جمعي شايبي - التفكك.. رشيد بوجدرة

ما إن أنهيت قراءتي حتى تملكتني الحيرة وأنا أرفع قلمي لأخط أسطر مراجعتي المتواضعة .
متسائلا عما باستطاعتي أن أكتبه عن نص فريد متفرد جادت به قريحة قامة أدبية سامقة .
مثقلا بالحياء مسكونا بالخجل وأنا أريق مداد كلماتي وأحرفي عمن كتبوا مجد تاريخنا بالدم في ساحات البطولة وجبهات الحرب .. وبعثوا الدفئ والحياة في شرايين الإنسانية المتصلبة بأزكى سير النضال وأتم اكتمالات الوعي وأرقى صور الفكر وهم يرومون الحرية وينشدون المساواة والعدل .
فشتان شتان بين مداد يسفك ودم زكي يراق .
العم الطاهر الغمري كهل مسلول جاوز الخمسين من العمر من فلاح فقير أجبر على ترك أرضه إلى مدرس قرآن إلى طالب بجمعية العلماء إلى عضو في اللجنة المركزية للحزب وجندي ثائر في جيش التحرير الوطني ضد قوى الإستدمار الفرنسية اللعينة .

1.jpg

ورغم عملياته الحربية ونضالاته الحزبية وخطبه الثورية فقد أصدر في حقه غيابيا حكما بالإعدام رفقة خيرة صحبه .. اولئك الذين ذبحوا بسكاكين حافية صدئة وأحرقوا أحياء وقدموا كقرابين على مذبح التعصب .. فسددوا ضريبة الدم بسبب وصولية جاهلة ورداءة قيادية طامعة تافهة وردة ثورية كافرة وأوحال من النفاق المتراكمة وصدامات دامية بين قيادات ضربت الوصولية بأطنابها في عقولهم المقعرة وقلوبهم الحاقدة .
لقد نجى بعد أن فر بجلده وورث عن رفاقه المغدورين صورة تذكارية تجمعهم وورث عنهم أصواتهم وروائحهم وذكريات نهاياتهم ومصائرهم القاسية .
وبعد استرداد حرية الوطن السليبة بالنار والحديد يؤول إلى مارد قابع في قمقم وحدته في كوخ مقصدر ملفق بالأشرطة والحبال وحزم الأسلاك الصدئة والخيوط الواهنة المهترئة متقوقعا فيه كحلزون عنيد وهو يتجرع مذاق عزلته المرة ويكرع أكأس انطوائيته القاتلة عائشا تحت حمم وطفحات براكين التاريخ النشطة .
إعتاش الطاهر الغمري على كسرة شعير ولبن خثير في كوخ من قصدير دون أن يملك بطاقة هوية ولا أي ورقة ممهورة بختم حاكم أو أبسط وثيقة ثبوتية مطبوعة من هيئة رسمية .. إلا صورة رثة قرضها عث السنون المتعاقبة مخبوءة في جيب سترته الأيسر حيث تتدفأ بنبض فؤاده وحنين ذاكرته المتأججة .
عشرون عاما بتمامها ظل متخفيا رابضا كأسد في عرينه القصديري النابت على التخوم المقابلة للبحر في العاصمة .
عشرون عاما من بعد الإستقلال وهو يمارس من أعلى قمم وعيه اليياسي الشامخة تزحلقه وانزلاقه على ثلوج الذاكرة ومنعطفات التاريخ الحادة وتعرجاته وتقلباته الخادعة القاتلة .
يحلم بصيد الحمائم المتخمة المتطاوسة بتبخترها على أرضيات الحدائق العامة الغاصة بالجياع والبائسين .. يحلب بقرات الدولة الرابضة في الميناء التي سماها بأسماء زوجته وابنتيه .. عائلته التي كانت من ضمن الحطب الذي أكلته جحيم الثامن من ماي عام 1945م جميلة حليمة وثالثة اختلط عليه إسمها بين يامينة وياسمينة فظل أرملا طوال حياته.
يقضي في رتابة سحابة نهاره وهو يكنس بخطوه المتثاقل الأرصفة والطرقات جيئة وذهابا دون أن يكلم إنسيا .. فالسرية الثورية التي لاتزال تسري في أوردته أجبرته على الإحتراز حتى من ظله .
فهو في النهار محارة مغلقة وزهرة مسك لا تعبق إلا بليل.
هكذا عاش العم الطاهر الغمري منعزلا يكتب ليلياته على منضدة عتيقة مأروضة نقش عليها أمنيته الوحيدة : ليحتويني ظلهم وهو يعني بذلك ظلال أصحاب الصورة التي لا تفارقه كأنه يتخدها كدرع يصونه أو تميمة تقيه شر الناس ومكائد الساسة .
على منضدته المتآكلة ترفل علب الصمغ وأقلام القصب وفي زاوية منسية من كوخه الوطيئ غرس زهرة صفراء إصطناعية يظل عاكفا على سقيها .. ماعساها تعبق بغير عطانة الخداع والنفاق النتنة .
ليليات يكتبها تحت أضواء باهتة لشموع كان يسترقها خلسة من مقام ضريح كان يزوره في الأصباح حيث تكتحل عيناه بمرأى النساء المخدوعات بحيل المشعوذين والسحرة .
لكأنه يردم بتلك الكتابات الليلية مهاوي التاريخ السحيقة ويحشو بها فجواته المهولة وفراغاته القاتلة
تلك الفراغات التي كان يعمرها الخلص من رفاق السلاح المغدورين .
لا أحد مهتم بكشف الحقائق فيما يظل هو ينكش بقلمه شجرة التاريخ من جذورها فتهتز أفنانها وتتهاوى أوراق أكاذيبها المتهالكة على أرصفة الوطن تدوسها أقدام جحافل من الحفاة والجياع .
لقد نجى العم الطاهر الغمري من الموت على أيدي رفاق خانوا القضية ليوغل في عزلة سرمدية .
ولم تكن أقلام القصب ومحبرة الصمغ والمقلمة العتيقة غير عالمه الذي احتواه غارقا في حزنه الأممي .
لا يكف عن ممارسة انزلاقاته في شرائح الذاكرة وثناياها وطياتها وغضوناتها إلى أن تعرف على امرأة لم تشفى من ذكريات طفولتها البائسة وآثار الفقد الذي مافتئ يمزقها ويشرخ حياتها شرخا تسمى سالمة .
سالمة التي أخرجته من قوقعته وناعورة سنين عزلته بفضل ما دار بينهما في تلك الزيارات من آحاديث وحوارات ومناقشات وبما تقاسماه من هم وألم وأسى .
فكان يطرح عليها خلال مناظراتهما التاريخية الجدلية سؤاله المكرور : هل يستقيم الظل والعود أعوج ؟ .
ظل مدرس القرآن وقارئ رأس المال العم الطاهر الغمري متمسكا بيقينياته موقنا بأن التاريخ حينما تتسلقه ملوك الطوائف لا يغدو إلا قرحا متعفنا ومصيدة ومبولة ومخرأة .
وأنه ليس من صنيعة الرجال كما يروج دائما إإذ انه نتيجة ردود أفعال واستثارات وهو بذلك كسائر الأعشاب والطحالب العفوية الظهور وأن الشعب بلا طليعة لا شيئ وطليعة بلا شعب صفر مثقوب وكلما انعدمت الجسور بينهما فليس ثمة إلا الهاوية .
لقد دخلت سالمة الموظفة بالمكتبة الوطتية العامة حياة العم الطاهر الغمري لتنقذه من تآكله فكان لثرتراته ودروسه التاريخية الملقاة أن استعادت لها أحاسيسها الدفينة وأثثت فوضاها الفكرية لكنها في الأخير تيتمت مرتين أولاهما بفقدانها لأخيها البكر وثانيهما برحيل العم الطاهر وموته بعد أن قآء فلذات رئتيه الذابلتين غارقا في غدير دماء وردتيه الأحمر القاني .. ودفن في عزلة تامة بعد أن رفض الإمام الصلاة عليه فأزعجهم حيا وميتا دون أن يخون قضيته ودون جحود لأصدقائه الراحلين الذين احتوت ظلالهم ظله وضمت أرواحهم روحه في الأخير .
