير أمام سجون ومراكز اعتقال عديدة تحولت الى مراكز للإبادة الجماعية. وفي مقابل الفترة الممتدة من الخمسينيات (زمن عبد الناصر) وحتى يومنا هذا، كشفت بعض العناوين والحفريات عن وجود ذاكرة أطول للسجن السياسي العربي المعاصر، تعود لفترة العشرينيات والثلاثينيات، وهي فترة دوّنت فيها بعض النصوص والمذكرات عن السجون السياسية العربية، لكنها ربما لم تلق الاهتمام الكافي. ولعلّ هذا ينطبق على قصة مذكرات السجين المصري عبد الحميد عمار، الذي سجن إثر مشاركته في ثورة مصر 1919، وبقي لمدة خمس سنوات. وبعد خروجه، عكف على تدوين مذكراته عن تلك الفترة، لكن لم يُكتب لهذه المذكرات فرصة النشر، وظلت هكذا لعدة عقود، قبل أن يُعاد اكتشافها بالصدفة من قبل أحد أحفاده، وسيعمل لاحقا الباحث المصري وليد عبد الماجد كساب على تحقيق وتقديم هذه المذكرات لتصدر عن وزارة الثقافة المصرية.
ولِد عبد الحميد عمار في بدايات القرن العشرين، وكان شاهدا خلال فترة طفولته على التدهور الذي عاشه الفلاحون في مصر، ولاسيما في العقد الثاني من القرن العشرين. كان راينهارد شولتز قد لاحظ في كتابه «تمرد الفلاحين المصريين 1919» أنّ هذه الثورة لم تكن ثورة مدن، بل ثورة فلاحين. وفي سياق تفسيره لجذورها، ربط شولتز ذلك بالإجراءات البريطانية في مصر، التي أدت إلى حدوث تغيير هيكلي ضخم في الزراعة، أخلّ بنظام التوازن ومجالات التصرف التي كان الفلاحون يحمون أنفسهم بها. وبعد رأي شولتز بسنوات، سيأتي رأي آخر يربط ثورة الفلاحين عام 1919 بظروف الحرب العالمية الأولى، إذ لاحظ المؤرخ الأمريكي كايل أندرسون في كتابه «فيلق العمل المصري» الذي ترجم قبل أيام قليلة للعربية، أنه خلال الحرب العالمية الأولى 1914ـ 1918 جندت القوات الإنكليزية مليون فلاح وأكثر. وقد عمل هؤلاء الجنود في حفر الخنادق، ومد سكك القطار وأعمدة التلغراف وإزالة التلال وتمهيد الطرق وحمل الذخائر وجر المدافع، وتكنيس المعسكرات، وغسل الأواني والملابس. وخلال وجود هؤلاء الفلاحين كعاملين في الجيش الإنكليزي، كان لا بد أن يختلطوا ببعضهم ويتشكل بينهم مخيال وهوية مشتركة. وهو مخيال سيعود ليعبر عن نفسه سياسيا في ثورة 1919. إذ برز هؤلاء الفلاحون كتعبير عن صعود نزعة قومية شعبية، بدلا عن النزعة القومية النخبوية. وهو مشهد شبيه بما لاحظه جميس غلفن في سوريا بعيد الحرب العالمية الأولى، ولذلك شكّل أبناء الريف القاعدة الشعبية للثورة وشمل هذا الأمر الطلاب، ومن بينهم الطالب عبد الحميد عمار، الذي شارك في محاصرة مراكز للشرطة التابعة للإنكليز في منطقة البحيرة، وفي تدمير بعض سكك الحديد لمنع الإنكليز من نقل المؤون لجنودهم في الريف المصري.
يوميات السجن
يدون لنا السجين 516، وهو الاسم الذي بات يعرف به عبد الحميد بعد دخوله السجن، تفاصيل عن واقع سجن ليمان أبو زعبل في عشرينيات القرن العشرين. كان قد حكم عليه بالإعدام، قبل أن يُخفّف إلى المؤبد! وبعد هذا الحكم نقل إلى السجن الواقع في منطقة القليوبية على بعد 30 كم من مدينة القاهرة. ويعدُّ هذا السجن من أقدم السجون الحديثة في مصر. وقد أنشئ عام 1896، وخُصِّص في البداية لوضع المدانين بجرائم وانتهاكات جنائية، لكنه تحول أيضا إلى جزء من ذاكرة قهر المعارضين السياسيين خلال القرن العشرين. مكث السجين 516 في السجن من عام 1919 حتى عام 1924. عندما وضع في السجن لم يكن عمره يتجاوز الـ18 عاما، ومما يذكره أنه لم يكن وقتها مخصصا للسجناء السياسيين، وإنما للصوص ومرتكبي الجرائم الجنائية، ولذلك شكّل الاختلاط بهذه الفئة مصدر قلق دائم للسجين عبد الحميد وزملائه الطلاب، خاصة أنّ بعض سجناء الجرائم حاولوا ابتزازهم وفرض إتاوات عليهم.
