استهلال علمي:
تُعتبرالأحلام الطريقَ الملكيَ لفهم محتوى العقل الباطن، ومسرحًا ليليًا للرُّموز الحياتيَّة، يعمل أبطاله بشكلٍ متنامٍ على ترميم الواقع المتصدِّع ضمن حلقات رؤيويَّة دراماتيكيَّةٍ متتابعةٍ، ويرى الطبيب النفسيُّ السويسريُّ كارل يونغ أنَّ الوظيفةَ العامة للأحلام هي محاولةٌ جادةٌ وماهرةٌ لإعادة تأسيس توازننا النفسي بواسطة الحلم الذي يقوم بدورٍ تعويضيٍّ في تكويننا، وبذا تلعب الأحلام دورًا هامًا في تنمية الشخصيَّة في الوقت الذي ترتبط فيه الذات بالمخزون التخيِّليِّ الواسع ضمن محورالعقل الباطنيِّ الجماعيَّ الذي يُعنى بترجمة ورسم الحالة الداخليَّة، وتحويلها إلى صورةٍ ذاتيَّة وعفويَّةٍ للحالم ترمز إلى ما يختزنه في عقله الباطن، وصوت الغريزة الإنسانيَّة فيه، وقد اقترح( يونغ) قراءة مزدوجة للحلم من حيث الموضوعيَّة والذَّاتيَّة، ومثَّل الحلم بعمليةٍ دراميةٍ تمرُّ بمراحل عديدةٍ تسلط الضوء فيها على معناه .. معناه الذي يكون متفرِّدًا، لكنه في الوقت نفسه خاضعًا للقضايا المجتمعيَّة والثقافيَّة والعالميَّة تسمح طريقته في التفسير الذي يخضع للتضخيم بمقاربتة برسائل الأحلام والأساطير والمنتجات الثقافية في جميع العصور.
عنوان الكتاب كعتبة ولوج للثلاثيات:
"مرواغة حلمٍ" نكرة العنوان مثيرةٌ ومشوِّقة، تُحيلنا إلى خيال القاصة الخصب، وللتساؤل عن الغاية من المرواغة، وفعلها راغ يرواغ روغًا، راغ الثعلب، ذهبَ يمنةً ويسرةً في سرعةٍ وخديعةٍ، وهو فعلٌ حركيٌّ غايته المكر، والمواربة، والتحايل، ترى هل تسعى لين بمرواغة أحلامنا للتخلص والتملص من الواقع المرِالذي نحياه؟! تُعتبرالمرواغة إحدى أهم مهارات لعبة كرة القدم وكرة السلة اللتين يتمكَّن فيهما اللَّاعب (المحترف) من مخاتلة خصمه كتمرير الكرة بجانبه، أوالاحـتفاظ بها أثناء اللَّعب دون أن يفقدها وجاء في قوله تعالى {فراغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمين} أي رجع إليهم متخفيًا، وقوله كذلك{ فراغ عليهم ضربًا باليمين} أي اعتلَّ عليهم روغًا ليفعل بآلهتهم ما فعل، فالرَّوغ هنا إنحرافٌ يتمُّ في استخفاءٍ وخداعٍ، وقد أجادت الكاتبة استثمار عنوان كتابها فجاء مناسبًا لسرعة أحداث النصوص، ومكرشخوصها، وتبادل الأمكنة والأزمنة، وتحايل الأفكار، ودهاء الأبطال في آداء أدوارهم، فقد أدى العنوان وظيفته على أتمَّ وجه متماهيًا مع خصوصية القصة القصيرة جدأ؛ بما فيها من ومضٍ سريعٍ، ومفارقةٍ وتكثيفٍ وترميزٍ وإيحاءٍ يعتمد على الدلالات اللفظية، والمتواليات السردية في ثلاثياتها والمميزة، وقد ربط بينها خيطٌ شفيفٌ جدًا لا يكاد يمسك القارئ به؛ حتى يفلتَه لشدة شفافيَّته في إحداها، ولدقته في الأخرى، وتفرُّعاته في الثالثة، متكيَّفةً مع أدواتها السرديَّة على اختلافها وتباينها من نصٍ لآخر، وهذا يحسب للكاتبة، ويؤكد على تمرُّسها بلعبة المخاتلة بين الحلم والواقع في نسخٍ عديدةٍ استطاعت فيها أن تعيد بناء الواقع بدعاماتٍ جديدةٍ وجميلةٍ، لا تشبه الواقع البائس في شيءٍ، ممسكةً خيوطها الحريرية بأصابعها، محركةً إياها بذكاءٍ وصبرٍ، تتطلبه الدِّقة في الرَسم، والتكثيف في السرد، والحرفية في التصوير عبر رصد لغة الجسد، والنطق بلغة الحلم تارةً، والواقع تارة أخرى مع شتى الأطياف والأحداث المجتمعيَّة والسياسيَّة قديمها وحديثها، عبر حقيقيَّتها وأسطوريَّتها، وتشابه فكر بعض الأبطال وتناقضها معًا متجليًا جمالها الرُّوحي والخُلقي على جمال المظهر المخادع.
الطبيعة الشذريَّة والمتشظيَّة للنصوص ضمن عُقدةٍ واحدةٍ : عمدت القاصة في كتابة ثلاثيَّاتها إلى رؤيةٍ خاصةٍ جدأ ومختلفةٍ عما سار عليه أغلب كتاب القصة القصيرة جدًا، عندما أدركت عالمها القصصيَّ، ونظَّمته بشكل يتلائم مع واقعها ووعيها؛ فأعادت تشكليه من جديدٍ من خلال رؤيتها لعناصرالنص؛ فلم تنقل الحدث في الواقع إلى النص بحرفيَّته؛ لأنَّها مايزت بين الواقع، وإشكالاته في الحياة، وما يقابلها في السرد من سياقات نصيَّة، فالمتلقِّي يُدرك واقعه باللفظ عبر جملٍ لغويَّةٍ غير متناهيةٍ؛ فيقوم بقدرته التَّخيليَّة بخلق عالمٍ وواقعٍ جديدٍ ـ بفضل طاقاته الإبداعيَّةـ يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ واقعه المدرَك.. ضمن رؤيةٍ تخصُّه، يعتمد فيها الكاتب على حركة الذِّهن من خيالٍ مرئيٍّ ومسموعٍ ضمن شريطٍ سينمائيٍّ، يُعاين الوجع، ويرسم المشهد في الذِّهن، ومن خلال تلك الرؤيَّة الخاصَّة وعلاقتها بواقعها انطلقتِ القاصَّة في نسج قصصها، وسرد أحداثها المتلائمة مع جنس القصة القصيرة جدًا القائم على الاختزال والتكثيف والإيحاء والقفلة المدهشة، أو فلنُسمها الضربة السرديَّة المباغتة لبعض نصوصها تلك التي تهبُ النص في نهايته مفارقةً سحريةً بفلاشٍ مفاجئٍ، ينسف كل توقعات المتلقي الذي رواغته الكاتبة باقتدارٍ؛ لنسجها في فكره؛ فتأتي القفلة غيرالمتوقَّعة؛ لتكسر أفقه، وتهدم كل ما اشتغلت القاصة على بنائه من عنوانٍ واستهلالٍ وبنيةٍ وحكائيَّةٍ وحبكةٍ وانزياحٍ وخاتمةٍ ووحدة موضوع في القصص الثلاث مجتمعةً.