يتقن الكاتب الكبير بوجدرة رشيد ببراعة منقطعة النظير الربط بين الخطوط العريضة للتاريخ وأسلاكه الحريرية الدقيقة التي تلعب أيضا دورها الكبير في كشف الحقائق المخبوءة في منعطفات التاريخ وتعرجاته وتقلباته والمكتومة المخنوقة المكبوتة في صدور الرجال والمقصية المشطوبة الممحوة عن عمد من التاريخ الرسمي المبلط بالمغالطات والتخاريف والزيف والتحريف والترهات والأكاذيب التاريخ الذي كتبه أناس ركبوا آخر موجة ثورية مقبلين على رأس جيوشهم الجرارة من وراء الحدود الغربية والشرقية لحظة إعلان التحرر من ربقة الذل والعبودية دون أن يطلقوا طلقة يتيمة في وجه المستدمر الغاشم .
ما إن قرأنا الأحداث السياسية كروايات التاريخ المشوهة عن قصد إلا وقيض لنا عمالقة يصونون مفاهيم قراءتنا من السخافات ويقومون منطقنا الأعوج ويصوبون صور أفكارنا المقلوبة منبهيننا إلى أن التاريخ الذي يفتقر إلى الموضوعية والوضوح ويمحو أي قيمة ذاتية دون الإعتراف والإعتزاز بها يظل تاريخا ممسوخا ملفقا مفبركا في مخابر المتواطئين مع العدو الرابض في الضفة الأخرى .
إن الذي كان يكتبه العم الطاهر الغمري في ليلياته تاريخ لا يشبه البتة ذاك التاريخ الذي كتبه سراق المجد والإنتصار .
لقد قارب جيل العم الطاهر الغمري على الإنقراض دون أن يدري جيلنا بالكاد شيئا عن جسيم تضحياتهم وبطولات كفاحهم المرير .
لقد كتب العملاق بوجدرة بالفرنسية فأبهرهم وكتب بالعربية التفكك فأدهشهم وخلدها كشهادة للتاريخ عن فئة من نخبة الشعب اخلصوا ولاءهم للوطن والأمة بعظيم تضحياتهم فكان جزاؤهم أن اغتتيلوا غدرا وقبرت بطولاتهم بالطمس وكفنوا بأكفان التنكر والجحود والصمت والنسيان .
راقتني جدا براعة بوجدرة في توظيف دلاليات ورموز أيديولوجيته اليسارية من خلال موضع صورة البطل في الجيب الأيسر من سترته المهترئة
ومن خلال وصفه لمشطة شعر صديقه المغتال حرقا سيد أحمد الذي كان يقسمه على الجهة اليسرى
وكذلك ماكان يكتب به الأخ البكر للبطلة سالمة من حبر أحمر مستخرج من دم البق دلالة على شيوعية حمراء .
وإذ لستني يساريا ولا يمينيا ولا أنتسب إلى أي أيديولوجية فاني أحترم بوجدرة ووفاءه وإخلاصه لمبادئه شأنه شأن بطل روايته الذي أحببته حقا .
لقد حصرت حياة العم الطاهر الغمري بين سنين : 1945 _ 1954 _ 1962 _ 1965_ 1978_
أفهم من ذلك أنه إذا كان مصير إنسان بكامله يتقرر في بضعة أرقام فإن التفكك علمتني أنه حري بالمرء أن يفهم سيرته الشخصية وأن يكتبها بإطناب قبل أن يموت .
وإذ أدرج بوجدرة أرقام هذه السنون الزلزالية المشفرة فلي أن أضيف إليها عام :1988 وعام : 1992م .
وإذ لاسطور أترك لكم أن تقرأوا مابين الأرقام أحداثها .
وإذا كان بوجدرة قد وظف بامتياز المثل العربي القائل : هل يستوي الظل والعود أعوج ؟ .
فلي أن أعقب على مثله موظفا في مراجعتي المتواضعة مثلا صينيا يقول : أول مايفسد من السمكة رأسها .

1.jpg

أخيرا أقول إن رواية التفكك المبهرة لبوجدرة ورواية اللاز المذهلة للراحل الطاهر وطار وجهان وضيآن لرؤية نقدية ثورية تاريخية واحدة .
وأختم بسؤال يتيم :
الرجال من يصنع التاريخ
أم أن التاريخ من يصنعهم ؟.
من يصنع من في فلسفة التاريخ ؟.

جمعي شايبي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى