الفرح كالحزن … كالخيبة أيضا، قد يأتي بركانا فيجرف معه كل وقار وهيبة، أو قدرة على التحكم في تصرفات قد تبدو صبيانية …كان هادئا … حَدَّ الصدمة التي توجع المقربين منه… كان ساكنا … حَدَّ الدهشة التي تصفع من حوله … كان يسمي صمته حكمة ورزانة، والمحيطون به يقولون عنها “لا مبالاة مستفزة”. زوجته… كانت تكره منه هدوءه المستقر، ووقاره المبالغ فيه، والذي تزكيه شعيرات بيضاء غزت مفرقيه في غير عصرها… كانت تهفو إلى ابتسامته التي لم تكن تظهر على وجهه إلا كمواسم متباعدة، تعتذر في كثير من الأحيان.. كانت تمقت صمته الذي يغلب عليه وهو يغرق في قراءة جريدة بائسة، أو في كتابة مقال لا ثوب له، أو قصة لا ملامح لها… تاركا إياها لوحدة قاتلة حتى في حضوره… لكم كانت تغار ـ وهي الجامعية المثقفة ـ من هذه الكتب التي يهرع إليها أكثر مما يهرع لدفء عينيها… كان يذهب بمفاتيح عقله مع رواية أو قصة، وعندما يشعر بالفوضى التي بدأت تنتشر في الصالون، يسحب نفسه إلى غرفته ليواصل قراءة الكتاب الذي يلتصق بجدار صدره أكثر منها …. من حين لآخر… كانت تقذفه بنكتة فلا يزيد على فتحة صغيرة بين شفتيه تظهر من خلالها ملامح ابتسامة شاحبة… بل تتعمد ـ أحيانا ـ أن تستفزه بكلمة توقظ غضبه، فلا يزيد على أن يرفع إليها عينيه بعتاب أخرس … كان زوجا ببذلة رسمية لا يتنازل عنها حتى وهو في غرفة نومه!!! هو الآن يقفز من غرفة إلى أخرى … ومن زاوية ضيقة في البيت إلى زاوية أوسع، يبحث عن وجه يقاسمه هذه الفرحة التي تعصف بهدوئه المعتاد… لم يجد غيرها… هرع إليها، فوجدها تقف على كرسي خشبي متهالك، وهي تمسك بيدها الجريدة التي خلفها أمس قرب وسادته وهو يغمض عينيه على حروفها… راحت تمسح بها الضباب الذي يعلو زجاج النوافذ بفعل الرطوبة التي تأكل بيتهم الآيل للسقوط ، وكأنها تريد أن تنتقم منها وتقول لها “إنك لا تصلحين إلا لمسح الزجاج فكيف تتطاولين لتكوني وسادة ثالثة …”
وقف أمامها كالطفل الصغير الذي بلل الفرح خيبته الطويلة وهو يرجوها أن تنزل لتشاركه فرحته … لأول مرة يدعوها إلى جلسة فرح، قبلها لم تكن تجلس إلا لمائدة صمته وتقاسمه مِلْحَ كلمات يتعثر في قولها.
قال لها وهو ينظر إلى عينيها لأول مرة في تاريخهما الراكد:
ـ مفاجأة … لا … بل أبواب السماء كلها انفتحت لنا ….إني أحلم … لا … الدعوة بين يَدَيّ.
لم تفهم شيئا من فرحته التي كانت متقطعة… قرأ حيرتها … لأول مرة يفهم أن هذه المرأة مستسلمة لحيرة ممتدة… قال لها وهو يشرح تفاصيل فرحته كما يشرح الأستاذ درسا متقدما لتلاميذ يعتقد ـ دائما ـ أنهم يجلسون أمامه كالأغبياء:
ـ أُنظري … دعوة من رئيس الجمهورية… لا شك أنه قرأ كتابي الأخير “شعرة معاوية” وأعجب بأفكاره التي ستعينه على مدِّ التواصل بينه وبين الشعب عبر شعرة التي لا تنقطع أبدا… سيقيم حفلة على شرف الكتاب !!!
قالت وهي تبتسم لجنون بدأ يتجبر:
ـ إنك تهذي … ومن هذيانك لم تعد تفرق بين الحلم والواقع … لا يوجد حاكم يقيم حفلة على شرف كتاب … قد يقيمها على شرف لاعب انتصرت قدمه، أو فنان أبدعت حنجرته، لكنه لم يفعلها مع كاتب، فالأفكار لا تصلح أن تكون على مائدة العشاء … إنها تنغص فرح الموائد وتجعلها شاحبة …
أشهر في وجهها الدعوة وكأنه يؤكد لها للمرة الألف أنها وحدها من لا يقدّر حجم أفكاره، ولهذا ظلت بعيدة عن ساحة قلبه . تناولت الدعوة، وراحت تحدق في أسطرها بدهشة وقالت بكثير من الارتباك:
ـ يا ألله … فعلا … هو ختم الرئيس …
قال وهو يأخذ منها الدعوة كأنما يسترجع عرشا يكاد يُسلب منه:
ـ غدا سيكون اللقاء الأسطورة… سأدخل التاريخ من بابه الواسع … كل شي سيتغير في حياتي، إلا أنت…
لأول مرة تنسيه الفرحة صمته، ويعبر لها أنها الأكثر رسوخا في عالمه…. ولأول مرة ـ أيضا ـ يشركها في البذلة التي سيلبسها لحضور الحفل… انفجرت ضاحكة:
ـ إنك لا تملك غير بذلة واحدة لا تصلح لفرح ما، كما كانت صالحة لفرحنا الذي لم نعد نذكره، فقد تغير لونها لكثرة ما ارتديتها في الأعياد والمناسبات.
ابتلع حسرته وهو يتعثر بأول عقبة تعيق حضوره اللائق… وقال بكثير من التفاؤل:
ـ لا بأس… ليست مشكلة… سأستعير بذلة صديقي … المهم أني أتخيل نفسي الآن وأنا في طريقي إلى العاصمة… وأنا أدخل قصر ال…..
أحس بيد قوية تضغط على كتفه، وسمع صوت زوجته “انهض يا رجل … كم هو نومك ثقيل … الساعة تقارب الثامنة… وقد تجد نفسك مطرودا من جريدة بائسة..!!”
فتح عينيه بعسر، فرأى “مقدمة ابن خلدون” ـ التي كان يطالعها قبل نومه ـ وقد سقطت من يديه ورسمت وسادة ثالثة على فراشه …
ساعتها أدرك أنه عاش حلما مشرقا، لكنه قصير …
* نقلا عن المجلة الثقافية الجزائرية،
وقف أمامها كالطفل الصغير الذي بلل الفرح خيبته الطويلة وهو يرجوها أن تنزل لتشاركه فرحته … لأول مرة يدعوها إلى جلسة فرح، قبلها لم تكن تجلس إلا لمائدة صمته وتقاسمه مِلْحَ كلمات يتعثر في قولها.
قال لها وهو ينظر إلى عينيها لأول مرة في تاريخهما الراكد:
ـ مفاجأة … لا … بل أبواب السماء كلها انفتحت لنا ….إني أحلم … لا … الدعوة بين يَدَيّ.
لم تفهم شيئا من فرحته التي كانت متقطعة… قرأ حيرتها … لأول مرة يفهم أن هذه المرأة مستسلمة لحيرة ممتدة… قال لها وهو يشرح تفاصيل فرحته كما يشرح الأستاذ درسا متقدما لتلاميذ يعتقد ـ دائما ـ أنهم يجلسون أمامه كالأغبياء:
ـ أُنظري … دعوة من رئيس الجمهورية… لا شك أنه قرأ كتابي الأخير “شعرة معاوية” وأعجب بأفكاره التي ستعينه على مدِّ التواصل بينه وبين الشعب عبر شعرة التي لا تنقطع أبدا… سيقيم حفلة على شرف الكتاب !!!
قالت وهي تبتسم لجنون بدأ يتجبر:
ـ إنك تهذي … ومن هذيانك لم تعد تفرق بين الحلم والواقع … لا يوجد حاكم يقيم حفلة على شرف كتاب … قد يقيمها على شرف لاعب انتصرت قدمه، أو فنان أبدعت حنجرته، لكنه لم يفعلها مع كاتب، فالأفكار لا تصلح أن تكون على مائدة العشاء … إنها تنغص فرح الموائد وتجعلها شاحبة …
أشهر في وجهها الدعوة وكأنه يؤكد لها للمرة الألف أنها وحدها من لا يقدّر حجم أفكاره، ولهذا ظلت بعيدة عن ساحة قلبه . تناولت الدعوة، وراحت تحدق في أسطرها بدهشة وقالت بكثير من الارتباك:
ـ يا ألله … فعلا … هو ختم الرئيس …
قال وهو يأخذ منها الدعوة كأنما يسترجع عرشا يكاد يُسلب منه:
ـ غدا سيكون اللقاء الأسطورة… سأدخل التاريخ من بابه الواسع … كل شي سيتغير في حياتي، إلا أنت…
لأول مرة تنسيه الفرحة صمته، ويعبر لها أنها الأكثر رسوخا في عالمه…. ولأول مرة ـ أيضا ـ يشركها في البذلة التي سيلبسها لحضور الحفل… انفجرت ضاحكة:
ـ إنك لا تملك غير بذلة واحدة لا تصلح لفرح ما، كما كانت صالحة لفرحنا الذي لم نعد نذكره، فقد تغير لونها لكثرة ما ارتديتها في الأعياد والمناسبات.
ابتلع حسرته وهو يتعثر بأول عقبة تعيق حضوره اللائق… وقال بكثير من التفاؤل:
ـ لا بأس… ليست مشكلة… سأستعير بذلة صديقي … المهم أني أتخيل نفسي الآن وأنا في طريقي إلى العاصمة… وأنا أدخل قصر ال…..
أحس بيد قوية تضغط على كتفه، وسمع صوت زوجته “انهض يا رجل … كم هو نومك ثقيل … الساعة تقارب الثامنة… وقد تجد نفسك مطرودا من جريدة بائسة..!!”
فتح عينيه بعسر، فرأى “مقدمة ابن خلدون” ـ التي كان يطالعها قبل نومه ـ وقد سقطت من يديه ورسمت وسادة ثالثة على فراشه …
ساعتها أدرك أنه عاش حلما مشرقا، لكنه قصير …
* نقلا عن المجلة الثقافية الجزائرية،