فصول الكتاب:
قسَّمت القاصَّة لين مراوغة حلمها إلى فصولٍ أربعةٍ
أفراد
مجتمعات
أوطان
وطنٌ أخيرٌ
الفصل الأول أفراد: تناولت فيه مشاكل فرديَّة، ورصدت الانحلالات الأخلاقيَّة، وسلطتِ الضوء على بعض التجارب الشخصيَّة السويَّة منها، وغيرالسويِّة؛ كالحَمل سفاحًا، أسبابه، ونتائجة السلبيَّة على الفرد، والمجتمع كما في ثلاثية(ولادة)، وتناولت موضوع الزواج غير المتكافئ، ونتائجه البغيضة التي يذهب الأطفال ضحيتها كما في ثلاثية( زواج ) كذلك عالجت فكرة التشوُّه التي يُولد بعض الأطفال محمَّلين بوزرها، وأسباب تلك التشوُّهات التي تكون؛ إما بسبب مورِّثات جينيَّة، أوبسبب خطأ طبيٍّ أو ضغط ٍعصبيٍّ ونفسي تعرَّضتِ الأمُّ له أثناء فترة الحَمل، أو بسبب تربيةٍ خاطئةٍ من قبل أحد الأبوين كما في ثلاثية(وجود) وكان للخيانة الثلاثية الجسديَّة والرُّوحيَّة والفكريَّة دورًا في معالجة حقيقة الواقع المعاش، والواقع الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي وانعكاسهما على الفرد نفسه والآخر الذي يشاركه الواقعَين على تباينهما، وكان للسرياليَّة مساحةً لابأس بها في هذا الفصل من خلال قصص الأساطير اليونانيَّة التي تحدَّثت فيه عن قتل الأبناء للآباء، والإساءة إلى الأمَّهات ،والتنكُّر لأواصر الأخوة كما ورد في نص( مروءة) كما أنها استعانت بالمثيولوجيا الإغريقيَّة؛ لرصد سلبيات أفراد المجتمع من خلال صندوق( بانادورا) كرمزٍ تختبئ فيه كل شرور البشر، كما سلطت الضوء على آفة الألعاب الالكترونيَّة التي تأثَّر بها بشكلٍ مرعبٍ فِئتا الصبية واليافعين، وانعكاسها على سلوكيَّاتهم، ومدى تحكُّمها بانفعالاتهم التي قد تفُضي إلى الموت أحيانًا كما في نصها الثلاثي (أوهام )
أما في الفصل الثاني ( مجتمعات) فتناولت فيه قضايا مجتمعيَّةً وقيمًا ومعتقداتٍ نمطيةً عديدةً: كالتحرُّش والتحرُّر والتلاص والعدالة، وبعض السلوكيَّات السلبيَّة كالانتحار، والنفاق والعنصريَّة تقول في نصها الثلاثي عنصرية:(تساوى البشرعند الولادة؛ تفاوتت المعاملات بينهم).
النص الأول/ إفتتاح:
وزعتهم على المقاعد حسب قاماتهم...
سيدتي من فضلك، إنقليني قربكِ.. لونه مقرف!
حقك أيتها الشقراء الجميلة أن لا تُجانبي "دميمًا"
ربَّتت على كتف الأسمر، نقلته حذو مكتبها ضمن دائرة النجباء، وختمت بدرسٍ في الأخلاق.
النص الثاني/ جهالةٌ:
أثَّث أوقاته بصخب الجاز، وحركة الأفلام الهليوديَّة، تمرَّن جادًا حتى تمرَّس في تقمِّص دورالأبطال، إثر الكاستينغ انتقاه المخرج، اصفرَّت ابتسامته، غادر متبوعًا بصدىً: "إذهب لتفتيح بشرتك ثم عد"
النص الثالث / تعصِّبٌ:
كشَّر عن أنيابه، عربد، كبَّر، وانقض عليها غدرًا، همدت، لماذا...؟! صرخ أثناء المحاكمة: لأنها أسلمت وجهها لإلٍه غيرإلاهي، أنصفَه قاضٍ من لونه.
العنصرية كعنوان( في هذا النص الثلاثي ) يبدو للوهلة الأولى كاشفًا للنصوص، لكن لو تأملنا الدَّلالات الواردة في كل نصٍ لأدركنا المضامين المختبئة فيها، والتي أرادت القاصة أن تقولها لنا عبر نصوصها، ولعرفنا أن هناك لغزًا خفيّاً في كل نصٍّ يجعله يستقلُّ بنفسه عن تاليه ـ إن شئناـ رغم القاسم المشترك( الثيمة) بين النصوص التي تمَّ تناولها في النصوص الثلاث بطرائق مختلفةٍ، ومن زوايا متعددةٍ
العنصرية تعريفًا : الاعتقاد بأن شخصًا ما هو أرفع مستوىً من غيره، وبناءً على ذلك يتمُّ استبعاد الأشخاص من واقعهم بممارسة اضطهاد التمييز العنصريِّ عليهم والمُنافي للقانون؛ فتُحجب عنهم الامتيازات الممنوحة لغيرهم، رغم مخالفة هذا التمييز لحقوق الإنسان الذي ينص على المساواة في الحقوق، والفرص في التعليم والعمل والفكر، والحضَّ على التحرُّر من التمييز بين الأشخاص والفئات المجتمعيَّة، ويتمُّ التعبير عن العنصرية بشكلٍّ علنيٍّ؛ فتأتي على سبيل نُكات مسيئةٍ للأشخاص، أو على شكل عرض صورٍ مهينةٍ، أوالتلفظ بألقابَ وصفيةٍ مسيئةٍ، أو اتباع سلوكٍ مُهينٍ ومُؤذٍ بسبب العرق، أوالدِّين، أوالطائفة، وهوما يُعرف بجرائم الكراهيَّة والتي تكون متجذِّرةً في المراجع السياسيَّة، والمعتقدات الدينيَّة، والبئة المجتمعيَّة، وقد تمَّ توارثها عبر الزمن فتطوَّرت حتى أصبحت جزءًا من سلوكيَّات الأفراد، والمؤسسات التعليمية، والأنظمة الحاكمة المسيطرة؛ فلو نظرنا إلى النص الأول ( افتتاح) لرأينا أنَّ العنصرية مورست في إحدى المؤسسات التعليميَّة، وقد تعرَّض لها تلميذٌ داكن البشرة من قبل زميلةٍ له في الفصل الدراسيِّ، بعد أنْ أبدت قرفها من لونه الدَّاكن، وطلبت من معلمتها أن تقوم بنقله من قربها إلى مكانٍ آخر، فما كان من المعلمة بعد أن ربِّتت على ظهر تلميذها ذي البشرة الداكنة إلا أن نقلته من جحيم قرب زميلته المسمومة أفكارها إلى نعيم قربها.. واضعةً إياه في زمرة التلامذة النجباء كعلامة مميَّزة عن زميلته، وعن باقي أقرانه، وبتصرِّف المعلمة المسؤول هذا قامت برد اعتباره الإنساني والعلمي، ومنتحه درجةً علميةً مائزةً، صححتْ من خلالها السلوك القبيح للشقراء التي تنمَّرت على زميلها، ونوَّهت في نهاية الحصة التعليميَّة أنَّ سموالأخلاق، و حسن العمل من يعطيا القيمة الحقيقية للإنسان، وليس لون بشرته
أما في النص الثاني (جهالة )
فقد عالجت الكاتبة لين موضوع العنصريَّة من زاويةٍ أخرى، هذه المرة في قطاع العمل الفني الذي يقوم مدراءه على منح فرصه المستحقة على أساس العرق ورغم أن الفنَّ للفنِّ، والنجاح به منوطٌ بالعمل الجاد، والتأكيد على توافر الطاقة الفنيَّة المطلوبة إلا أنَّ بطل نصها تعرَّض للطرد رغم تفوِّقه وإجادته لموهبتي العزف والتمثيل "إذهب لتفتيح بشرتك ثم عد"
أما في نصها الثالث( تعصُّب)
فلقد ارتفعت فيه عقيرة القاصة عندما عالجت مشكلة العنصريَّة كمفهومٍ أوليٍّ؛ ليتطوَّر هذا المفهوم بعد ذلك في نفس النص إلى قضيَّة التعصُّب الدينيِّ، ومن ثمة مشكلة القضاء الفاسد الذي قضى للجاني بالبراءة ؛لأنه من نفس لونه السياسيِّ المتطرِّفِ، ولقد نجحتِ القاصة في تسليط الضوء على هذا الجانب (المتأسلم)، والحديث هنا يطول عن الممارسات البشعة لهذه الفئة التي انبثقت عن السلطة الحاكمة في ظلِّ بعض الثورات الشعبيَّة لحماية الدولة الإسلاميَّة لا الدِّين الإسلاميِّ؛ فهم لا يحملون من الدِّين إلا اسمه، وشكله دون جوهره.. جوهره الذي يحمل قيَم الخير والسلام، والكرامة الإنسانيَّة؛ فالمتأسلمون يفسِّرون الدِّين وتعاليمه حسب آرائهم ،وبما يوافق أهواءهم، ويتَّفق مع مصالحهم الشخصيَّة، ويخدم السلطة السياسيَّة الحاكمة، وفي نصها (تعصُّب )سلَّطت الضوء على فئةٍ متأسلمةٍ كانت تتَّخذ من الفتيات سبايا لذكورها، وتعتبرهنَّ ملك أيمانهم؛ فيقومون باستعبادهِّن وضربِهنَّ واغتصابِهنَّ وهنَّ عذرواتٌ طوال فترة أسرِهنَّ، وبعد المملل منهنَّ يقومون ببيعهنَّ لمن يليهم في مرتبة الإمارة، وأحيانًا كثيرةً، يتناوب حقراء عدة على اغتصاب البنت الواحدة بوحشيةٍ، ثمَّ ورغم كل تلك الجرائم، يأتي قاضٍ من نفس فصيله ولونه السياسيِّ للجاني ليبرِّئ ساحته من كل تلك الموبقات التي ارتكبها في حقِّ المجني عليها من رِقٍ وتعذيبٍ واغتصابٍ وقتلٍ في ظل شرع ربيبوته وتألهه عليها...
عالم الإبداع:
هذا النسيج الثلاثي للسرد في نصوص القصة القصيرة جدٍا للقاصة لين، تطلب منها وعيًا إبداعيًا، تجاوز زادها اللغوي إلى تجربتها الرائدة لتجد لنفسها موطئ قدمٍ راسخةٍ في عالم الثلاثيَّات تدور أحداث النصوص الثلاثة حوله ثيمةٍ واحدةٍ، تتغيَّر أحداثها، ويختلف أبطالها، وتتباعد أمكنتها وأزمنتها، وأفكارها، وتتباين شخوصها وإيحاءاتها الرمزية ودلالالتها من نصٍ لآخر في النص الثلاثي نفسه ورغم كل التحديات التي تفرضها مساحة القصة القصيرة الضيقة جدًا قياسًا بمساحات ٍسرديةٍ أخرى وبالرغم؛ فقد تمكنت القاصة من تركيز رؤيتها وتكثيف عبارتها محتكمة لخيط ٍسرديٍ شفيفٍ، بذلت جهدها كي لا يفلت من بين أصابعها، فحشدت كل طاقاتها الفكرية والشعورية واللغوية منشئةً علاقةً وطيدةً لا فكاك من روابطها بين نصوصها، وقد وحدت بينها في العنوان الرئيس، وترجمته بومضةٍ فلسفيةٍ كانت بمثابة مرآةٍ عاكسةٍ، وظَّفتها لخدمة الثلاثي ثم أفردت لكل منها عنوانا خاصأ بكل قصة عبر بناء سرديٍ متماسكٍ تولى باقتدارٍ سبْك كل تلك التقانات ضمن لوحة تعبيريَّةٍ ناطقةٍ، حافظت على وحدة النص، وزادت من توهُّجه
الوطن هو الاتجاهات الأربعة : تناولت القاصة في الفصل الثالث من كتابها قصص عديدة عن الوطن، سلطت الضوء فيها على الحروب وما ينتج عنها من استراتيجياتٍ، وزعاماتٍ إرهابيَّةٍ متسلطةٍ، وانتخاباتٍ وهميَّة، وانتكاساتٍ اقتصاديَّةٍ كبيرةٍ وتلاشٍ للقيم الأخلاقيَّة وتدنٍّ في السلوكيات المجتمعيَّة الأمر الذي ينتج عنه هروبًا ونزوحًا ولجوءًا وغربةً؛ بحثًا عن واقعٍ أفضلَ رغم كلِّ تحدِّيات هذا الأخير، وبحثًا عن السلام والهدوء والاستقرار، والتمتع بالنذر اليسير من الحقوق الإنسانيَّة في أبسط صورها رغم كل المتغيرات القاسية التي يعيشها المغترب وهو يبحث عن وطنٍ آمنٍ خالٍ من النزاعات، والتنكيل والقتل والتدمير؛ ليبقى الوطن ساكنًا في روحه كقِبلة وحيدةٍ يؤدي فيها ـ بصمتٍ ـ كل مناسكه، ويبقى الوطن قُبلةً فوق جبين الأرض.
بنية السرد وتقنيتها واللغة عند الكاتبة لين :
اعتمدت الكاتبة في كتابها القصصي مرواغة حلم أكثر من تقنية في سرد قصصها القصيرة جدًا سواء كان ذلك على مستوى الشكل، أوطرق السرد، أو زوايا الرؤيا، وكيفيَّة معالجتها متبعةً أسلوب ما بعد الحداثة في هندسة نصوصها، وتشكيلاتها الثلاثيَّة التي تقرأ قرأتين مختلفتين فكل قصة من القصص الثلاثية يمكن أن تقرأ قراءة مستقلة عن الثلاثية كبنيةٍ سرديَّةٍ مكتملة البناء رغم تعدد دلالاتها، ويمكن أن تُقرأ على أنها بنيَّةٌ جزئيَّةٌ مستقلةٌ عن جسد النص الثلاثي الذي يحدده عنوان رئيس تتفرع عنه باقي النصوص الثلاثيَّة المتعددة الإسقاطات تشكيلاً وتوظيفًا عبر رؤى تراجيديةَّ تدعم رؤى الواقع المعاش ضمن وتيرةٍ سرديةٍ متتالية بعلاقاتٍ زمنيَّةٍ منطقيَّةٍ لنقل الأحداث ضمن ثيمةٍ مشتركةٍ ألمَّت بكلِّ جوانبها، وسعت إلى تحفيز فكرالمتلقي؛ لتأمل الموضوع من زوايته الفكريَّة ومرجعَّيته الثقافية، كما اعتمدت على استرجاع الأحداث التي حدثت في الزمن الماضي سواء كانت هذه الأحداث واقعيَّة، أم خياليَّة كالسير الذاتيَّة، والأحداث التقريرية، وهذا ما يعرف (بالميتاسيرد، الفلاش باك) واتخذت من( النمط الخطابي) للنصح و الإرشاد والتوجيه بأسلوبٍ إنفعاليٍّ تارةً، وإنشائيٍّ تارةً أخرى ..نمطًا آخر للسرد،استخدمت فيها ضمائر المخاطب وأساليب النفي والإغراء والتحذير، والجمل القصيرة واضحة الدلالة، كما استخدمت( النمطَ الوصفيَّ) في السرد من خلال التركيز على أمكنة وأزمنة النصوص؛ فنقلتها من الحيِّز الذهنيِّ إلى المحسوس والملموس.. كوصف مسرح الأحداث، ورصد لغة الجسد، ومن وظائف هذا النمط:
استخدام الجمل الزخرفية والتفسيريَّة، والإيهام وكثرة النعوت، والأحوال والصور البيانيِّة التي تغلب عليها الأفعال المضارعة الدِّالة على الحال،والتي تعبر عن الحركة والحيويَّة، وترصد الحالات النفسيَّة كالقلق والحزن والدهشة والخوف، وكان (لنمط السرد الحواري )نصيبًا في أسلوبها في السرد، عن طريق السؤال والجواب، والاستنكار والاستفهام، وقد ينحدر هذا الأسلوب إلى مستوى الثرثرة، أوالهذيان، وقد يرتقي إلى مستوى الهدوء في المناقشات العلميَّة والجدل عند اختلاف الآراء، يتَّصف هذا النمط في السرد، بالتقطُّع، والعبارات القصيرة، وهنا تتَّضح لغة الكاتبة لين، التي تستخدم ضمائرالخطاب، وضميرَي المتكلم ونسبة الكلام لقائله، وتبتعد عن المجاز، وتباين تأويله.
عالجت من خلال هذا الأسلوب قضايا عديدة كالخيانة،والعنوسة والحرية، والاستعباد،واللجوء، ورصدت الأبعاد النفسيَّة، والمجتمعيَّة للشخصيات المتحاورة بتحريك الأحداث، وتشخيص الصراع الدراميِّ، ولم تخلُ بعض نصوصها من (النمط التقريري الإخباري) في السرد الذي يعتمد على دقة المعلومة والصدق والموضوعية في المعالجة عبر تقديم أخبار ووقائع بسقفٍ زمانيٍّ ومكانيٍ محددٍ
تغلب على هذا الأسلوب:
الجمل الإسمية، والأفعال الماضية، وسير الغائب وحروف العطف الدالة على الاستئناف والترتيب.
سرُّ الثلاثيَّات: من الثلاثيَّات التي وردت في القرآن الكريم، وفي قصص الأولين ثلاثياتٌ وردت في سورة سيدنا يوسف
(القمصان ثلاثة) و (الرؤى ثلاث) (ورحلات أخوة يوسف إليه كانت ثلاث) وقد (ورد الحزن على لسان سيدنا يعقوب ثلاثة مرات)
أما عن القمصان الثلاث فإليكم آياتها:
(القميص الأول)
وكان قميص الترحة :
(وجاءوا على قميصه بدمٍ كذبٍ ) أي أنَّ الدم الذي جاء به إخوة يوسف على قميصه عليه السلام لم يكن دم يوسف الذي أكله الذئب كما ادعى إخوته، بل دم شاةٍ ذبحوها، ولطَّخوا قميصه بدمها كذبًا
(القميص الثالث )
وكان قميص الفرحة: ( اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيرًا، وآتوني بأهلكم أجمعين)
أراد سيدنا يوسف إدخال الفرح والسرور على قلب أبيه كما جاء القميص قبلًا بحزنه، وأراد محو خطيئة إخوته؛ فبعثهم بقميصه ليكونوا محسنين، ولما كان في القميص أثرٌ من ريح يُوسفَ، فمجرد أن شمَّه سيدنا يعقوب عليه السلام، ارتدَّ إليه بصره، وزالَ عنه نكد العيش وحزن الرُّوح، لم يكتفِ نبي الله يوسف بكظم الغيظ عمَّن أساء له، حتى رقيَ مرتبة العفو، وما زال يترقَّى يترقَّى حتى وصلَ إلى منزلة الإحسان الذي أشاعه كي يشمل جميع أهله
(القميص الثاني)
الذي توسط القميصَين الأول والثالث كان شاهدًا على العفة:( قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصه قدَّ من قبلٍ فصدقت وهومن الكاذبين وإن كان قميصه قُدَّ من دُبرٍ فكذبت وهو من الصادقين )
لقد جعل الله تعالى للحقِّ وأهله دلالاتٌ، وأماراتٌ تدل عليه، لا يعلمها إلا الخاصة من أهل الله، والبعض الأخرلا يعلمونها، وقد بعث الله الطفل في المهد من أهل امرأة العزيز؛ ليشهدَ ببراءة نبي الله وصفيه بقرينةٍ، وبينةٍ واضحةٍ تردُّ عنه اتهام امرأة العزيز الباطل عندما غلقتِ الأبواب دونه ،وراودته عن نفسها بقولها (هيت لك)
أما عن (الرؤى الثلاث) فهي
( الرؤيَّة الأولى): كانت لسيِّدنا يوسف عليه السلام:
(إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشركوكبًا والشمس والقمررأيتهم لي ساجدين) يوسف/ 4/
(الرؤيَّة الثانية): رؤية صاحبي السَّجن( ودخل معه السَّجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرًا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسيَ خبزًا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) يوسف/ 36 /
(الرؤيَّة الثالثة) رؤية الملك
( وقال الملك إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ يأكلهن سبعُ عجافٌ وسبعُ سنبلاتٍ خضرٍ وأخرى يابساتٍ يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون) يوسف/43/
أما رحلات أخوة يوسف إليه، ودخولهم عليه قبل أن يعرفوا أنه أخوهم كانت (ثلاثًا) على اختلاف شأنها
" الدخول الأول" على سبيل التعارف والتناكر (وجاء أخوة يوسف فدخلواعليه فعرفهم وهو له منكرون) يوسف/58/
أما "الدخول الثاني" فكان بمثابة اعتراف من سيدنا يوسف لشقيقه دون باقي إخوته أنه أخوه (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك) وكان شقيقه الوحيد من أمه واسمه "بنيامين" وكان اسم أمه راحيل، وفي الوقت نفسه كانت ابنة خال سيدنا يعقوب، إذ كان لسيدنا يعقوب أربع زوجات أنجبن له اثني عشر ابنًا.
أما "الدخول الثالث" فكان بهدف طلب إخوة يوسف منه المساعدة بإعطائهم قمحًا والتصدُّق عليهم بعد أنْ مسَّهم الضُّر( فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضُّرُّ وجئنا ببضاعةٍ مزجَّاةٍ فأوفِ لنا الكيل وتصدَّق علينا إن الله يجزي المتصدقين) 88 يوسف
أما الحزن فقد ورد على لسان سيدنا يعقوب ثلاثًا أيضًا:
الحزن الأول /الآية 13(قال إنه ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) أي أنه (سيحزن لغيبته) ويخاف أن يأكله الذئب أثناء انشغالهم عنه برعي الغنم.
الحزن الثاني /الآية 84( وتولَّى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضَّت عيناه من الحزن وهو كظيم)
سيدنا يعقوب بعد أن أخبره أبناءه أن ابنه "بنيامين" شقيق يوسف قد اتهم بسرقة صواع الملك وتم احتجازه في مصر بجريرة سرقته، ابتعد عن أبنائه وقد اشتد أسفه وازداد أساه إذ فقد بصره من شدة الحزن والبكاء على يوسف..
الحزن الثالث الآية 86 ( قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعملون) لقد اكتفى سيدنا يعقوب بالشكوى لله وحده لأنه كان على يقينٍ بالعلم الذي وهبه الله إيَّ وواثقٌ أن الله سيرد له يوسف وأخاه لتقرَّعينه بأبنائه جميعًا.
وقال الله تعالى عن التأدب في ذكره في الآية 205 من سورة الأعراف:( واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفةٍ ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) أي التضرع في الدعاء بالاستكانة، ويُكره رفع الصوت أوالنداء والصياح بالدعاء في البكر والعشيَّات
أما عن الثلاثيَّات في الأحاديث النبويَّة؛ فأذكرمنها على سبيل التعداد لا الحصر، قال النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثةٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان
1ـ أن يكون الله ورسوله أحبُّ إليه ممِّن سواه
2ـ وأن يحبَّ المرء، فلا يحبُّ إلا الله
3ـ وأن يكره أن يعود إلى الكفر، كما يكره أن يُقذف في النار(متفق ٌعليه)
حديث آية المنافق ثلاث:
إذا حدَّث كذَّب، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمن خان. (أخرجه مسلم )
وحدَّثنا رسول الله عن ثلاث مُهلكاتٍ وثلاث مُنجياتٍ وثلاث كفّارات، وثلاث درجاتٍ :
أما المهلكات: فشحٌ مطاعٌ، وهوىً متَّبعٌ وعُجب المرء بنفسه...
أما المنجيات: فالعدل في الغضب، والرضا والقصد في الفقر، والغنى وخشية الله تعالى في السرِّ والعلانية
وأما الكفَّارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات أي وقت الأمطار والبرد، ونقل الأقدام إلى الجماعات،أي صلاة الجماعة
وأما الدَّرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السَّلام، والصّلاة في اللَّيل والنَّاس نيام
(رواه الطبراني وحسَّنه الألباني)
أما عن الرجال الثلاثة الذين يكونون في ضمان الله :
فرجلٌ خرج إلى مسجدٍ من مساجد الله عزَّ وجل، ورجلٌ خرج غازيًا في سبيل الله، ورجلٌ خرج حاجًا.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ثلاث دعواتٍ مستجابةً: دعوة الصَّائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر، فإذا سألنا ما السرُّ المشترك بين هؤلاء الثلاث في إجابة الدعاء؛ لأدركناه في كمال التجرُّد لله تعالى، والانقطاع عن الأسباب والخلق، والوثوق والتعلُّق بالله وحده
أما الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه فقال في حكمه:
ثلاثةٌ يوجبنَ المحبَّة:
لدين، والتواضع، والسَّخاء.
وثلاثةٌ تتميِّز بهن المرأة الحقيقيَّة: الفطنة، وسلامة الذوق، والأمومة
قال اين القيم: الجلساء ثلاثة/ الأول كالغذاء: لا بد منه، وهو الجليس الصالح
والثاني: كالدواء نحتاجه في وقتٍ دون آخر: وهو الجليس الذي به بعض صفات السوء، ولكن يُرتجى منه الخير
والثالث كالدَّاء: لا يُحتاج إليه قط، وهوجليس السوء.
أما الرقم/ 3/ في علم الطاقة والفلك؛ فيعدُّ رقمٌ إلهيٌّ يؤكد على أنَّ طاقات الكون تقود رغائبنا في التعبير عن إبداعنا وارتباطنا بالعالم الروحي والقوى الروحية التي تساعدنا في الوصول إلى أهدافنا، ويتمتَّع أصحاب هذا الرقم بالثقة الكبيرة بالنفس كما يرتبط رقم/ 3/ في علم الاعداد بالثروة والمعرفة والسلام والحكمة والوئام، ويتمتَّع بمواهبَ عديدةٍ كالغناء والتمثيل، والرسم ،والطاقته الإبداعية المتجددة غالبًا، ويُعتبر صاحب الرقم ثلاثة من الأشخاص المستنرين، والأساتذة الصاعدين، ولديهم قدرة على التنمية، وصنع الفرح والعقلية الإيجابية المشرقة والقدرة على اختيار الأصدقاء المميزين والنجباء، أمثالي لأني صديقة صاحبة الاسم الثلاثي( لين)
صاحبة كتاب الثلاثيَّات القصصية (مرواغة حلم)
كتاب الثلاثيَّات (مرواغة حلم) تجربة فريدة ومائزة في الأدب الوجيز للقصة القصيرة جدًا للأديبة( لين هاجرالأشعل)
الصادر عن دار أمينة للنشر والتوزيع في القيروان.
بانوراما أدبية
بقلم إيمان فجر السيد
تمت بعون الله
الأحد 24.12.2024
تُعتبرالأحلام الطريقَ الملكيَ لفهم محتوى العقل الباطن، ومسرحًا ليليًا للرُّموز الحياتيَّة، يعمل أبطاله بشكلٍ متنامٍ على ترميم الواقع المتصدِّع ضمن حلقات رؤيويَّة دراماتيكيَّةٍ متتابعةٍ، ويرى الطبيب النفسيُّ السويسريُّ كارل يونغ أنَّ الوظيفةَ العامة للأحلام هي محاولةٌ جادةٌ وماهرةٌ لإعادة تأسيس توازننا النفسي بواسطة الحلم الذي يقوم بدورٍ تعويضيٍّ في تكويننا، وبذا تلعب الأحلام دورًا هامًا في تنمية الشخصيَّة في الوقت الذي ترتبط فيه الذات بالمخزون التخيِّليِّ الواسع ضمن محورالعقل الباطنيِّ الجماعيَّ الذي يُعنى بترجمة ورسم الحالة الداخليَّة، وتحويلها إلى صورةٍ ذاتيَّة وعفويَّةٍ للحالم ترمز إلى ما يختزنه في عقله الباطن، وصوت الغريزة الإنسانيَّة فيه، وقد اقترح( يونغ) قراءة مزدوجة للحلم من حيث الموضوعيَّة والذَّاتيَّة، ومثَّل الحلم بعمليةٍ دراميةٍ تمرُّ بمراحل عديدةٍ تسلط الضوء فيها على معناه .. معناه الذي يكون متفرِّدًا، لكنه في الوقت نفسه خاضعًا للقضايا المجتمعيَّة والثقافيَّة والعالميَّة تسمح طريقته في التفسير الذي يخضع للتضخيم بمقاربتة برسائل الأحلام والأساطير والمنتجات الثقافية في جميع العصور.
عنوان الكتاب كعتبة ولوج للثلاثيات:
"مرواغة حلمٍ" نكرة العنوان مثيرةٌ ومشوِّقة، تُحيلنا إلى خيال القاصة الخصب، وللتساؤل عن الغاية من المرواغة، وفعلها راغ يرواغ روغًا، راغ الثعلب، ذهبَ يمنةً ويسرةً في سرعةٍ وخديعةٍ، وهو فعلٌ حركيٌّ غايته المكر، والمواربة، والتحايل، ترى هل تسعى لين بمرواغة أحلامنا للتخلص والتملص من الواقع المرِالذي نحياه؟! تُعتبرالمرواغة إحدى أهم مهارات لعبة كرة القدم وكرة السلة اللتين يتمكَّن فيهما اللَّاعب (المحترف) من مخاتلة خصمه كتمرير الكرة بجانبه، أوالاحـتفاظ بها أثناء اللَّعب دون أن يفقدها وجاء في قوله تعالى {فراغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمين} أي رجع إليهم متخفيًا، وقوله كذلك{ فراغ عليهم ضربًا باليمين} أي اعتلَّ عليهم روغًا ليفعل بآلهتهم ما فعل، فالرَّوغ هنا إنحرافٌ يتمُّ في استخفاءٍ وخداعٍ، وقد أجادت الكاتبة استثمار عنوان كتابها فجاء مناسبًا لسرعة أحداث النصوص، ومكرشخوصها، وتبادل الأمكنة والأزمنة، وتحايل الأفكار، ودهاء الأبطال في آداء أدوارهم، فقد أدى العنوان وظيفته على أتمَّ وجه متماهيًا مع خصوصية القصة القصيرة جدأ؛ بما فيها من ومضٍ سريعٍ، ومفارقةٍ وتكثيفٍ وترميزٍ وإيحاءٍ يعتمد على الدلالات اللفظية، والمتواليات السردية في ثلاثياتها والمميزة، وقد ربط بينها خيطٌ شفيفٌ جدًا لا يكاد يمسك القارئ به؛ حتى يفلتَه لشدة شفافيَّته في إحداها، ولدقته في الأخرى، وتفرُّعاته في الثالثة، متكيَّفةً مع أدواتها السرديَّة على اختلافها وتباينها من نصٍ لآخر، وهذا يحسب للكاتبة، ويؤكد على تمرُّسها بلعبة المخاتلة بين الحلم والواقع في نسخٍ عديدةٍ استطاعت فيها أن تعيد بناء الواقع بدعاماتٍ جديدةٍ وجميلةٍ، لا تشبه الواقع البائس في شيءٍ، ممسكةً خيوطها الحريرية بأصابعها، محركةً إياها بذكاءٍ وصبرٍ، تتطلبه الدِّقة في الرَسم، والتكثيف في السرد، والحرفية في التصوير عبر رصد لغة الجسد، والنطق بلغة الحلم تارةً، والواقع تارة أخرى مع شتى الأطياف والأحداث المجتمعيَّة والسياسيَّة قديمها وحديثها، عبر حقيقيَّتها وأسطوريَّتها، وتشابه فكر بعض الأبطال وتناقضها معًا متجليًا جمالها الرُّوحي والخُلقي على جمال المظهر المخادع.
الطبيعة الشذريَّة والمتشظيَّة للنصوص ضمن عُقدةٍ واحدةٍ : عمدت القاصة في كتابة ثلاثيَّاتها إلى رؤيةٍ خاصةٍ جدأ ومختلفةٍ عما سار عليه أغلب كتاب القصة القصيرة جدًا، عندما أدركت عالمها القصصيَّ، ونظَّمته بشكل يتلائم مع واقعها ووعيها؛ فأعادت تشكليه من جديدٍ من خلال رؤيتها لعناصرالنص؛ فلم تنقل الحدث في الواقع إلى النص بحرفيَّته؛ لأنَّها مايزت بين الواقع، وإشكالاته في الحياة، وما يقابلها في السرد من سياقات نصيَّة، فالمتلقِّي يُدرك واقعه باللفظ عبر جملٍ لغويَّةٍ غير متناهيةٍ؛ فيقوم بقدرته التَّخيليَّة بخلق عالمٍ وواقعٍ جديدٍ ـ بفضل طاقاته الإبداعيَّةـ يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ واقعه المدرَك.. ضمن رؤيةٍ تخصُّه، يعتمد فيها الكاتب على حركة الذِّهن من خيالٍ مرئيٍّ ومسموعٍ ضمن شريطٍ سينمائيٍّ، يُعاين الوجع، ويرسم المشهد في الذِّهن، ومن خلال تلك الرؤيَّة الخاصَّة وعلاقتها بواقعها انطلقتِ القاصَّة في نسج قصصها، وسرد أحداثها المتلائمة مع جنس القصة القصيرة جدًا القائم على الاختزال والتكثيف والإيحاء والقفلة المدهشة، أو فلنُسمها الضربة السرديَّة المباغتة لبعض نصوصها تلك التي تهبُ النص في نهايته مفارقةً سحريةً بفلاشٍ مفاجئٍ، ينسف كل توقعات المتلقي الذي رواغته الكاتبة باقتدارٍ؛ لنسجها في فكره؛ فتأتي القفلة غيرالمتوقَّعة؛ لتكسر أفقه، وتهدم كل ما اشتغلت القاصة على بنائه من عنوانٍ واستهلالٍ وبنيةٍ وحكائيَّةٍ وحبكةٍ وانزياحٍ وخاتمةٍ ووحدة موضوع في القصص الثلاث مجتمعةً.
فصول الكتاب:
قسَّمت القاصَّة لين مراوغة حلمها إلى فصولٍ أربعةٍ
أفراد
مجتمعات
أوطان
وطنٌ أخيرٌ
الفصل الأول أفراد: تناولت فيه مشاكل فرديَّة، ورصدت الانحلالات الأخلاقيَّة، وسلطتِ الضوء على بعض التجارب الشخصيَّة السويَّة منها، وغيرالسويِّة؛ كالحَمل سفاحًا، أسبابه، ونتائجة السلبيَّة على الفرد، والمجتمع كما في ثلاثية(ولادة)، وتناولت موضوع الزواج غير المتكافئ، ونتائجه البغيضة التي يذهب الأطفال ضحيتها كما في ثلاثية( زواج ) كذلك عالجت فكرة التشوُّه التي يُولد بعض الأطفال محمَّلين بوزرها، وأسباب تلك التشوُّهات التي تكون؛ إما بسبب مورِّثات جينيَّة، أوبسبب خطأ طبيٍّ أو ضغط ٍعصبيٍّ ونفسي تعرَّضتِ الأمُّ له أثناء فترة الحَمل، أو بسبب تربيةٍ خاطئةٍ من قبل أحد الأبوين كما في ثلاثية(وجود) وكان للخيانة الثلاثية الجسديَّة والرُّوحيَّة والفكريَّة دورًا في معالجة حقيقة الواقع المعاش، والواقع الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي وانعكاسهما على الفرد نفسه والآخر الذي يشاركه الواقعَين على تباينهما، وكان للسرياليَّة مساحةً لابأس بها في هذا الفصل من خلال قصص الأساطير اليونانيَّة التي تحدَّثت فيه عن قتل الأبناء للآباء، والإساءة إلى الأمَّهات ،والتنكُّر لأواصر الأخوة كما ورد في نص( مروءة) كما أنها استعانت بالمثيولوجيا الإغريقيَّة؛ لرصد سلبيات أفراد المجتمع من خلال صندوق( بانادورا) كرمزٍ تختبئ فيه كل شرور البشر، كما سلطت الضوء على آفة الألعاب الالكترونيَّة التي تأثَّر بها بشكلٍ مرعبٍ فِئتا الصبية واليافعين، وانعكاسها على سلوكيَّاتهم، ومدى تحكُّمها بانفعالاتهم التي قد تفُضي إلى الموت أحيانًا كما في نصها الثلاثي (أوهام )
أما في الفصل الثاني ( مجتمعات) فتناولت فيه قضايا مجتمعيَّةً وقيمًا ومعتقداتٍ نمطيةً عديدةً: كالتحرُّش والتحرُّر والتلاص والعدالة، وبعض السلوكيَّات السلبيَّة كالانتحار، والنفاق والعنصريَّة تقول في نصها الثلاثي عنصرية:(تساوى البشرعند الولادة؛ تفاوتت المعاملات بينهم).
النص الأول/ إفتتاح:
وزعتهم على المقاعد حسب قاماتهم...
سيدتي من فضلك، إنقليني قربكِ.. لونه مقرف!
حقك أيتها الشقراء الجميلة أن لا تُجانبي "دميمًا"
ربَّتت على كتف الأسمر، نقلته حذو مكتبها ضمن دائرة النجباء، وختمت بدرسٍ في الأخلاق.
النص الثاني/ جهالةٌ:
أثَّث أوقاته بصخب الجاز، وحركة الأفلام الهليوديَّة، تمرَّن جادًا حتى تمرَّس في تقمِّص دورالأبطال، إثر الكاستينغ انتقاه المخرج، اصفرَّت ابتسامته، غادر متبوعًا بصدىً: "إذهب لتفتيح بشرتك ثم عد"
النص الثالث / تعصِّبٌ:
كشَّر عن أنيابه، عربد، كبَّر، وانقض عليها غدرًا، همدت، لماذا...؟! صرخ أثناء المحاكمة: لأنها أسلمت وجهها لإلٍه غيرإلاهي، أنصفَه قاضٍ من لونه.
العنصرية كعنوان( في هذا النص الثلاثي ) يبدو للوهلة الأولى كاشفًا للنصوص، لكن لو تأملنا الدَّلالات الواردة في كل نصٍ لأدركنا المضامين المختبئة فيها، والتي أرادت القاصة أن تقولها لنا عبر نصوصها، ولعرفنا أن هناك لغزًا خفيّاً في كل نصٍّ يجعله يستقلُّ بنفسه عن تاليه ـ إن شئناـ رغم القاسم المشترك( الثيمة) بين النصوص التي تمَّ تناولها في النصوص الثلاث بطرائق مختلفةٍ، ومن زوايا متعددةٍ
العنصرية تعريفًا : الاعتقاد بأن شخصًا ما هو أرفع مستوىً من غيره، وبناءً على ذلك يتمُّ استبعاد الأشخاص من واقعهم بممارسة اضطهاد التمييز العنصريِّ عليهم والمُنافي للقانون؛ فتُحجب عنهم الامتيازات الممنوحة لغيرهم، رغم مخالفة هذا التمييز لحقوق الإنسان الذي ينص على المساواة في الحقوق، والفرص في التعليم والعمل والفكر، والحضَّ على التحرُّر من التمييز بين الأشخاص والفئات المجتمعيَّة، ويتمُّ التعبير عن العنصرية بشكلٍّ علنيٍّ؛ فتأتي على سبيل نُكات مسيئةٍ للأشخاص، أو على شكل عرض صورٍ مهينةٍ، أوالتلفظ بألقابَ وصفيةٍ مسيئةٍ، أو اتباع سلوكٍ مُهينٍ ومُؤذٍ بسبب العرق، أوالدِّين، أوالطائفة، وهوما يُعرف بجرائم الكراهيَّة والتي تكون متجذِّرةً في المراجع السياسيَّة، والمعتقدات الدينيَّة، والبئة المجتمعيَّة، وقد تمَّ توارثها عبر الزمن فتطوَّرت حتى أصبحت جزءًا من سلوكيَّات الأفراد، والمؤسسات التعليمية، والأنظمة الحاكمة المسيطرة؛ فلو نظرنا إلى النص الأول ( افتتاح) لرأينا أنَّ العنصرية مورست في إحدى المؤسسات التعليميَّة، وقد تعرَّض لها تلميذٌ داكن البشرة من قبل زميلةٍ له في الفصل الدراسيِّ، بعد أنْ أبدت قرفها من لونه الدَّاكن، وطلبت من معلمتها أن تقوم بنقله من قربها إلى مكانٍ آخر، فما كان من المعلمة بعد أن ربِّتت على ظهر تلميذها ذي البشرة الداكنة إلا أن نقلته من جحيم قرب زميلته المسمومة أفكارها إلى نعيم قربها.. واضعةً إياه في زمرة التلامذة النجباء كعلامة مميَّزة عن زميلته، وعن باقي أقرانه، وبتصرِّف المعلمة المسؤول هذا قامت برد اعتباره الإنساني والعلمي، ومنتحه درجةً علميةً مائزةً، صححتْ من خلالها السلوك القبيح للشقراء التي تنمَّرت على زميلها، ونوَّهت في نهاية الحصة التعليميَّة أنَّ سموالأخلاق، و حسن العمل من يعطيا القيمة الحقيقية للإنسان، وليس لون بشرته
أما في النص الثاني (جهالة )
فقد عالجت الكاتبة لين موضوع العنصريَّة من زاويةٍ أخرى، هذه المرة في قطاع العمل الفني الذي يقوم مدراءه على منح فرصه المستحقة على أساس العرق ورغم أن الفنَّ للفنِّ، والنجاح به منوطٌ بالعمل الجاد، والتأكيد على توافر الطاقة الفنيَّة المطلوبة إلا أنَّ بطل نصها تعرَّض للطرد رغم تفوِّقه وإجادته لموهبتي العزف والتمثيل "إذهب لتفتيح بشرتك ثم عد"
أما في نصها الثالث( تعصُّب)
فلقد ارتفعت فيه عقيرة القاصة عندما عالجت مشكلة العنصريَّة كمفهومٍ أوليٍّ؛ ليتطوَّر هذا المفهوم بعد ذلك في نفس النص إلى قضيَّة التعصُّب الدينيِّ، ومن ثمة مشكلة القضاء الفاسد الذي قضى للجاني بالبراءة ؛لأنه من نفس لونه السياسيِّ المتطرِّفِ، ولقد نجحتِ القاصة في تسليط الضوء على هذا الجانب (المتأسلم)، والحديث هنا يطول عن الممارسات البشعة لهذه الفئة التي انبثقت عن السلطة الحاكمة في ظلِّ بعض الثورات الشعبيَّة لحماية الدولة الإسلاميَّة لا الدِّين الإسلاميِّ؛ فهم لا يحملون من الدِّين إلا اسمه، وشكله دون جوهره.. جوهره الذي يحمل قيَم الخير والسلام، والكرامة الإنسانيَّة؛ فالمتأسلمون يفسِّرون الدِّين وتعاليمه حسب آرائهم ،وبما يوافق أهواءهم، ويتَّفق مع مصالحهم الشخصيَّة، ويخدم السلطة السياسيَّة الحاكمة، وفي نصها (تعصُّب )سلَّطت الضوء على فئةٍ متأسلمةٍ كانت تتَّخذ من الفتيات سبايا لذكورها، وتعتبرهنَّ ملك أيمانهم؛ فيقومون باستعبادهِّن وضربِهنَّ واغتصابِهنَّ وهنَّ عذرواتٌ طوال فترة أسرِهنَّ، وبعد المملل منهنَّ يقومون ببيعهنَّ لمن يليهم في مرتبة الإمارة، وأحيانًا كثيرةً، يتناوب حقراء عدة على اغتصاب البنت الواحدة بوحشيةٍ، ثمَّ ورغم كل تلك الجرائم، يأتي قاضٍ من نفس فصيله ولونه السياسيِّ للجاني ليبرِّئ ساحته من كل تلك الموبقات التي ارتكبها في حقِّ المجني عليها من رِقٍ وتعذيبٍ واغتصابٍ وقتلٍ في ظل شرع ربيبوته وتألهه عليها...
عالم الإبداع:
هذا النسيج الثلاثي للسرد في نصوص القصة القصيرة جدٍا للقاصة لين، تطلب منها وعيًا إبداعيًا، تجاوز زادها اللغوي إلى تجربتها الرائدة لتجد لنفسها موطئ قدمٍ راسخةٍ في عالم الثلاثيَّات تدور أحداث النصوص الثلاثة حوله ثيمةٍ واحدةٍ، تتغيَّر أحداثها، ويختلف أبطالها، وتتباعد أمكنتها وأزمنتها، وأفكارها، وتتباين شخوصها وإيحاءاتها الرمزية ودلالالتها من نصٍ لآخر في النص الثلاثي نفسه ورغم كل التحديات التي تفرضها مساحة القصة القصيرة الضيقة جدًا قياسًا بمساحات ٍسرديةٍ أخرى وبالرغم؛ فقد تمكنت القاصة من تركيز رؤيتها وتكثيف عبارتها محتكمة لخيط ٍسرديٍ شفيفٍ، بذلت جهدها كي لا يفلت من بين أصابعها، فحشدت كل طاقاتها الفكرية والشعورية واللغوية منشئةً علاقةً وطيدةً لا فكاك من روابطها بين نصوصها، وقد وحدت بينها في العنوان الرئيس، وترجمته بومضةٍ فلسفيةٍ كانت بمثابة مرآةٍ عاكسةٍ، وظَّفتها لخدمة الثلاثي ثم أفردت لكل منها عنوانا خاصأ بكل قصة عبر بناء سرديٍ متماسكٍ تولى باقتدارٍ سبْك كل تلك التقانات ضمن لوحة تعبيريَّةٍ ناطقةٍ، حافظت على وحدة النص، وزادت من توهُّجه
الوطن هو الاتجاهات الأربعة : تناولت القاصة في الفصل الثالث من كتابها قصص عديدة عن الوطن، سلطت الضوء فيها على الحروب وما ينتج عنها من استراتيجياتٍ، وزعاماتٍ إرهابيَّةٍ متسلطةٍ، وانتخاباتٍ وهميَّة، وانتكاساتٍ اقتصاديَّةٍ كبيرةٍ وتلاشٍ للقيم الأخلاقيَّة وتدنٍّ في السلوكيات المجتمعيَّة الأمر الذي ينتج عنه هروبًا ونزوحًا ولجوءًا وغربةً؛ بحثًا عن واقعٍ أفضلَ رغم كلِّ تحدِّيات هذا الأخير، وبحثًا عن السلام والهدوء والاستقرار، والتمتع بالنذر اليسير من الحقوق الإنسانيَّة في أبسط صورها رغم كل المتغيرات القاسية التي يعيشها المغترب وهو يبحث عن وطنٍ آمنٍ خالٍ من النزاعات، والتنكيل والقتل والتدمير؛ ليبقى الوطن ساكنًا في روحه كقِبلة وحيدةٍ يؤدي فيها ـ بصمتٍ ـ كل مناسكه، ويبقى الوطن قُبلةً فوق جبين الأرض.
بنية السرد وتقنيتها واللغة عند الكاتبة لين :
اعتمدت الكاتبة في كتابها القصصي مرواغة حلم أكثر من تقنية في سرد قصصها القصيرة جدًا سواء كان ذلك على مستوى الشكل، أوطرق السرد، أو زوايا الرؤيا، وكيفيَّة معالجتها متبعةً أسلوب ما بعد الحداثة في هندسة نصوصها، وتشكيلاتها الثلاثيَّة التي تقرأ قرأتين مختلفتين فكل قصة من القصص الثلاثية يمكن أن تقرأ قراءة مستقلة عن الثلاثية كبنيةٍ سرديَّةٍ مكتملة البناء رغم تعدد دلالاتها، ويمكن أن تُقرأ على أنها بنيَّةٌ جزئيَّةٌ مستقلةٌ عن جسد النص الثلاثي الذي يحدده عنوان رئيس تتفرع عنه باقي النصوص الثلاثيَّة المتعددة الإسقاطات تشكيلاً وتوظيفًا عبر رؤى تراجيديةَّ تدعم رؤى الواقع المعاش ضمن وتيرةٍ سرديةٍ متتالية بعلاقاتٍ زمنيَّةٍ منطقيَّةٍ لنقل الأحداث ضمن ثيمةٍ مشتركةٍ ألمَّت بكلِّ جوانبها، وسعت إلى تحفيز فكرالمتلقي؛ لتأمل الموضوع من زوايته الفكريَّة ومرجعَّيته الثقافية، كما اعتمدت على استرجاع الأحداث التي حدثت في الزمن الماضي سواء كانت هذه الأحداث واقعيَّة، أم خياليَّة كالسير الذاتيَّة، والأحداث التقريرية، وهذا ما يعرف (بالميتاسيرد، الفلاش باك) واتخذت من( النمط الخطابي) للنصح و الإرشاد والتوجيه بأسلوبٍ إنفعاليٍّ تارةً، وإنشائيٍّ تارةً أخرى ..نمطًا آخر للسرد،استخدمت فيها ضمائر المخاطب وأساليب النفي والإغراء والتحذير، والجمل القصيرة واضحة الدلالة، كما استخدمت( النمطَ الوصفيَّ) في السرد من خلال التركيز على أمكنة وأزمنة النصوص؛ فنقلتها من الحيِّز الذهنيِّ إلى المحسوس والملموس.. كوصف مسرح الأحداث، ورصد لغة الجسد، ومن وظائف هذا النمط:
استخدام الجمل الزخرفية والتفسيريَّة، والإيهام وكثرة النعوت، والأحوال والصور البيانيِّة التي تغلب عليها الأفعال المضارعة الدِّالة على الحال،والتي تعبر عن الحركة والحيويَّة، وترصد الحالات النفسيَّة كالقلق والحزن والدهشة والخوف، وكان (لنمط السرد الحواري )نصيبًا في أسلوبها في السرد، عن طريق السؤال والجواب، والاستنكار والاستفهام، وقد ينحدر هذا الأسلوب إلى مستوى الثرثرة، أوالهذيان، وقد يرتقي إلى مستوى الهدوء في المناقشات العلميَّة والجدل عند اختلاف الآراء، يتَّصف هذا النمط في السرد، بالتقطُّع، والعبارات القصيرة، وهنا تتَّضح لغة الكاتبة لين، التي تستخدم ضمائرالخطاب، وضميرَي المتكلم ونسبة الكلام لقائله، وتبتعد عن المجاز، وتباين تأويله.
عالجت من خلال هذا الأسلوب قضايا عديدة كالخيانة،والعنوسة والحرية، والاستعباد،واللجوء، ورصدت الأبعاد النفسيَّة، والمجتمعيَّة للشخصيات المتحاورة بتحريك الأحداث، وتشخيص الصراع الدراميِّ، ولم تخلُ بعض نصوصها من (النمط التقريري الإخباري) في السرد الذي يعتمد على دقة المعلومة والصدق والموضوعية في المعالجة عبر تقديم أخبار ووقائع بسقفٍ زمانيٍّ ومكانيٍ محددٍ
تغلب على هذا الأسلوب:
الجمل الإسمية، والأفعال الماضية، وسير الغائب وحروف العطف الدالة على الاستئناف والترتيب.
سرُّ الثلاثيَّات: من الثلاثيَّات التي وردت في القرآن الكريم، وفي قصص الأولين ثلاثياتٌ وردت في سورة سيدنا يوسف
(القمصان ثلاثة) و (الرؤى ثلاث) (ورحلات أخوة يوسف إليه كانت ثلاث) وقد (ورد الحزن على لسان سيدنا يعقوب ثلاثة مرات)
أما عن القمصان الثلاث فإليكم آياتها:
(القميص الأول)
وكان قميص الترحة :
(وجاءوا على قميصه بدمٍ كذبٍ ) أي أنَّ الدم الذي جاء به إخوة يوسف على قميصه عليه السلام لم يكن دم يوسف الذي أكله الذئب كما ادعى إخوته، بل دم شاةٍ ذبحوها، ولطَّخوا قميصه بدمها كذبًا
(القميص الثالث )
وكان قميص الفرحة: ( اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيرًا، وآتوني بأهلكم أجمعين)
أراد سيدنا يوسف إدخال الفرح والسرور على قلب أبيه كما جاء القميص قبلًا بحزنه، وأراد محو خطيئة إخوته؛ فبعثهم بقميصه ليكونوا محسنين، ولما كان في القميص أثرٌ من ريح يُوسفَ، فمجرد أن شمَّه سيدنا يعقوب عليه السلام، ارتدَّ إليه بصره، وزالَ عنه نكد العيش وحزن الرُّوح، لم يكتفِ نبي الله يوسف بكظم الغيظ عمَّن أساء له، حتى رقيَ مرتبة العفو، وما زال يترقَّى يترقَّى حتى وصلَ إلى منزلة الإحسان الذي أشاعه كي يشمل جميع أهله
(القميص الثاني)
الذي توسط القميصَين الأول والثالث كان شاهدًا على العفة:( قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصه قدَّ من قبلٍ فصدقت وهومن الكاذبين وإن كان قميصه قُدَّ من دُبرٍ فكذبت وهو من الصادقين )
لقد جعل الله تعالى للحقِّ وأهله دلالاتٌ، وأماراتٌ تدل عليه، لا يعلمها إلا الخاصة من أهل الله، والبعض الأخرلا يعلمونها، وقد بعث الله الطفل في المهد من أهل امرأة العزيز؛ ليشهدَ ببراءة نبي الله وصفيه بقرينةٍ، وبينةٍ واضحةٍ تردُّ عنه اتهام امرأة العزيز الباطل عندما غلقتِ الأبواب دونه ،وراودته عن نفسها بقولها (هيت لك)
أما عن (الرؤى الثلاث) فهي
( الرؤيَّة الأولى): كانت لسيِّدنا يوسف عليه السلام:
(إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشركوكبًا والشمس والقمررأيتهم لي ساجدين) يوسف/ 4/
(الرؤيَّة الثانية): رؤية صاحبي السَّجن( ودخل معه السَّجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرًا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسيَ خبزًا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين) يوسف/ 36 /
(الرؤيَّة الثالثة) رؤية الملك
( وقال الملك إني أرى سبع بقراتٍ سمانٍ يأكلهن سبعُ عجافٌ وسبعُ سنبلاتٍ خضرٍ وأخرى يابساتٍ يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون) يوسف/43/
أما رحلات أخوة يوسف إليه، ودخولهم عليه قبل أن يعرفوا أنه أخوهم كانت (ثلاثًا) على اختلاف شأنها
" الدخول الأول" على سبيل التعارف والتناكر (وجاء أخوة يوسف فدخلواعليه فعرفهم وهو له منكرون) يوسف/58/
أما "الدخول الثاني" فكان بمثابة اعتراف من سيدنا يوسف لشقيقه دون باقي إخوته أنه أخوه (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك) وكان شقيقه الوحيد من أمه واسمه "بنيامين" وكان اسم أمه راحيل، وفي الوقت نفسه كانت ابنة خال سيدنا يعقوب، إذ كان لسيدنا يعقوب أربع زوجات أنجبن له اثني عشر ابنًا.
أما "الدخول الثالث" فكان بهدف طلب إخوة يوسف منه المساعدة بإعطائهم قمحًا والتصدُّق عليهم بعد أنْ مسَّهم الضُّر( فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضُّرُّ وجئنا ببضاعةٍ مزجَّاةٍ فأوفِ لنا الكيل وتصدَّق علينا إن الله يجزي المتصدقين) 88 يوسف
أما الحزن فقد ورد على لسان سيدنا يعقوب ثلاثًا أيضًا:
الحزن الأول /الآية 13(قال إنه ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) أي أنه (سيحزن لغيبته) ويخاف أن يأكله الذئب أثناء انشغالهم عنه برعي الغنم.
الحزن الثاني /الآية 84( وتولَّى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضَّت عيناه من الحزن وهو كظيم)
سيدنا يعقوب بعد أن أخبره أبناءه أن ابنه "بنيامين" شقيق يوسف قد اتهم بسرقة صواع الملك وتم احتجازه في مصر بجريرة سرقته، ابتعد عن أبنائه وقد اشتد أسفه وازداد أساه إذ فقد بصره من شدة الحزن والبكاء على يوسف..
الحزن الثالث الآية 86 ( قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعملون) لقد اكتفى سيدنا يعقوب بالشكوى لله وحده لأنه كان على يقينٍ بالعلم الذي وهبه الله إيَّ وواثقٌ أن الله سيرد له يوسف وأخاه لتقرَّعينه بأبنائه جميعًا.
وقال الله تعالى عن التأدب في ذكره في الآية 205 من سورة الأعراف:( واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفةٍ ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين) أي التضرع في الدعاء بالاستكانة، ويُكره رفع الصوت أوالنداء والصياح بالدعاء في البكر والعشيَّات
أما عن الثلاثيَّات في الأحاديث النبويَّة؛ فأذكرمنها على سبيل التعداد لا الحصر، قال النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثةٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان
1ـ أن يكون الله ورسوله أحبُّ إليه ممِّن سواه
2ـ وأن يحبَّ المرء، فلا يحبُّ إلا الله
3ـ وأن يكره أن يعود إلى الكفر، كما يكره أن يُقذف في النار(متفق ٌعليه)
حديث آية المنافق ثلاث:
إذا حدَّث كذَّب، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمن خان. (أخرجه مسلم )
وحدَّثنا رسول الله عن ثلاث مُهلكاتٍ وثلاث مُنجياتٍ وثلاث كفّارات، وثلاث درجاتٍ :
أما المهلكات: فشحٌ مطاعٌ، وهوىً متَّبعٌ وعُجب المرء بنفسه...
أما المنجيات: فالعدل في الغضب، والرضا والقصد في الفقر، والغنى وخشية الله تعالى في السرِّ والعلانية
وأما الكفَّارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات أي وقت الأمطار والبرد، ونقل الأقدام إلى الجماعات،أي صلاة الجماعة
وأما الدَّرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السَّلام، والصّلاة في اللَّيل والنَّاس نيام
(رواه الطبراني وحسَّنه الألباني)
أما عن الرجال الثلاثة الذين يكونون في ضمان الله :
فرجلٌ خرج إلى مسجدٍ من مساجد الله عزَّ وجل، ورجلٌ خرج غازيًا في سبيل الله، ورجلٌ خرج حاجًا.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ثلاث دعواتٍ مستجابةً: دعوة الصَّائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر، فإذا سألنا ما السرُّ المشترك بين هؤلاء الثلاث في إجابة الدعاء؛ لأدركناه في كمال التجرُّد لله تعالى، والانقطاع عن الأسباب والخلق، والوثوق والتعلُّق بالله وحده
أما الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه فقال في حكمه:
ثلاثةٌ يوجبنَ المحبَّة:
لدين، والتواضع، والسَّخاء.
وثلاثةٌ تتميِّز بهن المرأة الحقيقيَّة: الفطنة، وسلامة الذوق، والأمومة
قال اين القيم: الجلساء ثلاثة/ الأول كالغذاء: لا بد منه، وهو الجليس الصالح
والثاني: كالدواء نحتاجه في وقتٍ دون آخر: وهو الجليس الذي به بعض صفات السوء، ولكن يُرتجى منه الخير
والثالث كالدَّاء: لا يُحتاج إليه قط، وهوجليس السوء.
أما الرقم/ 3/ في علم الطاقة والفلك؛ فيعدُّ رقمٌ إلهيٌّ يؤكد على أنَّ طاقات الكون تقود رغائبنا في التعبير عن إبداعنا وارتباطنا بالعالم الروحي والقوى الروحية التي تساعدنا في الوصول إلى أهدافنا، ويتمتَّع أصحاب هذا الرقم بالثقة الكبيرة بالنفس كما يرتبط رقم/ 3/ في علم الاعداد بالثروة والمعرفة والسلام والحكمة والوئام، ويتمتَّع بمواهبَ عديدةٍ كالغناء والتمثيل، والرسم ،والطاقته الإبداعية المتجددة غالبًا، ويُعتبر صاحب الرقم ثلاثة من الأشخاص المستنرين، والأساتذة الصاعدين، ولديهم قدرة على التنمية، وصنع الفرح والعقلية الإيجابية المشرقة والقدرة على اختيار الأصدقاء المميزين والنجباء، أمثالي لأني صديقة صاحبة الاسم الثلاثي( لين)
صاحبة كتاب الثلاثيَّات القصصية (مرواغة حلم)
كتاب الثلاثيَّات (مرواغة حلم) تجربة فريدة ومائزة في الأدب الوجيز للقصة القصيرة جدًا للأديبة( لين هاجرالأشعل)
الصادر عن دار أمينة للنشر والتوزيع في القيروان.
بانوراما أدبية
بقلم إيمان فجر السيد
تمت بعون الله
الأحد 24.12.2024