تكون السجن من 16 عنبرا، والعنبر عبارة عن إسطبلات مستطيلة يبلغ طوال الواحد منه ثلاثين مترا، له في جوانبه عشر طاقات. في كل جانب مشبك بالقضبان الحديدية سعة متر ونصف المتر مربعة، دون خشب ولا زجاج، وعرض تلك العنابر خمسة أمتار. وفي كل جهة من جهتيه باب كبير اتساعه أكثر من مترين، وهو عبارة عن قضبان حديد دون خشب، كالشبابيك تماما لا يمنع الشمس ولا يرد البرد. وفي فناء السجن سلسلة أبنية تحتوي مكاتب الضباط، وحجرات المكتبة ومطبخ السجن، والمغسل، والساقية، والمشفى.
هذا وقد فرض على سجناء أبو زعبل القيام بأعمال شاقة. إذ كان على السجناء الاستيقاظ في ساعات مبكرة من الصباح، ليتم نقلهم إلى جبل ابي زعبل، الذي كان عبارة عن منجم في باطن الأرض وحجره اسود استعمل في رصف الشوارع وتبليطها. وقد كُلِّف الطالب عبد الحميد بالعمل مع (فرقة الجمالة) وهي الفرقة المسؤولة عن نقل الأحجار والصخور على ظهورهم من باطن الأرض إلى سطحها على ارتفاع لا يقل عن خمسين مترا، وكأنهم أقرب للجمال التي تتحمل حمل أشياء ثقيلة على ظهرها. ويقف خلفهم سجان يقوم بضربهم والصراخ عليهم طوال اليوم. يروي السجين 516 تفاصيل عديدة عن حالات الفساد التي عرفها السجن في تلك الفترة. ويبدو في وصفه أنه لم يرد بعض التفاصيل فحسب من باب ذكر ما جرى، وإنما أيضا كمحاولة لإصلاح واقع السجون في مصر آنذاك. وربما في مطالبه الإصلاحية للسجون، ما يذكرنا أيضا بما كتبه السجين محمود طاهر العربي في عام 1923 تحت عنوان « 12 عاما في السجن» وحاول من خلال هذا النص الدعوة في وقت مبكر إلى إصلاح واقع السجون الجنائية في مصر.
اللافت هنا أنّ الضباط الإنكليز، الذين أشرفوا على السجون والتفتيش فيها، لم يختلفوا كثيرا في سلوكهم عن سلوك السجانين المصريين، بل لعبوا أحيانا أدوارا أكثر قساوة. وظهروا كمشاركين في تشكيل بذور التعذيب في السجون العربية الحديثة. ومن بين هؤلاء، قصة «السكسوني الرهيب» وهو ضابط إنكليزي عريض المنكبين، أحمر الوجه، حمرة إنكليزية، كان يأتيهم كل أسبوع في أبي زعبل، «ليريهم من العذاب ألوانا، ومن التنكيل أشكالا لم نرها في كتب الأولين». كان هذا الضابط يتجول في العنابر التي ضمت كل واحدة منها قرابة 120 سجينا، ويعاقب السجناء بمنع إدخال الطعام لهم عدة أيام، أو أمر إن كان الوقت شتاء بالتجرد من الأغطية مدة أسبوعين، وربما جمع بين العقوبتين. في مقابل هذه الشخصية، نتعرف على شخصيات أخرى داخل السجن لعبت دورا على صعيد الفساد، يلبس الشيخ صالح الطربوش والجلباب الأبيض. جعلوه أمينا على مستودع أدوية السجن، فكان يبيع بعض الأدوية مقابل الحصول على رشوة ما. وهناك أيضا دور رجل الدين الذي كان يزورهم صبيحة الجمعة، فيجمع المساجين في باحة السجن ويجلس وسطهم على علو سحيق، يمطرهم بكلام فاحش مثل «يا شوك البلاد.. يا أوباش البر.. يا لصوص.. يا أولاد الكلاب.. يا قتلة».
سجناء في ثياب السجانين
من القصص اللافتة التي يرويها السجين الطالب، قيام أحد مديري السجن بتكليفه مع و زملائه الطلاب بالإشراف على مجموعات السجناء، ولعب دور الوسيط مع إدارة السجن. اللافت هنا أن هؤلاء السجناء السياسيين، وعوضا عن المساهمة في تبني أساليب أخرى، سرعان ما انخرطوا في لعبة مدير السجن. إذ تحوّل هؤلاء المساجين أحيانا عن عدم إدراك إلى سجانين يكيلون التهم لهذا السجين أو ذاك، أو يقوم برشوة سجين أخرى ليضمنوا سكوته، وبذلك يضمنون البقاء في مراكزهم كلاعبين وسطاء. يبدو السجين عبد الحميد وهو يروي تفاصيل عن هذه الحالة، أنّ قراراته جاءت أحيانا عن غير قصد، كون السجن كان مخصصا لأصحاب السوابق والجرائم، ولذلك بدا التعامل معهم بالنسبة لشباب صغار أمرا صعبا ومرهقا، لكن ربما تُظهِر هذه القصة كيف أنّ السجون العربية في العشرينيات، ساهمت في تحويل قسم من السجناء السياسيين أو المدنيين إلى أشخاص آخرين، مشوهين من الداخل، يسعون أحيانا إلى الخلاص الفردي، حتى لو كان ذلك على حساب مبادئهم وأخلاقهم. وهي ثقافة سيتم نقلها في زمن أنظمة ما بعد الاستعمار إلى خارج السجن. إذ بدت المدن العربية أحيانا بمثابة سجون كبيرة، وبات مطلوب من كل مواطن أن يشي بأصحابه وأهله في الخارج، وأن يتحول إلى سجان للأفكار في جمهورية الخوف العربية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى